بِدْعَةُ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ وَأَثَرُهَا فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ ، وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ .
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ السَّيْئَةِ الَّتِيْ سَبَّبَهَا التَّقْلِيْدُ -لِلْمَذَاهِبِ أَوِ الرِّجَالِ- فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ ، مَعَ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيْرِ .
-(الحلقة الأولى)-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين … أما بعد :
(مقدمة)
في هذا المقال -ذي الحلقات المتعددة- سأتكلم -إن شاء الله- عن بدعة منتشرة منذ زمن بعيد ، تخبو حينًا وتنبعث -جذعة- حينًا آخر ، وفي زمننا هذا -ويا للأسف- قد انبعثت من جديد ، وتأثر بها كثير من الطلاب والدارسين ؛ عقدت له الدورات ، ونظمت لها المدارس والمحاضرات ، إنها بدعة : “التقليد المذهبي” .
وفي مقال لي رددت فيه على مؤسسة الوقف العلمية ، بعنوان : “الْبَيَانُ وَالنَّقْدُ لِمَا يُسَمَّي بِـ”مُؤَسَّسَةِ وَقْفِ الْعِلْمِ” كنت قد وعدت بأن أتحدث في هذا الموضوع بشكل موسع ، وهأنذا أفي بوعدي .
وستكون فقرات هذا المقال -بحول الله- على النحو التالي :
– تَعْرِيْفَاتٌ مُهِمَّةٌ .
– تَارِيْخُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ .
– أنواع التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ .
– تَحْذِيْرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ بِدْعَةِ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ .
– عَلَاقَةُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ بِالْاِنْحِرَافِ الْعَقَدِي ، مَعَ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ عَلَى ذَلِكَ .
– التَّقْلِيْدُ الْمَذْهَبِيُّ -بِأَنْوَاعِهِ- وَأَثَرُهُ فِيْ الْاِخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ .
– شُبُهَاتٌ وَرُدُوْدٌ وَارِدَةٌ فِيْ هَذَا الْمَوْضُوْعِ .
– الْمَنْهَجُ الْحَقُّ فِيْ طَرِيْقَةِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
– وَصَايَا مُهِمَّةٌ نُنْهِي بِهَا هَذَا الْمَقَالَ .
– خَاتِمَةٌ .
فنقول وبالله التوفيق :
أَوَّلًا : تَعْرِيْفَاتٌ مُهِمَّةٌ .
سأتناول بين يدي هذا المقال تعريفات لمصطلحات مهمة ، مهم أن يتعرف عليها القارئ لتتجلى له الحقائق ، ولأن “الحكم على الشيء فرع عن تصوره” ، فمن المصطلحات المراد التعريف بها هنا : “التقليد” ، “المذهب” ، “الاجتهاد” ، “المجتهد” ، “الاتباع” ، “العامي” ، “المفتي” ، “المستفتي” ، “الفتوى” ، وسنتطرق -إن شاء الله تعالى- في ثنايا هذا المقال إلى تعريفات أخرى ؛ منها : تعريف : “الخبر المتواتر” ، و”خبر الآحاد” ، … ، وغيرها من تعريفات مهمة .
**********************
1) تَعْرِيْفُ “التَّقْلِيْدِ” :
– لغة : وضع الشيء في العنق محيطاً به[1].
– واصطلاحاً : هو قبول القول -ممن لا يؤمن عليه الغلط- من غير دليل [2].
· قال أبو هلال العسكري : “الفرق بين العلم والتقليد ؛ أن العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به على سبيل الثقة ، والتقليد قبول الأمر ممن لا يؤمن عليه الغلط بلا حجة ؛ فهو وإن وقع معتقده على ما هو به فليس بعلم ؛ لأنه لا ثقة معه ، واشتقاقه من قول العرب قلدته الأمانه أي : ألزمته إياها ، فلزمته لزوم القلادة للعنق ، ثم قالوا طوقته الأمانة ؛ لأن الطوق مثل القلادة ، ويقولون هذا الأمر لازم لك ، وتقليد عنقك ، ومنه قوله تعالى : {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِيْ عُنُقِهِ}[الإسراء:] ؛ أي : ما طار له من الخير والشر ؛ المراد به : علمه ، يقال : طار لي منك كذا ؛ أي : صار حظي منك ، ويقال : قلدت فلانًا ديني ومذهبي ؛ أي : قلدته إثمًا إن كان فيه ، وألزمته إياه إلزام القلادة عنقه ، ولو كان التقليد حقا لم يكن بين الحق والباطل فرق”[3].
2) تَعْرِيْفُ “الْمَذْهَبِ” :
– لغة : من ذَهَبَ : الذال والهاء والباء أصيل ، يدل على : حسن ونضارة ، … ، [وله] أصل آخر ، وهو ذهاب الشيء : مضيه ، يقال : ذهب يذهب ذهابًا وذهوبًا ، وقد ذهب مذهبًا حسنًا[4]، وَالْمَذْهَبُ : مصدر ، كالذهاب[5].
– اصطلاحًا : هو : “المذهب الفروعي ينتقل إِليه الِإنسان ، وطريقة فقيه يسلكها المتابع المتمذهب له ، ويُقال : ذهب فلان إلى قول أبي حنيفة ، أَو مالك ، أَو الشافعي ، أو أحمد -رحمهم الله- أَي : أخذ بمذهبه وسلك طريقه في فقهه ؛ رواية ، واستنباطًا ، وتخريجاً على مذهبه ؛ فآل إٍلى : «حقيقة عرفية» ؛ بجامع سلوك الطريقين : بين الحقيقة اللغوية ، والعرفية الاصطلاحية” [6].
· قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله : “وهذا المولود الاصطلاحي عرفاً : «المذهب» لَحِقَ الأئمة الأَربعة : أبا حنيفة ، (المتوفى سنة : 150هـ) ، ومالكًا ، (المتوفى سنة : 179ه) ، والشافعي ، (المتوفى سنة : 204ه) ، وأَحمد ، (المتوفى سنة : 241ه) ، بعد وفاتهــــــــــــــــــــــم -رحمهم الله تعالى- وذلك فيما ذهب إِليه كُل واحد منهم ، ولا عِلْمَ لواحد منهم بهذا الاصطلاح ؛ فضلاً عن أَن يكون قال به ، أَو دلَّ عليه ، أَو دعا إِليه … ، ولذا قيل : إن نِسْبةَ المذهب إلى صاحبه ، لا يخلو من تسامح …”[7].
3) تَعْرِيْفُ “الْاِجْتِهَادِ” :
– لغة : من الجَهْدِ ، وهو : المشقة ، ثم يحمل عليه ما يقاربه ، يقال : جهدت نفسي وأجهدت ، والجُهْدُ : الطاقة ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ﴾ [التوبة: 79] ، ويقال : إن المجهود : اللبن الذي أخرج زبده ، ولا يكاد ذلك يكون إلا بمشقة ، ونصَب”[8].
– اصطلاحًا : بذل المجتهد وسعه في استنباط حكم شرعي[9]، والمجتهد ، هو : مَن كانت له أهلية تامة يمكنه من خلالها استنباط أحكام الشرع بالدليل[10].
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -معمماً وقوع اجتهاد المجتهد ؛ سواء كان في الأصول أو الفروع- : “ولم يفرق أحد من السلف ولا الأئمة بين أصول وفروع ، بل جَعْلُ الدين قسمين أصولاً وفروعاً لم يكن معروفاً في الصحابة والتابعين ، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم ؛ لا في الأصول ، ولا في الفروع … “[11].
4) تَعْرِيْفُ “الْاِتِّبَاعِ” :
– لغة : مشتقة من : (تبع) ، التاء والباء والعين أصل واحد لا يشذُّ عنه من الباب شيء ، وهو : التُّلُوُّ والقَّفْوُ ، يقال : تبعت فلاناً إذا تلوته واتبعته[12].
– واصطلاحاً : هو اتباع من أوجب عليك الدليلُ اتباعَ قوله[13].
وكثير من الأصوليين لا يفرقون بين التقليد والاتباع ، فيجعلونهما شيئاً واحدًا ، والعبرة بالاصطلاح ، فاصطلاحنا هنا هو التفريق ، وهو الذي أثر عن أحمد رحمه الله تعالى في بعض أقواله .
· قال ابن القيم رحمه الله تعالى : “وقد فرق أحمد بين التقليد والاتباع ؛ فقال أبو داود : سمعته يقول : «الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، ثم هو من بعد في التابعين مخير» ، وقال أيضًا : «لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي ، وخذ من حيث أخذوا» ، وقال : «من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال»[14].
5) تَعْرِيْفُ “الْعَامِيِّ” :
– لغة : مشتق من (عَمَّ) ؛ العين والميم أصل صحيح واحد ، يدل على : الطول ، والكثرة ، والعلو ، والعامة ضد الخاصة ، ومن الجمع قولهم : عمنا هذا الأمر يعمنا عمومًا ، إذا أصاب القوم أجمعين[15]، وقيل -وهو المقصود هنا- : العامي : الذي لا يبصر طريقه ، وأرض عمياء وعَامِيَة ، ومكان أعمى : لا يهتدى فيه[16].
– واصطلاحاً : هو الذي لا يعرف الأدلة ، ولا الأحكام الشرعية[17].
وكثير من الأصوليين يجعلون العامي هو الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد ، فالناس عندهم إما علماء مجتهدون ، أو عوام ، وهذا قول ضعيف ، والصواب أن الناس في هذا الشأن ينقسمون إلى ثلاثة أقسام : علماء مجتهدين ، وطلاب علم متبعين ، وعوام ، وهذا الذي تدل عليه الأدلة ، قال تعالى : {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] ، وقال تعالى : {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59] ، وقال تعالى : {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون}[النحل:43] ،
· قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : “يجب على من لا علم عنده ، ولا قدرة له على الاجتهاد أن يسأل أهل العلم ؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] ، ولم يأمر الله تعالى بسؤالهم إلا من أجل الأخذ بقولهم ، وهذا هو التقليد ، لكن الممنوع في التقليد أن يلتزم مذهبًا معينًا يأخذ به على كل حال ويعتقد أن ذلك طريقه إلى الله عز وجل فيأخذ به ، وإن خالف الدليل ، وأما من له قدرة على الاجتهاد ؛ كطالب العلم الذي أخذ بحظ وافر من العلم ، فله أن يجتهد في الأدلة ، ويأخذ بما يرى أنه الصواب ، أو الأقرب للصواب ، وأما العامي وطالب العلم المبتدئ ، فيجتهد في تقليد من يرى أنه أقرب إلى الحق ؛ لغزارة علمه وقوة دينه وورعه”[18].
6) تَعْرِيْفُ “الْمُفْتِي” -و”الْمُسْتَفْتِي” ، و”الْفَتْوَى”-:
– لغة : المفتي : اسم فاعل من أفتى ، والفتوى في اللغة هي : تبيين المشكل وتوضيحه[19].
– واصطلاحاً : من يتولى تبيين الأحكام الشرعية بدليلها لمن سأل عنها ، والمستفتي : سائل الفتوى وطالبها([20]) .
· قال ابن القيم رحمه الله تعالى : “ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ ، والصدق فيه ، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق ؛ فيكون عالِمًا بما يبلغ ، صادقًا فيه ، ويكون مع ذلك حسن الطريقة ، مرضي السيرة ، عدلا في أقواله وأفعاله ، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله ؛ وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ، ولا يجهل قدره ، وهو من أعلى المراتب السنيات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات ؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته ، وأن يتأهب له أهبته ، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به ؛ فإن الله ناصره وهاديه ، وكيف هو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}[النساء: 127] ، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفًا وجلالة ؛ إذ يقول في كتابه : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}[النساء: 176] ، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه ، وليوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله”[21].
نكمل في الحلقة التالية -إن شاء الله- .
[1] انظر : معجم مقاييس اللغة (5/19-20) ، ولسان العرب (3/366) .
[2] انظر : الفروق اللغوية ؛ لابن هلال العسكري ، ص : (97) ، الإحكام في أصول الأحكام ؛ لابن حزم (2/836) ، الفقيه والمتفقه ؛ للخطيب البغدادي (2/128) ، ومجموع الفتاوى ؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية (20/15) .
[3] الفروق اللغوية ؛ لابن هلال العسكري ، ص : (97) .
[4] معجم مقاييس اللغة (2/362) .
[5] لسان العرب (1/394) .
[6] المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/32) .
[7] المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/33) .
[8] انظر : معجم مقاييس اللغة (1/486) .
[9] انظر : المستصفى (2/350) ، وروضة الناظر (2/345) .
[10] انظر : صفة الفتوى ؛ لابن حمدان ، ص: (15) ، والإحكام في أصول الأحكام ؛ للآمدي (4/162) .
[11] مجموع الفتاوى (13/125) .
[12] انظر : معجم مقاييس اللغة (1/362) .
[13] انظر : جامع بيان العلم وفضله (2/ 117) ، وإعلام الموقعين (2/137) .
[14] إعلام الموقعين (2/140) .
[15] انظر : معجم مقاييس اللغة (4/17-18) .
[16] انظر : تهذيب اللغة (3/157) .
[17] انظر : الفقيه والمتفقه (2/133) .
[18] مجموع الفتاوى (26/51) .
[19] انظر : معجم مقاييس اللغة (4/473) ، وتهذيب اللغة (14/234) .
[20] شرح المنتهى (3/483) ، وصفة الفتوى والمستفتى لابن حمدان ، ص : (4) .
[21] إعلام الموقعين (1/9) .