القائمة إغلاق

 عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .

تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …

الحلقة (40)

المقال كامل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :

ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ فَرَقَّ دِيْنُهُمْ .

فَالْأَخْلَاقُ حِصْنُ الدِّيْنِ ، وَسِيَاجُهُ الْمَنِيْعُ ، وَعِنْدَ ضَعْفِهَا -أَوْ فُقْدَانِهَا- يَقِلُّ وَيَضْعُفُ الْإِيْمَانُ ، وَقَدْ يَنْعَدِمُ ، وَرُكْنُ الدِّيْنِ قَدْ يَنْهَدِمُ ،

وَفِيْ هَذِهِ الْحَلْقَةِ -وَحَلْقَاتٍ تَالِيَةٍ بِإِذْنِ اللهِ- سَوْفَ نَذْكُرُ مَجْمُوْعَةً مِنَ الْأَخْلَاقِ قَدْ ضَعَفُتْ -أَوِ اِنْعَدَمَتْ- عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ فَرَقَّ دِيْنُهُمْ ، وَتَبَدَّلَتْ أَحْوَالُهُمْ ، وَعِنْدَهَا اِنْهَالَتْ عَلَيْهِمْ الْكَوَارِثُ وَالْأَدْوَاءُ وَالْكُرُوْبُ ، فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى عَلَّامِ الْغُيُوْبِ ، فَـ:  

مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ :

(1)

خُلُقُ الْحَيَاءِ ،

فَمَنِ اِنْعَدَمَ حَيَاؤُهُ ، وَلَمْ يَسْتَحِ مِنْ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ : صَفُقَ وَجْهُهُ ، وَقَبُحَ فِعْلُهُ ، وَسَاءَتْ أَخْلَاقُهُ ، يَصْنَعُ مَا يَشَاءُ بِمَا يُمْلِيْهِ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ وَهَوَاهُ ، لَا وَازِعَ يَزَعُهُ ، وَلَا رَادِعَ يَرْدَعُهُ ، شَهْوَانِيٌّ إِبَاحِيُّ ، فَاجِرٌ مَاجِنٌ ، عَاهِرٌ فَاحِشٌ ، فَاسِقٌ سَافِلٌ ، نَجِسٌ وَقِحٌ ، بَذِيْءٌ جَرِيْءٌ ، مُنْحَلٌّ مُتَبَذِّلٌ مُتَهَتِّكٌ ، ذُوْ خَلاَعَةِ وَدَعَارَةٍ ، دَيُّوْثٌ ؛ لَا يَغَارُ عَلَى أَهْلِهِ ، وَلَا مَنْ هُمْ تَحْتَ يَدِهِ ، سَطَا عَلَى مَحَارِمِ اللهِ وَحُدُوْدِهِ فَانْتَهَكَهَا ، وَإِلَى الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ فَأَشَاعَهَا ، وَجَاهَرَ بِهَا ، بَلْ وَاسْتَحَلَّهَا ، وَإِلَى الشَّرِيْعَةِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ، وَلَمْ يَتَحَاكَمْ إِلَيْهَـــا ، بَلْ وَبَدَّلَهَا ، وَإِلَى النُّصُوْصِ الشَّرْعِيَّةِ -الْمُخَالِفَةِ لِهَوَاهُ- فَأَخْفَاهَا ، أَوْ حَرَّفَهَا ، أَوْ شَكَّكَ بِهَا ، لَا يَسْتَمِعْ إِلَى نُصْحِ النَّاصِحِيْنَ ، وَلَا إِرْشَادِ الْمُرْشِدِيْنَ ، جُلَّاسُهُ وَأَقْرَانُهُ مِنْ أَمْثَالِهِ ، يُحِبُّ أَعْدَاءَ اللهِ وَيَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ، وَيَكْرَهُ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَنِ وَيُوْشِي بِهِمْ ، هَمُّهُ الدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا ، قَدْ تَنَاسَى الْآخِرَةَ وَأَهْوَالَهَا ، فَهَذَا إِنْ مَاتَ عَلَى غَيِّهِ مَاتَ غَيْرَ مُكَرَّمٍ ، كَجِيَفِ الْحَيَوَانِ ، بَلْ أَسْوَأَ .

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَالْأَمْرُ فِيْ شَأْنِهَا أَدْهَى وَأَشَدُّ وَأَنْكَى ، فَلَمَّا خَلَعْتْ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ ، وَغِطَاءَ الْعَفَافِ ، وَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا وَسِتْرِهَا اِسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ ، وَزَيَّنَهَا فِيْ نَظَرِ الذِّئَاِب مِنَ الرِّجَالِ ، فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُمْ سِلْعَةً مُهَانَةً ؛ يُقَلِّبُوْنَهَا كَيْفَمَا أَرَادُوْا ، وَأُلْعُوْبَةً يَلْعَبُوْنَ بِهَا مَتَى مَا شَاؤُوْا ، وَزِيْنَةً يُزَيِّنُوْنَ بِهَا مَتَاجِرَهُمْ ، وَمُسْتَشْفَيَاتِهِمْ ، وَمَكَاتِبَهُمْ ، وَبَضَائِعَهُمْ ، وَقَنَوَاتِهِمْ ، وَإِعْلَانَاتِهِمْ ، فَإِذَا كَبِرَتْ سِنُّهَا رَمَوْهَا -غَيْرَ مُكَرَّمَةٍ- كَمَا تُرْمَى الْقُمَامَةُ ؛ هَانَتْ -لَمَّا بَاعَتْ حَيَاءَهَا- فَأَهَانَهَا اللهُ ، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ[الحج: 18] .

·      عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ”[1].

·      وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : “الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ فِي قَرْنٍ ؛ فَإِذَا انْتُزِعَ أَحَدُهُمَا تَبِعَهُ الْآخَرُ” [2].

·      وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : “إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ عَبْدًا ، نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمَقَّتًا ، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمَقَّتًا ، نُزِعَتْ مِنْهُ الْأَمَانَةُ ، فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الْأَمَانَةُ ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا خَائِنًا مُخَوَّنًا ، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا خَائِنًا مُخَوَّنًا ، نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ ، فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا رَجِيمًا مُلَعَّنًا ، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا رَجِيمًا مُلَعَّنًا ، نُزِعَتْ مِنْهُ رِبْقَةُ الْإِسْلَامِ”[3].   

·      قَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : ” وَالْحَيَاءُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَيَاةِ ، وَالْغَيْثُ يُسَمَّى حَيَا -بِالْقَصْرِ- لِأَنَّ بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالدَّوَابِّ ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ بِالْحَيَاءِ حَيَاةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَمَنْ لَا حَيَاءَ فِيهِ فَهُوَ مَيِّتٌ فِي الدُّنْيَا شَقِيٌّ فِي الْآخِرَةِ ، وَبَيْنَ الذُّنُوبِ وَبَيْنَ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ الْغَيْرَةِ تَلَازُمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَدْعِي الْآخَرَ وَيَطْلُبُهُ حَثِيثًا ، وَمَنِ اسْتَحَى مِنَ اللَّهِ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ اسْتَحَى اللَّهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَحِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ لَمْ يَسْتَحِ اللَّهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ”[4].

·       وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ -أَيْضًا- : “ثُمَّ تَأَمَّلْ هَذَا الْخلُقَ الَّذِي خَصَّ بِهِ الْإِنْسَانَ دُوْنَ جَمِيْعَ الْحَيَوَانِ ، وَهُوَ خُلُقُ الْحيَاءِ ؛ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَخْلَاقِ وَأَجَلِّهِا ، وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا ، وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا ، بَلْ هُوَ خَاصَّةُ الْإِنْسَانِيَّةِ ؛ فَمَنْ لَا حَيَاءَ فِيْهِ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَصُوْرَتُهُمَا الظَّاهِرَةُ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ”[5].

وَبَعْدُ :

فَيَا أَيُّهَا الْغُرَبَاءُ الْمُوَحِّدُوْنَ ، الْحَيَاءَ الْحَيَاءَ !!

تَشَبَّثُوْا بِهَذَا الْخُلُقِ الرَّفِيْعِ فِيْ أَزْمِنَةِ الْفِتَنِ -وَفِيْ غَيْرِهَا- قَوْلًا وَفِعْلًا ، أَدَبًا وَتَأْدِيْبًا ، فَمَنْ أَرَادَ الْحَيَاةَ الطَّيْبَةَ الْهَانِئَةَ -هُوَ وَأَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ- فَلْيَسْتَحِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ ؛ لِيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى ، وَالْبَطْنَ وَمَا وَعَى ، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِـــــرَةَ ، تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ[6].

والبقية في الحلقات التالية إن شاء الله .

 


 


 

(1) رواه الترمذي (1974) .

(2) رواه البخاري في الأدب المفرد (1313) .

(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/204) .

(4) الداء والدواء ، ص : (69-70) .

(5) مفتاح دار السعادة (1/277) .

(6) يروى فيه حديث عند أحمد (3671) ، لكن فيه ضعف .

%d مدونون معجبون بهذه: