القائمة إغلاق

 تَطْهِيرُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ مِنْ أَدْرَانِ الْبِدَعِ وَالشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ

ذِكْرٌ مًخْتَصَرٌ لْأَشْهَرِ الْأَحْزَابِ ، وَالْفِرَقِ ، وَالْأَدْيَانِ -الْتِي خَالَفَتْ بِعَقَائِدِهَا وَنِحَلِهَا الْبَاطِلَةِ دِيِنَ الْإِسْلَامِ ، وَعَقِيدَةَ أَسْلَافِنَا الْكِرَامِ- وَالرَّدِّ عَلَى أَهَمِّ شُبُهَاتِهِمْ الْتِي افْتَأَتُوا ، وَفَتَنُوا ، وَشَبَّهُوا بِهَا عَلَى العَوَامِّ .

الحلقة (السادسة والستون) :

الفرقة : الإلحادية … (الرد على شبهاتهم في إنكارهم وجود الله … تابع)

بسم الله الرحمن الرحيم

المقال كامل

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :

(مقدمة)

نكمل في هذه الحلقة ما بدأناه في الكلام عن شبهات الملاحدة في إنكارهم وجود الله تعالى ، وكان الكلام في الحلقة السابقة -وحلقتان قبلها- عن : الشبهة الأولى ؛ وهي قولهم : “الْكَوْنُ مَادَّةٌ أَزَلِيَّةٌ قَدِيْمَةٌ” ، أَوْ قولهم : “الْكَوْنُ وُجِدَ صُدْفَةً -أَيْ : بِلَا مُوْجِدٍ- وَيَحْكُمُهُ فِيْ نِظَامِ سَيْرِهِ قَانُوْنُ التَّطَوُّرِ وَالْاِرْتِقَاءِ” ، وتكلمنا فيها عن الفقرتين الأوليين ، وهما قولهم : “الْكَوْنُ مَادَّةٌ أَزَلِيَّةٌ قَدِيْمَةٌ” ، وقولهم : “الْكَوْنُ وُجِدَ صُدْفَةً -أَيْ : بِلَا مُوْجِدٍ- ،

فنقول -إتمامًا لما سبق- :

(3)

أما قولهم : “وَيَحْكُمُهُ -أَيْ : الْكَوْنَ- فِيْ نِظَامِ سَيْرِهِ قَانُوْنُ التَّطَوُّرِ وَالْاِرْتِقَاءِ” ، أو ما يسمى بقانون : “النشوء والارتقاء” ، أو ما يسمى بقانون : “الانتخاب الطبيعي” ، وهذا القانون أحدثه عالم بريطاني اسمه : “دارون” ، و”حاول أصحاب هذه النظرية أن يعللوا بها وجود الأحياء ، وقد شاعت هذه النظرية ، وعمل كثيرون على نشرها بحسن نية ، لظنهم أنها حقيقة علمية ، وعمل آخرون على نشرها بسوء نية ، لأنها وافقت أهواءهم ، فهي تكذب بالأديان التي وصفت خلق الإنسان ، وبذلك يجد الطاعنون في الدين دليلاً من العلم يرتكزون عليه ، ويدلسون على الناس به …” ، وسأكتفي جواباً على هذه الشبهة العليلة بما ذكره الدكتور عمر الأشقر في كتابه “العقيدة في الله” ، فقد أوجز وأجاد في عرض شبهة الملاحدة -هذه- ورد عليها برد قيم ، مختصر ومفيد ؛ حيث : 

·      قال -رحمه الله تعالى- : “تزعم هذه النظرية أن أصل المخلوقات حيوان صغير نشأ من الماء ، ثم أخذت البيئة تفرض عليه من التغييرات في تكوينه ؛ مما أدى إلى نشوء صفات جديدة في هذا الكائن ، أخذت هذه الصفات المكتسبة تورث في الأبناء حتى تحولت مجموع هذه الصفات الصغيرة الناشئة من البيئة عبر ملايين السنين إلى نشوء صفات كثيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقاً أرقى ، واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والارتقاء في المخلوقات ، حتى وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالإنسان ،

أَسَاسُ النَّظَرِيَّةِ :

1)    تعتمد النظرية على أساس ما شوهد في زمن «دارون» من الحفريات الأرضية ، فقد وجدوا أن الطبقات القديمة تحتوي على كائنات أولية ، وأن الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى ، فقال «دارون» : «إن تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والارتقاء من الحيوانات والكائنات الأولى» .

2)    وتعتمد -أيضًا- على ما كان معروفًا في زمن «دارون» من تشابه جميع أجنة الحيوانات في أدوارها الأولى ، فهو يوحي بأن أصل الكائنات واحد ، كما أن الجنين واحد ، وحدث التطور على الأرض كما يحدث في أرحام الكائنات الحية .

3)    كما تعتمد النظرية على وجود الزائدة الدودية في الإنسان ؛ التي هي المساعد في هضم النباتات ، وليس لها -الآن- عمل في الإنسان ؛ مما يوحي بأنها أثر بقي من القرود لم يتطور ؛ لأنها تقوم بدورها في حياة القرود .

 

 

شَرْحُ “دَارْوُنَ” لِعَمَلِيَّةِ التَّطَوِّرِ وَكَيْفَ تَمَّتْ :

1)    الانتخاب الطبيعي : تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة ، والإبقاء على الكائنات القوية ، وذلك ما يسمى بزعمهم بقانون «البقاء للأصلح» ، فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذريته ، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن ، وذلك هو «النشوء» الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى ، وهكذا يستمر التطور ، وذلك هو «الارتقاء» .

2)    الانتخاب الجنسي : وذلك بوساطة ميل الذكر والأنثى إلى التزوج بالأقوى والأصلح ، فتورث بهذا صفات الأصلح ، وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره .

3)    كلما تكونت صفة جديدة ، ورثت في النسل .

تَفْنِيْدُ الْأَسَاسِ الَّذِيْ قَامَتْ عَلَيْهِ النَّظَرِيَّةُ :

علم الحفريات لا يزال ناقصًا ، فلا يدعي أحد أنه قد كمل التنقيب في جميع طبقات الأرض وتحت الجبال والبحار ، فلم يجد شيئًا جديدًا ينقض المقررات السابقة ، وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإن وجود الكائنات الأولى البدائية أولًا ، ثم الأرقى ليس دليلًا على تطور الكائنات الراقية من الكائنات الأدنى ، بل هو دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملاءمة البيئة لوجودها على أي صورة كان هذا الوجود ، وإذا كانت الحفريات في زمن «دارون» تقول : إن أقدم عمر للإنسان هو ستمائة ألف سنة، فإن الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات قد قدرت أن عمر الإنسان يصل إلى عشرة ملايين من السنين ، ولقد كتب الدكتور : «مصطفى شاكر سليم» تعليقًا على كتاب : «الإنسان في المرآة» ؛ للمؤلف : «كلايد كلوكهون» ، حول: «إنسان يناندرتال» ؛ الذي يزعم أنصار نظرية «دارون» أنـه أول إنسـان تطــور من : «القرود»، أو : «الغوريلا» ، فـ:

قال الدكتور مصطفى : ويتصف «إنسان يناندرتال» بالصفات الطبيعية الرئيسة الآتية: مخ أكبر حجمًا من مخ الإنسان المعاصر ، وجمجمة كبيرة عريضة ، إلى أن قال: إلى جانب أن السلسلة التي تغطيها الحفريات مقطعة غير متصلة بما يسمى «الحلقات المفقودة» .

يقول الدكتور «سوريال» في كتابه «تصدع مذهب دارون»:

1)    إن الحلقات المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء ، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فحسب ، فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الوحيدة والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة ، ولا بين الحيوانات الرخوية وبين الحيوانات المفصلية، ولا بين الحيوانات اللافقرية وبين الأسماك والحيوانات البرمائية ، ولا بين الأخير وبين الزحافات والطيور ، ولا بين الزواحف وبين الحيوانات الآدمية ، وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية .

2)    تشابه أجنة الحيوانات : ذلك خطأ كبير وقع فيه بعض العلماء ، نتيجة لعدم تقدم الآلات المكبرة التي تبين التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب ، إلى جانب التزييف الذي قام به واضع صور الأجنة المتشابهة العالم الألماني «أرنست هيكل» ؛ فإنه أعلن -بعد انتقاد علماء الأجنة له- أنه اضطر إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المئة من صور الأجنة لنقص الرسم المنقول .

3)    أما وجود الزائدة الدودية في الإنسان كعضو أثري للتطور القردي فليس دليلًا قاطعًا على تطور الإنسان من القرد ، بل يكون سبب وجودها هو وراثتها من الإنسان الجد الذي كان اعتماده على النباتات ، فخلقت لمساعدته في هضم تلك النباتات ، كما أن العلم قد يكشف أن لها حقيقة لا تزال غائبة عنا حتى اليوم ؛ فالعلم كل يوم إلى ازدياد، وإذا كانت الخنوثة من صفات الكائنات الأولية الدنيا ، والزوجية من خصائص الكائنات الراقية ، فإن الثدي من أمارات الأنوثة ، ونجد الفيل الذكر له ثدي كما للإنسان ، في حين ذكور ذوات الحافر كالحصان والحمار لا ثدي لها إلا ما يشبه أمهاتها ؛ فكيف بقي أثر الخنوثة في الإنسان ، ولم يبق فيما هو أدنى منه ؟! مع أن «دارون» يزعم أن الإنسان تطور مما هو أدنى منه .

تَفْنِيْدُ شَرْحِ دَارْوُنَ لِعَمَلِيَّةِ التَّطَوِّرِ :

1)    يقول «دارون» : إن هناك ناموسًا أو قانونًا يعمل على إفناء الكائنات الحية ، فلا يبقى إلا الأصلح الذي يورث صفاته لأبنائه ، فتتراكم الصفات القوية حتى تكون حيوانًا جديدًا …

حَقا هناك نظام وناموس وقانون يعمل على إهلاك الكائنات الحية جميعها قويها وضعيفها ، لأن الله قدر الموت على كل حي ؛ إلا أن نظامًا وناموسًا يعمل بمقابلة هذا النظام ، ذلك هو قانون التكافل على الحياة بين البيئة والكائن ، لأن الله قدر الحياة فهيأ أسبابها ، فنجد الشمس والبحار والرياح والأمطار والنباتات والجاذبية ، كل هذه وغيرها تتعاون للإبقاء على حياة الإنسان وغيره من الحيوانات ؛ فالنظر إلى عوامل الفناء وغض النظر عن عوامل البقاء يحدث خللا في التفكير ، فإذا كان هناك سنة للهلاك ، فهناك سنة للحياة ، ولكل دور في الحياة ، وإذا كانت الظروف الطبيعية : من رياح ورعد وحرارة وماء وعواصف وغيرها قادرة على تشويه الخلق أو تدمير صنعه ؛ كطمس عين أو تهديهم بناء ، فإنه من غير المعقول أن تقدر هذه الظروف الطبيعية الميتة الجامدة والبليدة أن تنشئ عينًا ، لمن لا يملك عينًا ، أو تصلح بناء فيه نقص .

