القائمة إغلاق

تَطْهِيرُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ مِنْ أَدْرَانِ الْبِدَعِ وَالشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ

ذِكْرٌ مًخْتَصَرٌ لْأَشْهَرِ الْأَحْزَابِ ، وَالْفِرَقِ ، وَالْأَدْيَانِ -الْتِي خَالَفَتْ بِعَقَائِدِهَا وَنِحَلِهَا الْبَاطِلَةِ دِيِنَ الْإِسْلَامِ ، وَعَقِيدَةَ أَسْلَافِنَا الْكِرَامِ- وَالرَّدِّ عَلَى أَهَمِّ شُبُهَاتِهِمْ الْتِي افْتَأَتُوا ، وَفَتَنُوا ، وَشَبَّهُوا بِهَا عَلَى العَوَامِّ .

الحلقة (التاسعة والستون) :

الفرقة : الإلحادية … (دواء وعلاج)

نسخة رقمية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :

(مقدمة)

سنتكلم في هذه الحلقة والتي تليها -إن شاء الله- عن الدواء والعلاج المقترح لمن أصيب بمرض شبهات هذه الفرقة الإلحادية ، ونختمه بالتحصينات الشرعية المقترحة لأهل الإيمان ، ومن يحوم عليهم الشيطان لتشكيكهم بربهم الملك الديان ، فنقول وبالله التوفيق ، وعليه التكلان :

(1)

الدَّوَاءُ وَالْعِلَاجُ الْمُقْتَرَحُ لِمَنْ أُصِيْبَ بِمَرَضِ شُبُهَاتِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الْإِلْحَادِيَّةِ

قد ذكرت في مقدمة هذه الحلقات المتعلقة بالفكر الإلحادي المسموم أنه : “لا بد من الاستعجال في علاج المصابين به ، بجميع السبل المشروعة المتاحة ، ونشره بين الناس على نطاق واسع” ، ومن هذه السبل المشروعة المتاحة :

      أَوَّلًا : إِزَالَةُ الْمُعَوِّقَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ الْمُلْحِدِيْنَ مِنْ قَبُوْلِ الْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ لِنِزَاعِهِمْ ، ومن هذه المعوقات : الجهل ، والغفلة ، والعزلة ، والكبر ، واتباع الهوى ، والغلو في تحكيم العقل حتى لو خالف النقل ، والتقليد الأعمى ، والإنبهار بحضارات أهل الدنيا ،

·      قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “فصل : في طريقتي العلم والعمل ، قال الله تعالى لموسى وهارون : {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:44] ، وقال في السورة بعينها : {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}[طه:99] ، إلى قوله : {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}[طه:113] ، فذكر في كل واحدة من الرسالتين العظيمتين -رسالة موسى ورسالة محمد- أن ذلك لأجل التذكر أو الخشية ، ولم يقل : ليتذكر ويخشى ، ولا قال : ليتقون ويحدث لهم ذكرا ؛ بل جعل المطلوب أحد الأمرين ، وهذا مطابق لقوله : {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النحل:125] ، ونحو ذلك ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ» ، وذلك يرجع إلى تحقيق قوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7] ، وقوله : {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:3] ، وقوله : {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}[ص:45] ، وقوله : {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة:5] ، وقوله : {إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ}[القمر:47] ، وقوله :{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} الآية [طه:124] ، ونحو ذلك … ، فالعلم بالحق يوجب اتباعه إلا لمعارض راجح : مثل اتباع الهوى ؛ بالاستكبار ، ونحوه ؛ كحال الذين قال الله فيهم : {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}[الأعراف:146] ، وقال : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}[النمل:14] ، وقال :{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33] ، ولهذا قال : {يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص:26] ، ونحو ذلك ؛ فإن أصل الفطرة التي فطر الناس عليها إذا سلمت من الفساد إذا رأت الحق اتبعته وأحبته ؛ إذ الحق نوعان : حق موجود ؛ فالواجب معرفته ، والصدق في الإخبار عنه ، وضد ذلك الجهل والكذب ، وحق مقصود ؛ وهو النافع للإنسان ؛ فالواجب إرادته والعمل به ، وضد ذلك إرادة الباطل واتباعه ، ومن المعلوم أن الله خلق في النفوس محبة العلم دون الجهل ، ومحبة الصدق دون الكذب ، ومحبة النافع دون الضار ، وحيث دخل ضد ذلك فلمعارض من هوى، وكبر ، وحسد ونحو ذلك ؛ كما أنه في صالح الجسد خلق الله فيه محبة الطعام والشراب الملائم له دون الضار فإذا اشتهى ما يضره أو كره ما ينفعه فلمرض في الجسد ، وكذلك -أيضًا- إذا اندفع عن النفس المعارض من الهوى والكبر والحسد وغير ذلك : أحب القلب ما ينفعه من العلم النافع والعمل الصالح ؛ كما أن الجسد إذا اندفع عنه المرض أحب ما ينفعه من الطعام والشراب ؛ فكل واحد من وجود المقتضي وعدم الدافع : سبب للآخر ، وذلك سبب لصلاح حال الإنسان ، وضدهما سبب لضد ذلك ؛ فإذا ضعف العلم غلب الهوى الإنسان ، وإن وجد العلم والهوى وهما المقتضي والدافع فالحكم للغالب ، وإذا كان كذلك فصلاح بني آدم الإيمان والعمل الصالح ، ولا يخرجهم عن ذلك إلا شيئان : أحدهما : الجهل المضاد للعلم ؛ فيكونون ضلالا ، والثاني اتباع الهوى والشهوة اللذين في النفس ؛ فيكونون غواة مغضوبًا عليهم …”[1].

·      وقال ابن القيم رحمه الله : “والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدًا ، فمنها: الجهل به ، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس ، فإن من جهل شيئًا عاداه وعادى أهله ، فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من القبول أقوى ، فإن انضاف إلى ذلك إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظمه قوي المانع ، فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه قوي المانع من القبول جدًا ، فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه ؛ كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ازداد المانع من قبول الحق قوة ، فإن هرقل عرف الحق وهم بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبين له الهدى …

ومن أعظم هذه الأسباب : الحسد ؛ فإنه داء كامن في النفس ، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه ، وأوتي ما لم يؤت نظيره ، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه ، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟! فإنه لما رآه قد فضل عليه ورفع فوقه ، غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة ، وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم ، وقد علموا علما لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات ، والهدى فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان ، وأطبقوا عليه ، وهم أمة فيهم الأحبار والعلماء والزهاد والقضاة والملوك والأمراء”[2].

وقد غلا الملاحدة في العقل فجعلوه هو الحكم الذي يتحاكمون إليه في كل شيء ، وأعرضوا إعراضاً كليًا عن القرآن وما أتى به الأنبياء من عند ربهم ، ومن أكبر أسباب هذا الغلو الواقع منهم هو كفرهم بالله العظيم وبأنبيائه ورسله ؛ فلما لم يجدوا شيئًا يؤمنون به ليتحاكموا إليه انصرفوا إلى زبالات أفكارهم فجعلوها قاضية لهم فيما يتنازعون فيه ، فتبًا لعقولهم من عقول ،

·      قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “الأدلة العقلية الخبرية والأدلة العقلية على حسن بعض الأشياء وقبح بعضها عند من يقول بذلك إذا كانت حقًّا فإنها لا تناقض شيئاً مما جاءت به الرسل ؛ لا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا غيره ، ولا يجوز أن يخبر الرسل بشيء يعلم بالعقل الصريح امتناعه ، بل لا يجوز أن يخبروا بما لا يعلم بالعقل ثبوته ؛ فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول ، ويجوز أن يكون في بعض ما يخبرون به ما يعجز عقل بعض الناس عن فهمه وتصوره فإن العقول متفاوتة ، وفي عظمة الرب تعالى وملكوته وآياته ومخلوقاته ما لا يستطيع الناس أو كثير منهم أن يروه في الدنيا ، أو يسمعوا صوته ، أو يتصوروه ، ويكفيك أن موسى عليه السلام مع عظم قدره {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ[الأعراف 143] ، ولكن كثير من الناس يظن بعقله أشياء ممتنعة ، ولا تكون ممتنعة كما يظن أشياء جائزة أو واجبة ، ولا تكون كذلك ، ولهذا عامة الطوائف بالعقليات توجب هذا ، أو تجوز ما يقول الآخر إنه ممتنع وكلاهما يزعم أن العقل دل على ذلك ؛ فلهذا كان من الناس من يظن أن المعقولات الصريحة تخالف ما جاء به القرآن والحديث الصحيح من إثبات معاني أسماء الله وصفاته كما يقول ذلك المعطلة الجهمية ،ومن يشاركهم في بعض ذلك”[3].

·      وقال ابن القيم رحمه الله : “لما أظلمت الأرض وبعد عهد أهلها بنور الوحي وتفرقوا في الباطل فرقاً وأحزاباً لا يجمعهم جامع ولا يحصيهم إلا الذي خلقهم فإنهم فقدوا نور النبوة ، ورجعوا إلى مجرد العقول ؛ فكانوا كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه أنه قال : «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ ؛ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»[4]، فكان أهل العقول كلهم في مقته إلا بقايا متمسكين بالوحي فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان ، أو الصلبان ، أو النيران ، أو الكواكب والشمس والقمر ، أو الحيرة والشك ، أو السحر ، أو تعطيل الصانع والكفر به ؛ فاستفادوا بها مقت الرب سبحانه لهم وإعراضه عنهم ؛ فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلم سراجاً منيراً ، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكوراً ؛ فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه ، ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا بآرائهم يرونه ؛ فكانوا كما قال الله تعالى{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257]،  وقال : {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد}[إبراهيم:1] ، وقال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: 52] ، وقال تعالى {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}[الأنعام:122] ؛ فمضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ، ولم تلتبس به ظلم الآراء ، وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم ، وأن لا يخرجوا عن طريقتهم”[5]. 

      ثَانِيًا : الْاِسْتِرْشَادُ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ فِيْ عِلَاجِ الظَّوَاهِرِ الِإِلْحَادِيَّةِ ، ومن هذه الطرق : مخاطبة الروح والعقل معًا ، والتركيز على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[الروم 30] ، فالفطرة مركوز فيها منذ أن خلقها الله معرفة الله ، والإيمان به ، فلا غنى عن الإيمان بالله تعالى أبدًا ؛ فـ”إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته ، وفيه حزنًا لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته ، وفيه قلقًا لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه ، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه طلبًا شديدًا لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب ، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له ، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا”[6]، لكن جاءت الشياطين فاجتالت العصاة -بشتى أنواعهم- عن الإيمان بربهم ، ومن أراد علاج مرضى الشبهات فلا أنفع له من التركيز على إرجاعهم إلى أصلهم الأول ، بل والتركيز عليه بشدة ، فإن النفوس تهفو -ولو أبت وكرهت- إلى من خلقها وتلجأ إليه ضرورة ، ولا أدل على ذلك من هؤلاء الملاحدة -وإخوانهم  المشركين- فإنهم إذا جاءتهم الضراء والأزمات نسوا إلحادهم وشركهم ولجؤوا إلى ربهم ؛ رب الأرض والسموات ، قال تعالى : {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور}[لقمان:32] ، فـ”الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس ، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة”[7]، ومن القصص الواقعية في ذلك قصة ذلك الشاب -وهو من جنود المظلات- يروي قصتــه فيقول : “إنه نشأ في بيت ليس فيه من يذكــــر الله أو يصلي ، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين ، ولا مدرس متدين ، نشأ نشأة علمانية مادية ، أي مثل نشأة الحيوانات ؛ التي لا تعرف إلا الأكل والشرب والنكاح ، ولكنه لما هبط أول مرة ، ورأى نفسه ساقطًا في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة جعل يقول : “يا الله” ، “يا رب” ، ويدعو من قلبه ، وهو يتعجب من أين جاه هذا الإيمان؟”[8].

ومن هذه الطرق -أيضًا- : التأمل والتدبر في بديع خلق الله بصدق ، قال تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِير”[الملك:1-4] ، وقال تعالى : {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَت * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت”[الغاشية:17-20] وقال تعالى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون}[الطور:35-36]، وقال تعالى : {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِين * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون”[الذاريات:20-21] ، وقال تعالى : {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِق * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِق * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب}[الطارق:5-7] .

      ثَالِثًا : الْمُحَاوَرَةُ النَّافِعَةُ مَعَ الْمُلْحِدِيْنَ مِنْ قِبَلِ الْمُؤَهَّلِيْنَ عِلْمِيًّا بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ ، وذلك لإزالة الشبهات العالقة في أذهانهم ، قال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين}[النحل:125] ، “ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة ، وقد تهزم العساكر الكبار ، والحجة الصحيحة لا تغلب أبدًا فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة”[9].

نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله .


(1) مجموع الفتاوى (15-239-242) .

(2) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ، ص (244-245) .

(3) بيان تلبيس الجهمية (8/533-534) .

(4) رواه مسلم (7309) .

(5) الصواعق المرسلة (3/1068) .

(6) مدارج السالكين ؛ لابن القيم (3/156) .

(7) مجموع الفتاوى ؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية (16/328) .

(8) القصة مترجمة عن مجلة : “ريــدر دايجست” .

(9) الإحكام في أصول الإحكام ؛ لابن حزم (1/25) .

%d