بِدْعَةُ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ وَأَثَرُهَا فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ ، وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ .
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ السَّيْئَةِ الَّتِيْ سَبَّبَهَا التَّقْلِيْدُ -لِلْمَذَاهِبِ أَوِ الرِّجَالِ- فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ ، مَعَ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيْرِ .
-(الحلقة الثانية)-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين … أما بعد :
ثَانِيًا : تَارِيْخُ ظُهُوْرِ بِدْعَةِ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ .
مما لا شك فيه أن المذاهب -وتقليدها- لم تكن موجودة في القرون الأولى ؛ بل هي حادثة بعدهم ، وكان الناس يأخذون عن الكتاب والسنة ، وفق التفسير الصحيح لهما ، وأما العوام منهم فكانوا يسألون -إن نزلت بهم النوازل- العلماء الأثبات ؛ استرشادًا بقول الله تعالى : {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}[النحل:43] ، وكان العلماء يجيبونهم على أسئلتهم ، بما فهموه من الأدلة ، “وذلك امتداد لما كان عليه المسلمون من الصحابة رضي الله عنهم فَمَن بعدهم ، من التابعين ، وتابعي التابعين ، من نشر الكتاب والسنة ، والائتمام برسول الله صلى الله عليه وسلم … ، فما كان مالك ولا غيره من أَئمة المذاهب ، يدعون أحدًا إلى التمسك بمنهجهم في الاجتهاد ، ولا كان عندهم منهاج محدد في اجتهادهم ، إنما كانوا يتبعون في ذلك منهج من سبقهم من علماء التــــــــابعين ، وهؤلاء عن الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم”[1] ،
· قال الإمام الشوكاني رحمه الله : “وهو أيضًا -أي : التقليد- في نفسه بدعة محدثة ؛ لأنا نعلم بالقطع أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهب لرجل معين يدرك ويقلد ، وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة ، أو إلى ما يتمحض بينهم من النظر عند فقد الدليل ، وكذلك تابعوهم -أيضًا- يرجعون إلى الكتاب والسنة ؛ فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة ؛ فإن لم يجدوا اجتهدوا واختار بعضهم قول صحابي فرآه الأقوى في دين الله تعالى ، ثم كان القرن الثالث ، وفيه كان أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وابن حنبل -رحمهم الله- ؛ فإن مالكًا توفي سنة : تسع وسبعين ومائة ، وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة ، وفي هذه السنة ولد الإمام الشافعي ، وولد ابن حنبل سنة أربع وستين ومائة ، وكانوا على منهاج من مضى ؛ لم يكن في عصرهم مذهب رجل معين يتدارسونه ، وعلى قريب منهم كان أتباعهم ؛ فكم من قولة لمالك ونظرائه خالفه فيها أصحابه ، ولو نقلنا ذلك لخرجنا عن مقصود ذلك الكتاب ، ما ذاك إلا لجمعهم آلات الاجتهاد ، وقدرتهم على ضروب الاستنباطات ، ولقد صدق الله نبيه في قوله : «خَيْرُ الْقُرْوْنِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُمْ»[2]، ذكر بعد قرنه قرنين ، والحديث في صحيح البــخاري ، فالعجب من أهل التقليد كيف يقولون هذا هو الأمر القديم وعليه أدركنا الشيوخ وهو إنما حدث بعد مائتي سنة من الهجرة ، وبعد فناء القرون الذين أثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد عرفت بهذا أن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض خير القرون ، ثم الذين يلونهم ، وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة إنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة ، وإنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد وعدم الاعتداد به ، وإن هذه المذاهب إنما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين”[3].
· وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله : “كان أَمر الناس جارياً على السَّلامة والسَّداد ، من الإسلام والسنة ، في صدر هذه الأمة ، من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى غاية القرون المشهود لها بالفضل والخيرية : الشريعة ظاهرة ، والسنة قائمة ، والبدع مقموعة ، والأَلسن عن الباطل مكفوفة ، والعلماء عاملون ، ولعلمهم ناشرون ، والعامي يستفتي من يثق به وتطمئن إِليه نفسه ممن لقيه من علماء المسلمين ، لم يتخذوا من دون الله وَليْجَةً ، ولا إماماً من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا كتاباً غير كتاب الله تعالى ، ولا سنة سوى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه ، مع كثرة فقهاء الصحابة رضي الله عنهم ومنهم الخلفاء الأَربعة الراشدون ، ومع وفرة علماء التابعين ، وتابعيهم ، وتابعي تابعيهم ، وفي العصر الواحد نحو خمسمائة عالم يصلح كل واحد منهم أَن يكون إِماماً يُتمذهب له ، ويُقَلَّدُ في قوله ورأيه ، لكن يأَبى الله ورسوله والمؤمنون أَن يتخذ من شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل والخيرية إمامًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ينصبونه حاكماً على السنة والدَّليل ، وينزلونه منزلة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وكانت الحال جارية على السَّداد في أَعقاب تلك القرون ، وفيها الأَئمة الأَربعة المشهورون ، جرت أَحوالهم في ركاب سلفهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم على الخير والهدى والبِر والتقوى ، والعلم ونشره ، والفقه وتبليغه ، وتنقيح مسائله ؛ ولعنايتهم الفائقة ، وظهور فضلهم احتوشهم الطلاَّب ، وكثر حولهم الأصحاب ، وتنافسوا في جمع أقوالهم ، وتصنيفها ، وتأصيلها ، والتقعيد لها ، حتى بلغ أَثَرُ كل منهم مبلغاً ، واتُّخِذ مَذْهَبَاً ، وَصَاحِبَهُ إماماً ، وكان الأصحاب في كل مذهب مقتصرون على ذلك ، ثم أخذ هذا يتقوَّى شيئاً فشيئاً ، حتى تمكنت من النفوس عوامل العصبية ، والانتصار والحمية ، والتنافس في المذهبية ، وَمِن هُنَا انعقدت آصرة التعصب المذهبي ، وبلغت إلى بلاط الولاة ، وقام سوقها في الدروس والِإجازات ، وتطوير المذهب بالتخريج إلى إمام الواقعات والمستجدات ، فصار أهل السنة إلى هذه المذاهب الأَربعة المشهورة درساً وتدريساً ، وقراءة وإقراء ، وكتابة وتأليفاً وقضاء وفتياً ، وعلماً وعملاً ، وصار لها من القبول والانتشار ، ما بلغ مبلغ الليل والنهار ، وانصرف الناس إِليها كالعنق الواحد ، فآلَ جُلُّ الخليقة من المسلمين إلى قسمين اثنين :
القسم الأَول : منتسب إلى ذلك الإمام ؛ اتَّخذه مستَدَلًّا ، واقتنى كتب مذهبه ، لمعرفة استدلاله ، ثم عرضها على الوحيين الشريفين ، فما كان مؤيداً بالدليل أخذ به ، ومَا لَا فَــــلاَ ، مع الولاء لكل عالم من علماء أهل السنة ، والاستفادة من فقههم ، وحسن أثرهم ، ودَعَا إلى الوفاق ، ونبذ أَسباب الشقاق ، وعقد لاختلافهم «مجلس المناظرة والشورى» إلى الأَدلة الشرعية ، وفي عُقْدَةِ رأيه : التَّسْلِيْمُ لِلدَّليل ، وَلِمَا قَامَ على ترجيحه الدليل ،
القسم الثاني : متَعَصِّبٌ ذَمِيم ، أَخْلَدَ إلى حضيض التقليد ، ولم يَدْرِ ما يُبدئ في الفقه وما يعيد ، هَجَرَ القرآن والسُّنة والقدوة بصاحب هذه الرسالة صلى الله عليه وسلم ، وَنَصَبَ إِمَامَهُ غير المعصوم مَحِلَّ النبي المعصوم ، فجعله الواسطة بينه وبين رَبّه ، فلا يدين بدليل ، ولا تعليل سليم ، وجعل : «المتن في المذهب» له قرآنًا ، وشُروحه له سنة وَتِبْيَانًا ، فالحق عنده ما قاله ، أَو استروحه هو من مذهب إمامه ، وإن خالف الدليل ، لقد هجر هذا الفريق القرآن ، واتخذوه لِلرُّقي والسلوان ، وعدلوا عن السنة ، وجعلوها للتبرك وقضاء الأَزمان ، وأَوجدوا الشقاق ، وتشقيق الأمة ، حتى بلغ الحال إِلى أَن الحنفي المتعصب لا يصلي خلف الشافعي ، ولا يزوجه ، وأَنه بمنزلة الذمي ، وبهذا يظهر :
فساد قول أَبي الحسن الكرخي من الحنفية : «كل آية تخالف ما عليه أَصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة ، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ» ، …
وقول القاضي عياض رحمه الله تعالى -مع جلالته-:
وَمَالِكُ الـمُرْتَضَى لاَ شَكَّ أَفْضَلُهُم … إِمَامُ دَارِ الهُدَى وَالوَحِيِ وَالسُّنَنِ
وقول محمد بن إبراهيم البوشنجي رحمه الله تعالى :
وَإِنِّيْ حَيَاتِي شَافِعِيٌّ فَإِنْ أَمُتْ … فَتَوْصِيَتِي بَعْدِي بِأَنْ يَتَشَفَّعُوا
وقول أبي إسماعيل الأنصَاري الهروي رحمه الله تعالى :
أَنَا حَنْبَلِي مَا حَييْتُ وَإِنْ أَمُتْ … فَوَصِيَّتِي لِلنَّاسِ أَنْ يَتَحَنْبَلُوا
… ، وقال الصاوي في «حاشيته على الجلالين» -عند قول الله تعالى : {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية [الكهف:23-24]- : «ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأَربعة ، ولو وافق قول الصحابة ، والحديث الصحيح ، والآية ، فالخارج عن المذاهب الأَربعة ضال مضل ، وربما أَدَّاه ذلك للكفر ، لأَن الأَخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر» انتهى بلفظه”[4].
نكمل في الحلقة التالية -إن شاء الله- .
[1] المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/33) .
[2] رواه البخاري (2651) ، ومسلم (6563) .
[3] القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد ، ص : (43-45) .
[4] المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/53-56) .