إن العقل يقبل أن تكون الظروف الطبيعية صالحة لإحداث الخراب والهلاك ، لكنه من غير المعقول أن تكون هذه الظروف صالحة لتفسير الخلق البديع والتصوير والتكوين المنظم المتقن ، إن أي عضو من أعضاء الكائنات الحية قد رسم بإتقان ، وكون بنظام ، ورتبت أجزاؤه بحكمة بالغة محيرة ، ونسق عمله مع غيره في غاية الإبداع ، ومن المحال أن ينسب ذلك الإتقان والنظام البديع إلى خبط الظروف الطبيعية العشواء …

إن هذا المبدأ الذي أطلقه «دارون» : «البقاء للأصلح» قد دمر الحياة البشرية ؛ لأنه أعطى المسوغ لكل ظالم فردًا كان أو حكومة ، لأن الظالم وهو يمارس غصبه وظلمه وحربه ومكره لا يمارس رذائل خلقية ، إنما هو يمارس قانونًا من قوانين الفطرة كما زعم «دارون» ، إنه يمارس قانون «البقاء للأصلح» ، وذلك الزعم هو الذي أعطى حركة الاستعمار كل بشاعتها .

2)    أما : «الانتخاب الطبيعي» الذي يكون به الميل في التناسل بين الأفراد القوية مما سبب اندثار الأفراد الضعاف ، وبقاء الأقوى ، فليس ذلك دليلًا على حدوث تطور في النوع، بل يفهم منه بقاء النوع القوي من النوع نفسه ، واندثار النوع الضعيف .

أما إذا قيل : إن تطورًا يحدث على كائن ما فإنه يحدث فيه فتورًا جنسيًا ؛ لأن الألفة بين الذكور والإناث تنقص بقدر التباعد والاختلاف بينهما في الشكل ، ذلك ما يقوله «دوير زانسكي» أشهر المختصين بالجيولوجية النوعية عام : (1958م) ، بعد قرن من «دارون» ، فـ:

من قوله في هذا : المخالفة في الشكل تضعف الميل التناسلي منه ، فالميل إلى التناسل يضعف بين الأشكال والأنواع المختلفة بقدر ذلك الاختلاف ، وليس صحيحًا أن الصفات المحسنة في فرد من الأفراد تنقل بوساطة الوراثة ؛ فمثلا هذا الحداد القوي العضلات لا تنتقل قوة عضلاته إلى ذريته ، كما أن العالم الغزيز العلم لا ينتقل علمه بالوراثة إلى أبنائه .

3)    أما القول بحدوث نشوء لبعض الخصائص والصفات العارضة ، ثم توريثها في النسل ، فذلك ما يرفضه علم الوراثة الحديث ؛ فكل صفة لا تكمن في الناسلة ، ولا تحتويها صبغة من صبغاتها فهي صفة عارضة، لا تنتقل إلى الذرية بالوراثة .

يقول الأستاذ «نبيل جورج» -أحد ثقات هذا العلم- : إن الانتخاب الطبيعي لأجل هذا لا يصلح لتعليل مذهب النشوء ، أو مذهب التطور ؛ لأنه يعلل زوال غير الصالح ونشأة المزايا الموروثة بين الأفراد ، والقائلون بالطفرة يقصدون أن الحيوان الذي لم يكن له عين تتكون له العين فجأة بوساطة بعض الأشعة ؛ فقد ثبت لدى المختصين أن الأشعة السينية تغير العدد في الناسلات ، لكن أثر الأشعة تغيير لما هو موجود ، لا إنشاء ما ليس له وجود ، فعدد ناسلات القرد غير عدد ناسلات الإنسان ، والأشعة لا تؤثر إلا في الناسلات الموجودة فضلًا من أن تحدث هذه الأشعة التي لا عقل لها ولا إدراك عقلًا للإنسان يتميز به عن القرد وغيره من سائر الحيوانات ، إن الأشعة تؤثر في الناسلات تأثيرًا أقرب إلى التشويه منه إلى الإصلاح كما يحدث من الأشعة الذرية ، وإلى جانب مخالفة علم الوراثة لنظرية «دارون» فإن التجربة تنقضه ؛ فهاهم اليهود والمسلمون من بعدهم يختنون أبناءهم ، ولكن ذلك كله لم يسبب أن ولد أطفالهم بعد مرور السنين مختونين ، وهكذا فكلما تقدم العلم أثبت بطلان نظرية «دارون» .

النَّظَرِيَّةُ لَا يُؤَيِّدُهَا الْوَاقِعُ الْمُشَاهَدُ :

1)    لو كانت النظرية حقًا لشاهدنا كثيرًا من الحيوانات والإنسان تأتي إلى الوجود عن طريق التطور ، لا عن طريق التناسل فقط ، وإذا كان التطور يحتاج إلى زمن طويل فذلك لا يمنع من مشاهدة قرود تتحول إلى آدميين في صورة دفعات متوالية .

2)    لو سلمنا أن الظروف الطبيعية والانتخاب الطبيعي قد طورت قردًا إلى رجل -مثلًا- فإنا لن نسلم أبدًا بأن هذه الظروف قد قررت -أيضًا- أن تكون امرأة لذلك الرجل ، ليستمرا في التناسل والبقاء مع الموازنة بينهما .

3)    إن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات -كالحرباء التي تتلون بحسب المكان- هي مقدرة كائنة في تكون المخلوقات ، تولد معها ، وهي عند بعضها وافرة ، وعند بعضها الآخر تكاد تكون معدومة ، وهي عند جميع المخلوقات محدودة ، لا تتجاوز حدودها ؛ فالقدرة على التكيف صفة كامنة ، لا صفة متطورة ؛ تكونها البيئة -كما يزعم أصحاب النظرية- وإلا كانت البيئة فرضت التكيف على الأحجار والأتربة وغيرها من الجمادات .

4)    تمتاز الضفادع على الإنسان بمقـدرة عـلى الحـياة فـي البـر والـماء ، كمـا تمـتاز الطـيور عليـه

بمقدرة الطيران والانتقال السريع وذلك بدون آلة ، كما أن أنف الكلب أشد حساسية من أنف الإنسان ، فهل أنف الكلب أكثر رقيًا من أنف الإنسان ؟ وهل الضفادع والطيور أرقى من الإنسان في بعض الجوانب ؟ كما أن عين الجمل أو الحصان أو الحمار ترى في النهار وفي المساء على السواء ، في حين تعجز عين الإنسان عن الرؤية في الظلا م، كما أن عين الصقر أشد حدة من عين الإنسان ؛ فهل الصقر أو الحمار أرقى من الإنسان ؟

وإذا أخذنا الاكتفاء الذاتي أساسًا للرقي كما هو بالنسبة لحال الدول فإن النبات يفوق الإنسان وجميع الحيوانات ، لأنه يصنع طعامه وطعام غيره دون أن يحتاج لغذاء من غيره.

وإذا أخذنا الضخامة أساسًا للرقي ، عندئذ يجب أن يكون الجمل والفيل وحيوانات ما قبل التاريخ الضخمة أرقى من الإنسان.

مَوْقِفُ عُلَمَاءِ الطَّبِيْعَةِ مِنَ النَّظَرِيَّةِ :

1)    المؤيدون للنظرية وتأييدهم كان أكثره انتصارًا لحرية الفكر الذي كانت الكنيسة تحاربه وتقاومه ، فقد شن علماء الطبيعة حربًا ضد قسس الكنيسة وأفكارهم بعد أن نشبت حرب طاحنة بين الفريقين .

2)    المعارضون ، وهم المطالبون بدليل محسوس على فعل «الانتخاب الطبيعي» في تحويل الأنواع -ولا سيما نوع الإنسان- فالمعترضون عليه طلبًا للأدلة الطبيعية لا يقلون عددًا أو اعتراضًا عن المعترضين اللاهوتيين في أوربا .

وهذه بعض آراء العلماء المعارضين كما نقلها الأستاذ إبراهيم حوراني : إن العلماء لم يثبتوا مذهب «دارون» ، بل نفوه ، وطعنوا فيه ، مع علمهم أنه بحث فيه عشرين سنة، ومنهم :

العلامة «نشل» ، والعلامة «دلاس» ، قالا ما خلاصته : إن الارتقاء بالانتخاب الطبيعي لا يصدق على الإنسان ، ولا بد من القول بخلقه رأسًا .

ومنهم «فرخو» قال : إنه يتبين لنا من الواقع أن بين الإنسان والقرد فرقا بعيدًا ، فلا يمكننا أن نحكم بأن الإنسان سلالة قرد أو غيره من البهائم ، ولا يحسن أن نتفوه بذلك.

ومنهم «ميفرت» قال -بعد أن نظر في حقائق كثيرة من الأحياء- : إن مذهب «دارون» لا يمكن تأييده ، وإنه من آراء الصبيان .

ومنهم العلامة «فون بسكون» قال -بعد أن درس هو و «فرخو» تشريح المقابلة بين الإنسان والقرد-:  إن الفرق بين الاثنين أصلي وبعيد جدًا … .

ومنهم العلامة «أغاسيز» قال -في رسالة في أصل الإنسان تليت في ندوة العلم الفيكتورية- ما خلاصته : إن مذهب «دارون» خطأ على باطل في الواقع ، وأسلوبه ليس من العلم في شيء ، ولا طائل تحته …

وهكذا فرض التعليم الاستعماري هذه النظرية بعد أن حطم دينها في مناهج الدراسة ، وقدمها في ثوب علمي ؛ حتى يستطيع أن يقنع الطلاب بصدق هذه النظرية ليقرر ما ألقي في أذهان الطلاب من خلاف بين العلم الذي زيفوه والدين ، فيكفر الناس بدينهم ، ويكفي أن يعرف القارئ أنه بوساطة هذه النظرية انحرف كثير من أبناء الإسلام عن دينهم ، ولذلك فقد حرص الاستعمار على تعليم هذه النظرية لأبناء المسلمين في مدارسنا في الوقت الذي يحرم فيه القانون الأمريكي تعليم هذه النظرية في المدارس منذ سنة : (1935م) .

ولكن أوربا بعد أن قضت على دينها المحرف عادت لتعلن أن نظرية «دارون» التي استخدمتها في المعركة لدعم موقفها ليست حقيقة علمية ، وإنما هي نظرية كلما تقدمت العلوم كشفت عن باطلها .

الْقُرْآنُ وَنَظَرِيَّةُ دَارُوْنَ :

حين يتكلم القرآن في الحقائق الأزلية فعلى الناس أن يصغوا وينصتوا ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ [الأعراف: 204] ، لأنه من العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما، وما علم الإنسان !‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ إنه لا شيء بجانب علم الله ﴿وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ٢١٦ [البقرة: 216] ، وكيف لا يعلم أمر خلقه وهو الذي خلقهم ﴿أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ١٤[الملك: 14] ، وكيف يسمح الناس لأنفسهم أن يتحدثوا عن أصلهم البعيد وهم لم يشهدوا ذلك الخلق  ﴿مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ[الكهف: 51] ، وما داموا لم يشهدوا ، فإن صوابهم في هذا المجال قليل ، وخطؤهم كثير .

عَكْسُ هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ هُوَ الصَّوَابُ :

الذي يقرره العليم الخبير خالق الإنسان مخالف تماما لما قرره هؤلاء الجاهلون ، فالله يخبرنا أنه خلق الإنسان خلقا مستقلًا مكتملًا ، وقد أخبر ملائكته بشأن خلقه قبل أن يوجده ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ[البقرة: 30] ، وحدثنا عن المادة التي خلقه منها ؛ فقد خلقه من تراب ﴿فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ[الحج: 5].

وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ : جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ ، وَالْأَبْيَضُ ، وَالْأَسْوَدُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَالسَّهْلُ ، وَالْحَزْنُ ، وَالْخَبِيثُ ، وَالطَّيِّبُ»[1]، والماء عنصر في خلق الإنسان ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ[النور: 45] ، فهو من ماء وتراب : ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ [الأنعام: 2] ، هذا الطين تحول إلى صلصال كالفخار ﴿خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ١٤[الرحمن: 14] ، وقد خلقه الله بيديه ﴿قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ [ص: 75] ، وقد خلقه مجوفًا منذ البداية ، ففي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لَمَّا صَوَّرَ اللهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ»[2]، هذا الطين نفخ الله فيه من روحه ، فدبت فيه الحياة ، فأصبح سميعا بصيرًا متكلمًا عاقلًا واعيًا ، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم حين ينفخ فيه الروح ، وتدب فيه الحياة ﴿فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ٧٢[ص: 72] ، وأخبرنا الله بالمكان الذي أسكنه فيه بعد خلقه ﴿وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ [البقرة: 35] ، وبمجرد أن تم خلقه أخذ يتكلم ويفقه ما يقال له ، ففي القرآن ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِ‍ُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ٣١ قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ٣٢ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ[البقرة: 31-33] ،

وفي حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ ، فَقَالَ : الحَمْدُ لِلَّهِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ : رَحِمَكَ اللَّهُ يَا آدَمُ ، اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ ، إِلَى مَلَإٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ ، فَقُلْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، قَالُوا : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ … »[3]، هذا الإنسان الأول هو آدم وهو أبو الناس كافة ، وخلق الله من آدم زوجه حواء ، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا[النساء: 1] .

ولم يكن خلق الإنسان ناقصًا ثم اكتمل ، كما يقول أصحاب نظرية التطور ؛ بل كان كاملًا ، ثم أخذ يتناقص الخلق ، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا»  ، ولذلك فالمؤمنون يدخلون الجنة مكتملين على صورة آدم ، ففي بقية الحديث السابق : «فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا» ، ثم يقول صلى الله عليه وسلم : «فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ»[4].

وقد أخبرنا الحق أنه مسخ بعض الضالين من البشر قردة وخنازير ، فالمستوى الراقي من الخلق يمكن أن ينحدر إلى المستوى الأدنى ، أما أن تحول القرود والخنازير بشرًا فهذا لا يوجد إلا عند أصحاب العقول الضعيفة .

هذه لمحة مما حكاه القرآن وأخبرت به الأحاديث عن خلق الإنسان الأول ، لم نستقص النصوص من الكتاب والسنة في ذلك ، وإلا فالقول في ذلك أوسع وطويل ، وهو يعطي صورة واضحة لأصل الإنسان ليس فيها غبش ولا خيال ، وهذا الذي يبينه الإسلام أصل كريم يعتز الإنسان بالانتساب إليه ، أما ذلك الإنسان الذي يصوره أصحاب نظرية التطور ، ذلك القرد الذي ترقى عن فأر أو صرصور فإنه أصل يخجل الإنسان من الانتساب إليه .

وذلك الإنسان الذي يدرسه علماء التاريخ للأطفال : الإنسان المتوحش الذي لا يفقه الكلام ، ولا يحسن صنع شيء، الذي يتعلم من الحيوان … ، فيه الكثير من التجني على أصل الإنسان الكريم .

وبعد:

فقد آن أن نفيق وأن نعود إلى ديننا الذي جاء به كتاب ربنا ، ففيه الخير «فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالهَزْلِ ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ …»[5].

آن لنا أن نعف عن نتاج العقول الآسنة المتعفنة في مثل هذه المجالات ، أعني المجالات التي قال الله فيها كلمة الفصل ، ولم يترك لأحد فيها قولًا .

يجب أن تتوقف هذه الهزيمة الفكرية التي تجعلنا نسارع إلى قبول كل جديد بدون روية وتفكر ، ثم لا نفيق على خطأ ما أخذناه إلا بعد أن يهدمه بناته”[6]،

نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله تعالى .



(1) رواه أبو داوود (4693) .

(2) رواه مسلم (6742) .

(3) رواه الترمذي (3368) .

(4) رواه البخاري (3326) ، ومسلم (7265) .

(5) رواه الترمذي (2906) .

(6) العقيدة في الله ، ص : (83-96) ، مع جزء من المقدمة .

%d مدونون معجبون بهذه: