القائمة إغلاق

عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .

تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …

الحلقة (42)

نسخة رقمية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :

ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ فَرَقَّ دِيْنُهُمْ … (تابع)

(3)

خُلُقُ الصِّدْقِ ،

وَأَنْعِمْ بِهِ مِنْ خُلُقٍ ، خُلُقٌ كَرِيْمٌ لَا يَسْتَطِيْعُهُ وَيَقُوْمُ بِهِ -كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى ، وَرَسُوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا عُظَمَاءُ الرِّجَالِ وَأَصْفِيْاؤُهُمْ ، فَـ{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[الأحزاب: 23] ،

وَالْكَذَّابُوْنَ هُمْ أَرَاذِلُ الْخَلْقِ وَسُفَهَاؤُهُمْ ، خَرَّاصُوْنَ خَدَّاعُوْنَ مُنَافِقُوْنَ ، كَذَبُوْا عَلَى اللهِ الْعَزِيْزِ الْعَلِيْمِ ، وَعَلَى رَسُوْلِهِ الْمُصْطَفَى الْأَمِيْنِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَذَبُوْا عَلَى الْخَلْقِ وَبَالَغُوْا ، وَعَلَى أَهْلِيْهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ وَخَادَعُوْا ؛ اِتَّخَذُوْا الْكَذِبَ بِضَاعَةً لَهُمْ وَمَطِيَّةً ؛ لِتَنْفِيْقِ الْبَاطِلِ وَتَسْوِيْقِهِ- بَيْنَ الْأَنَامِ ، تَقَيَّؤُوْا كَذِبَاتِهِمْ حَتَّى بَلَغَتِ الْآفَاقَ ، عَبْرَ الصُّحُفِ وَوَسَائِلِ الْإِعْلَامِ ، وَبَيْنَ الْفِئَامِ الْكَثِيْرِ مِنَ النَّاسِ ،

قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيْهِمْ -وَفِيْ أَمْثَالِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْكَذَبَةِ اللِّئَامِ- : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}[الصف:7] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النحل:105] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُون}[يونس:60] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُون * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُون}[يونس:69-70] ،

وَمَا جَاءَ جَزَاءُ الْكَذَبَةِ الشَّدِيِدِ -فِيْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا- إِلَّا لِأَنَّ “الْكَذِبَ مُتَضَمِّنٌ لِفَسَادِ الْعَالَمِ ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَامُ الْعَالَمِ عَلَيْهِ -لَا فِيْ مَعَاشِهِمْ وَلَا فِيْ مَعَادِهِمْ- بَلْ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِفَسَادِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، وَمَفَاسِدُ الْكَذِبِ اللَّازِمَةِ لَهُ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ خَاصَّةِ النَّاسِ وَعَامَّتِهِمْ ؛ كَيْفَ وَهُوَ مَنْشَأُ كُلِّ شَرٍّ ، وَفَسَادُ الْأَعْضَاءِ لِسَانٌ كَذُوْبٌ ، وَكَمْ قَدْ أُزِيْلَتْ بِالْكَذِبِ مِنْ دُوَلٍ وَمَمَالِكٍ ، وَخَرِبَتْ بِهِ مِنْ بِلَادِ ، وَاسْتُلِبَتْ بِهِ مِنْ نِعَمٍ ، وَتَعَطَّلَتْ بِهِ مِنْ مَعَايِشَ ، وَفَسَدَتْ بِهِ مَصَالِحُ ، وَغُرِسَتْ بِهِ عَدَاوَاتٌ ، وَقُطِّعَتْ بِهِ مَوَدَّاتٌ ، وَافْتَقَرَ بِهِ غَنِيٌّ ، وَذَلَّ بِهِ عَزِيزٌ ، وَهُتِكَتْ بِهِ مَصُوْنَةٌ ، وَرُمِيَتْ بِهِ مُحْصَنَةٌ ، وَخَلَتْ بِهِ دُوْرٌ وَقُصُوْرٌ ، وَعُمِّرَتْ بِهِ قُبُوْرٌ ، وَأُزِيْلَ بِهِ أُنْسٌ ، وَاسْتُجْلِبَتْ بِهِ وَحْشَةٌ ، وَأُفْسِدَ بِهِ بَيْنَ الْاِبْنِ وَأَبِيْهِ ، وَغَاضَ بَيْنَ الْأَخِ وَأَخِيْهِ ، وَأَحَالَ الصَّدِيْقُ عَدُوًّا مُبِيْنًا ، وَرَدَّ الْغَنِيُّ الْعَزِيْزُ مِسْكِيْنًا ، وَكَمْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَبِيْبِ وَحَبِيْبِهِ ؛ فَأَفْسَدَ عَلَيْهِ عِيْشَتَهُ ، وَنَغَّصَ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ ، وَكَمْ جَلَا عَنِ الْأَوْطَانِ ، وَكَمْ سَوَّدَ مِنْ وُجُوْهٍ ، وَطَمَسَ مِنْ نُوْرٍ ، وَأَعْمَى مِنْ بَصِيْرَةٍ ، وَأَفْسَدَ مِنْ عَقْلٍ ، وَغَيَّرَ مِنْ فِطْرَةٍ ، وَجَلَبَ مِنْ مَعَرَّةٍ ، وَقُطِّعَتْ بِهِ السُّبُلُ ، وَعَفَتْ بِهِ مَعَالِمُ الْهِدَايَةِ ، وَدَرَسَتْ بِهِ مِنْ آثَارِ النُّبُوَّةِ ، وَخَفِيَتْ بِهِ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِيْ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ،،،

وَهَذَا -وَأَضْعَافُهُ- ذَرَّةٌ مِنْ مَفَاسِدِهِ ، وَجَنَاحُ بَعُوْضَةٍ مِنْ مَضَارِّهِ وَمَصَالِحِهِ ، أَلَا فَمَا يَجْلِبُهُ مِنْ غَضَبِ الرَّحْمَنِ ، وَحِرْمَانِ الْجِنَانِ ، وَحُلُوْلِ دَارِ الْهَوَانِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَلْ مُلِئَتْ الْجَحِيْمُ إِلَّا بِأَهْلِ الْكَذِبِ الْكَاذِبِيْنَ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُوُلِهِ ، وَعَلَى دِيْنِهِ ، وَعَلَى أَوْلِيَائِهِ الْمُكَذِّبِيْنَ بِالْحَقِّ ؛ حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً جَاهِلِيَّةً ، وَهَلْ عُمِّرَتِ الْجِنَانُ إِلَّا بِأَهْلِ الصِّدْقِ الصَّادِقِيْنَ الْمُصَدِّقِيْنَ بِالْحَقِّ ؛ قَالَ تَعَالَى : {فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله وَكذب بِالصّدقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدّق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون * لَهُم مَا يشاؤن عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ}[الزمر:32-34]، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالُ الْكَذِبِ وَالصِّدْقِ فَمَنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ دَعْوَى تَسَاوِيْهِمَا …

وَلَو ذَهَبْنَا نُعَدِّدُ قَبَائِحَ الْكَذِبِ النَّاشِئَةَ مِنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَزَادَتْ عَنِ الْأَلْفِ ، وَمَا مِنْ عَاقِلٍ إِلَّا وَعِنْدَهُ الْعِلْمُ بِبَعْضِ ذَلِكَ ؛ عِلْمًا ضَرُورِيًّا ، مَرْكُوْزًا فِيْ فِطْرَتِهِ ؛ فَمَا سَوَّى اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّدْقِ أَبَدًا ، وَدَعْوَى اِسْتِوَائِهِمَا ؛ كَدَعْوَى اِسْتِوَاءِ النُّوْرِ وَالظُّلْمَةِ ، وَالْكُفْرِ وَالْإِيْمَانِ ، وَخَرَابِ الْعَالَمِ وَإِهَلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَعَمَارَتِهِ ، بَلْ كَدَعْوَى اِسْتِوَاءِ الْجُوْع ِوَالشِّبَعِ ، وَالرِّيِّ وَالظَّمَأِ ، وَالْفَرَحِ وَالْغَمِّ …”[1].

فَـ:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين}[التوبة:119] ، “فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا”[2].

 نكمل في الحلقات التالية إن شاء الله .


(1) مفتاح دار السعادة ؛ لابن القيم (2/73-74) .

(2) رواه مسلم (6732) .

%d مدونون معجبون بهذه: