عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .
تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …
الحلقة (43)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ فَرَقَّ دِيْنُهُمْ … (تابع)
(4)
خُلُقُ الْأَمَانَةِ ،
وَهُوَ خُلُقٌ كَرِيْمٌ ، جَلِيْلٌ ، عَظِيْمٌ ، عَزِيْزٌ ؛ عَزَّ وُجُوْدُهُ فِيْ عَالَمِ النَّاسِ الْمَنْظُوْرِ ، وَفِيْ الْمَاضِي الْمَهْجُوْرِ ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ الْإِيْمَانِ -أَوِ اِنْعِدَامِهِ- فِيْ قُلُوْبِ كَثِيْرٍ مِنَ الْعِبَادِ ، لَقَدْ هَابَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَأَشْفَقَتْ مِنْ أَنْ يَحْمِلْنَ الْأَمَانَةَ وَيَقُمْنَ بِحَقِّهَا ؛ لِعِظَمِهَا وَخُطُوْرَتِهَا ، {وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}[الأحزاب:72] ، “وَالْجَهْلُ وَالظُّلْمُ : هُمَا أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ”[1]، وَالنَّاظِرُ الْمُتَأَمِّلُ فِيْ وَاقِعِ الْخَلْقِ الْيَوْمَ يَجِدُ حَقِيْقَةَ هَذَا الْقَوْلِ ،
فَانْظُرْوْا كَيْفَ ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ لَمَّا أُعْرِضَ عَنِ التَّوْحِيِدِ ، وَذِكْرِ اللهِ الْمَجِيْدِ ، وَالْعَمَلِ بِشَرِيْعَةِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ،
وَانْظُرْوْا كَيْفَ ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ لَمَّا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، فَكَانَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ أَنْ غُيِّرَتِ الشَّرِيْعَةُ ، وُبُدِّلَتِ الْعَقِيْدَةُ ، وَعِيْثَ فِيْ الْأَرْضِ فَسَادًا ،
وَانْظُرْوْا كَيْفَ ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ لَمَّا ضَيَّعَ الْآبَاءُ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِهِمْ ، أَهْمَلُوْهُمْ حَتَّى صَارُوْا كَالْبَهَائِمِ الْعَجْمَاوَاتِ ؛ يَهِيْمُوْنَ عَلَى وُجُوْهِهِمْ فِيْ كُلِّ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ بِلَا نَكِيْرٍ ،
وَانْظُرْوْا كَيْفَ ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ لَمَّا تَحَكَّمَ السُّفَهَاءُ الْجُهَلَاُء فِيْ أَعْرَاضِ النَّاسِ ، وَأَدْيَانِهِمْ ، وَأَمْوَالِهِمْ ، وَأَنْفُسِهِمْ ؛ فَعَرَّضُوْهَا لِلْاِبْتِذِالِ ، وَالتَّبْذِيْرِ ، وَالتَّفْرِيْطِ ، وَكَانَ مِنْ نَتِيْجَةِ ذَلِكَ أَنِ اِنْتَشَرَ الْفَسَادُ في الدِّيْنِ ، وَالْخُلُقِ ، وَالْمَالِ ، بَلْ وَفِيْ الْمَاءِ ، وَالْهَوَاءِ ،
وَانْظُرْوْا كَيْفَ ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ لَمَّا بَخِلَ الْأَغْنِيَاءُ وَجَشِعُوْا بِأَمْوَالِهِمْ ، فَحَرَمُوْا الْفُقَرَاءُ حَقَّهُمْ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ ؛ فَأَهْلَكُهُمُ الْجُوْعُ ، وَأَضْنَاهُمُ الْحُزْنُ وَالْأَسَى ،
وَانْظُرْوْا كَيْفَ ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ كَثِيْرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِدَوْرِهِمْ الْمَنُوْطِ بِهِمْ ، وَالْمُتَحَتِّمِ عَلَيْهِمُ ؛ فَانْتُهِكَتِ -بِسَبَبِ ذَلِكَ- الْحُرُمَاتُ ، وَعُوْقِرَتِ الْمُنْكَرَاتُ ، وَشُكِّكَ فِيْ الْمُسَلَّمَاتِ ، وَظَهَرَ عُلَمَاءُ السُّوْءِ ، الَّذِيْنَ يُحَرِّفُوْنَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ، وَيَلْبِسُوْنَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، وَيَكْتُمُوْنَ الْعِلْمَ وَهُمْ لَهُ حَافِظُوْنَ .
وَضِيَاعُ الْأَمَانَةُ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ قُرْبِ السَّاعَةِ ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ”[2]،
وَإِذَا غَلَبَ الْجَهْلُ بَيْنَ النَّاسِ سَاءَتْ أَخْلَاقُهُمْ وَرُفِعَتِ الْأَمَانَةُ مِنْ قُلُوْبِهِمْ ؛ فـ”يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ ؛ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ ، فَيُقَالُ : إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ : مَا أَعْقَلَهُ ، وَمَا أَظْرَفَهُ ، وَمَا أَجْلَدَهُ ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ …”[3].
نَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الْخِيَانَةِ ، نَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الْخِيَانَةِ ، اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نَرْجُوْ فَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، اللَّهُمْ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، اللَّهُمْ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ .
نكمل في حلقات هذه السلسلة بعد رمضان إن شاء الله .