القائمة إغلاق

بِدْعَةُ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ وَأَثَرُهَا فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ ، وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ . 

ذِكْرُ شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ السَّيْئَةِ الَّتِيْ سَبَّبَهَا التَّقْلِيْدُ -لِلْمَذَاهِبِ أَوِ الرِّجَالِ- فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ  وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ ، مَعَ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيْرِ .  

(الحلقة الرابعة) 

نسخة رقمية

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين … أما بعد : 

رَابِعًا : تَحْذِيْرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ بِدْعَةِ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ .

لقد وردت آثار وأقوال كثيرة جدًا ، فيها التحذيرات المتتابعة من بدعة التقليد المذهبي ، وهنا سوف أذكر شيئًا منها ، علها تكون نافعة مذكرة ؛ لي وللقارئ ، ولمن ابتلي بهذه البدعة الخطيرة ،

وقبل ذلك نورد في إبطال التقليد ما يتيسر من أدلة وردت في الأصلين المشرفين ، ومن ذلك :

      • قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوَا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}[البقرة:166167]،

      • قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية السابقة : “الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله ، ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض ، بل عَمّ جميعهم ، فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة(1).

      • وقوله تعالى :  {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[البقرة:170-171] ، 

      • وقال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية السابقة : “قال علماؤنا : وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد …”(2). 

      • وقوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}[المائدة:104]، 

      • وقوله تعالى : {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}[يونس: 78]، 

      • وقوله تعالى : {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] ، 

      • قال ابن عبد البر رحمه الله -بعد سرده لبعض ما سبق من آيات– : “وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها ؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر ، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد ، كما لو قُلِّد رجل فكفر ، وقُلِّد آخر فأذنب ، وقُلِّد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها ، كان كلُّ واحد ملومًا على التقليد بغير حجة ؛ لأنَّ كلَّ ذلك تقليد يشبه بعضه بعضًا ، وإن اختلفت الآثام فيه ، وقال الله عز وجل : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] ، وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا ، وفي ثبوته إبطال التقليد أيضًا ، فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول ؛ التي يجب التسليم لها ، وهي الكتاب والسنة ، أو ما كان في معناهما ؛ بدليل جامع بين ذلك(3). 

      • وعَنْ عَدِي بن حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ ، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًامِنْ دُونِ اللَّهِ} ، حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا ، فَقُلْتُ : إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ ، فَقَالَ :”أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟” ، قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ :”فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ”(4).  

      • وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَهُوَ يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : هِيَ حَلَالٌ ، فَقَالَ الشَّامِيُّ : إِنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : “أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَأَمْرَ أَبِي نَتَّبِعُ ؟ أَمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : بَلْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(5)، 

      • وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلَا لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنَ آمَنَ ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ(6)، 

      • وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ” كُنَّا نَدْعُو «الْإِمَّعَةَ» فِي الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي يُدْعَى إِلَى الطَّعَامِ ، فَيَذْهَبُ مَعَهُ بِآخَرَ ، وَهُوَ فِيكُمُ الْمُحْقِبُ(7)دِينَهُ الرِّجَالَ ؛ الَّذِي يَمْنَحُ دِينَهُ غَيْرَهُ ، فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ ذَلِكَ الْغِيَرُ فِي دُنْيَاهُ ، وَيَبْقَى إِثْمُهُ عَلَيْهِ”(8). 

      • وقال أبو حنيفة رحمه الله :“لا يحلُّ لمن يفتى من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت”(9)،  

      • وقال رحمه الله : “إذا صح الحديث فهو مذهبي(10). 

      • وقال مالك رحمه الله : “إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي ؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”(11). 

      • وقال الشافعي رحمه الله : “إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بها ، ودعوا ما قلته”(12)، 

      • وقال أحمد رحمه الله : “رأي الأوزاعي ، ورأي مالك ، ورأي سفيان كله رأي ، وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار”(13). 

 

    • وقال أيضاً– رحمه الله : “لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا”(14). 

          • وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : “ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين ، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة ، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما ، فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء ؛ سواء تعصب لمالك ، أو الشافعي ، أو أبي حنيفة ، أو أحمد أو غيرهم ، ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلًا بقدره في العلم والدين وبقدر الآخرين فيكون جاهلًا ظالماً والله يأمر بالعلم والعدل وينهى عن الجهل والظلم”(15). 

          • وقال ابن القيم رحمه الله : ولا يلزم أحدًا قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره ، وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة ، لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام ، وهم أعلى رتبة ، وأجل قدرًا ، وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك ، وأبعد منه قول من قال : يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء ، وأبعد منه قول من قال : يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة ، فيا لله العجب ، ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومذاهب التابعين ، وتابعيهم ، وسائر أئمة الإسلام ، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأئمة والفقهاء! وهل قال ذلك أحد من الأئمة ، أو دعا إليه ، أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه ؟ والذي أوجبه الله تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة ، لا يختلف الواجب ولا يتبدل ، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال ، فذلك أيضًا تابع لما أوجبه الله ورسوله ، … وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم ، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة ، كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده أو غيره من البلاد ، بل إذا صح الحديث وجب عليه العمل به ؛ حجازيًا كان ، أو عراقيًا ، أو شاميًا ، أو مصريًا ، أو يمنيًا …”(16)،  

          • وقال رحمه الله : “وكانوا يسمون المقلد «الإمعة» ، و«مُحْقِبَ دينه» ، كما قال ابن مسعود «الإمعة الذي يحقب دينه الرجال» ، وكانوا يسمونه «الأعمى الذي لا بصيرة له» ، ويسمون المقلدين «أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل صائح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يركنوا إلى ركن وثيق» ، … ، وكما سماه الشافعي «حاطب ليل» ، ونهى عن تقليده وتقليد غيره ؛ فجزاه الله عن الإسلام خيرًا ، لقد نصح لله ورسوله والمسلمين ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وأمر باتباعهما دون قوله ، وأمرنا بأن نعرض أقواله عليهما فنقبل منها ما وافقهما ونرد ما خالفهما ؛ فنحن نناشد المقلدين : هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه ، أم عصوه وخالفوه؟(17)،  

        • وقال الشوكاني رحمه الله : “فانظر إلى هذه البدعة الشيطانية التي فرقت بين أهل هذه الملة الشريفة وصيرتهم على ما يراه من التباين والتقاطع والتخالف ، فلو لم يكن من شؤم هذه التقليدات والمذاهب المبتدعات إلا مجرد هذه الفرقة بين أهل الإسلام ، مع كونهم أهل ملة واحدة ، ونبي واحد ، وكتاب واحد لكان ذلك كافيًا في كونها غير جائزة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الفرقة ، ويرشد إلى الاجتماع ، ويذم المتفرقين في الدين حتى أنه قال في تلاوة القرآن وهو من أعظم الطاعات إنهم إذا اختلفوا تركوا التلاوة ، وأنهم يتلون ما دامت قلوبهم مؤتلفة ، وكذا ثبت ذم التفرق والاختلاف في مواضع من الكتاب العزيز معروفة ؛ فكيف يحل لعالم أن يقول بجواز التقليد ؛ الذي كان سبب فرقة أهل الإسلام ، وانتشار ما كان عليه من النظام والتقاطع بين أهله ، وإن كانوا ذوي أرحام(18). 

      • وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله السؤال التالي هل يمكن أن أختار أحد العلماء الأربعة مثلاً المشهورين لكي أعمل على طريقتهم دون الآخرين ، وأقرأ له لكي أتمكن من التطبيق فعلًا ؟ 

فأجاب : 

ليس لك أن تقلد واحدًا مطلقًا ، بل عليك أن تسأل أهل العلم عما أشكل عليك ، والتقليد لا يجوز ؛ بل يجب على طالب العلم أن ينظر في الأدلة الشرعية ، ويختار ما تقتضيه الأدلة ؛ سواء وافق الأئمة الأربعة أو لم يوافقهم ، وإذا كان عاميًا فإنه لا يقلد أحدًا من هؤلاء ، بل يسأل أهل العلم في زمانه ، أهل العلم بالسنة أهل البصيرة يسألهم عما أشكل عليه ويعمل بما يفتى به(19). 

      • وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله -في ذم التقليد والمقلدين- : “فهذا فريق تباعد عن الكتاب والسُّنة؛ فضلَّ الطريق ، ومالتْ به العصبية ذات الشمال وذات اليمين -نعوذ بالله مِن صنيعه- وقد عظمت بهم المحنة ، واشتدت بهم الأزمة ، وكان الناس في أَمر مريج ، واضطراب شديد ! 

مِنْ هُنَا وَقَعَ التجاذب في المسلم بيْن داعيين : داعي الدليل الأَحق ، وداعي التقليد الأَعمى الأَصم ، وصار مَن الأَبحاث المتولِّدة بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة ، وقد قال كلٌ فيه قولاً ، وبحث آخر فيه بحثًا ، وثالث أَلَّف فيه رسالة ، أَو رسالتين ورابع كتب فيه كتاباً ، أَو كتابين ، وخامس ما ترك مناسبة إلَّا وذكره ، كُلّ على مراده ومشربه ، وما زال دولاب التطاحن والتكاثر فيه مستمرًا حتى عصرنا ؛ فهو محل سجال ، ومعترك نزال ، ووقع بسببه مشاحنات ، وبغضاء ، وتكفير وتبديع ، وتفسيق وتضليل ، وتقاطع ، وتدابر؛ حتى نشبت في بعض الأَصقاع حروب أَبادت الفريقين ، وهيشات أُهْدِرت بسببها دِمَاءُ من شاء الله مِن المسلمين ، وما زال الأمر كذلك حتى تَطَامَنَتِ الفتنة بقلم الحافظين : حافظ المشرق : الخطيب البغدادي ، المتوفـَّى سنة (463 هـ) -رحمه الله تعالى- في كتابه: “الفقيه والمتفقه” ، وحافظ المغرب : ابن عبد البر ، المتوفى سنة (463 هـ) -رحمه الله تعالى- في كتابه : “جامع بيان العلم وفضله” ؛ إِذ حَرَّرا كلمة الفصل بالانتصار لداعي الدليل ، والقدح في الدعوة إلى التعصب الذميم ، والصدَ عن الدليل ، فَلاَح لَدَى المنصفين الحق المبين من الزيْفِ والْمَيْنِ ، لكن هذه قضية للهوى والحظوظ النفسانية فيها غارة ومدخل ، وغاية ومطلب ؛ لأَن أمور القضاء والفتيا كانت ترْسَمُ على مذهب كذا ، والسلطة معهم ، فيصعب اقتحام الدعوى عليهم ، لكَن ما شعر الناس إلا وصوت جهير ينطلق مِن الأرض المباركة ، من رُبى دمشق الشام ، يُعْلِنُ على رؤوس الأَشهاد : فساد التعصب المذهبي ، وغلط المقلدة ، وتغليط الدعوة إلى سدِّ باب الاجتهاد ، وأَن حقيقة ذلك نسخ للشريعة ، والصيحة في وجوه دعاة التعصب المذهبي ، وأَنه بدعة حادثة بعد القرون الفاضلة ، وأَن قول مَن قال بوجوب تقليد فقيه في دين الله لاَ يُخْرَجُ عن قوله إلى الدليل ، ولا إلى غيره مِن المجتهدين : ضلال عظيم ، وبدعة في المسلمين ، وأَن الواجب هو الطواعية لله ودينه وشرعه ، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لا غير ، إلى آخر تلك الحقائق الِإيمانية ، والدعوات الشرعية ، فقال في ذلك وخطب ، وكاتب وكتب ، وأَنكر على الفَعَلةِ ، واستنكر ، ونصح وأَرشد ؛ ذلكم هو شيخ الإسلام «أَبو العباس تقي الدِّين أَحمد بن عبد الحليم بن تيمية النميري الحراني ثم الدمشقي» ، المولود سنة (661 هـ) ، والمتوفَّى سنة (728 هـ) -رحمه الله تعالى-؛ فأثرت دعوته الإصلاحية هذه ، وهَيَّأَ الله له أعوانًا وتلاميذ ، في غرتهم : شمس الدِّين أَبو عبد الله محمد ابن قيم الجوزية ، المتوفى سنة (751 هـ) -رحمه الله تعالى- تلميذه ، وصاحب التصانيف المفيدة ، فكان لهذين الإمامين مِن المباحثات الدقيقة ما تقر به عيون الذين يؤثرون طاعة الله ورسوله ، وطاعة أهل العلم والهدى على أهل التعصب والهوى ، ثم استمرت هذه المدرسة الأَثرية المباركة ، تسير في كل ناحية ، ويظهر لها في كل عصر عالم وداعية ، حتى أَخذ ظِلُّ هذه المحنة يتقلص ، وغشاوته تنجلي ، وَآلت الدعوة إلى التقليد ، والحَجْرِ على العقول ، والصَّدِّ عن الدليل في زاوية يأباها الله ورسوله والمؤمنون ، وَمَا يَسْكنُ إِليها إلَّا متجرئ على الِإثم ، متحمل آثام من يقلده في بدعته. 

هذه إِلماعة مختصرة عما كان عليه أمر الناس ، وما حدث بعد مِن التمذهب ، ثم انشقاقهم فيه إلى فريقين ؛ إلا بقايا مِن أهل العلم كانوا على ما كان عليه الأَئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- حتى عصر الخلفاء الأَربعة -رضي الله عنهم- اكتسبوا لَقَب : “أَهل الحديث” ؛ هذا اللقب المنيف الذي كان مِن قَبْلُ لِشُيُوْخ القرون المفضلة ، ثم قيام ورثتهم في القرن الثامن الهجري بإِحياء مآثرهم ، ودلالة الناس على مدرستهم ، تترسم خُطى النبوة والرسالة ، ومدارج الصحابة ، وَقَفْوَ التابعين لهم بإحسان …”(20). 

نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله .

 


(1) تفسير الطبري (3/288) .

(2) تفسير القرطبي (2/211) .

(3) جامع بيان العلم وفضله (2/977) .

(4) رواه الطبراني (13673) .

(5) رواه الترمذي (824) .

(6) جامع بيان العلم وفضله ؛ لابن عبد البر (1882) .

(7) “أراد الذي يقلد دينه لكل أحد ، أي يجعل دينه تابعا لدين غيره ؛ بلا حجة ولا برهان ولا روية، وهو من الإرداف على الحقيبة”[النهاية في غريب الحديث (1/412)].

(8) شرح مشكل الآثار (15/408) .

(9) أخرجه ابن عبد البر في “الانتقاء من فضائل الثلاثة الائمة الفقهاء” ،ص : (144-145) .

(10)المستخرج على المستدرك ؛ للحافظ العراقي ،ص : (15) .

(11) أخرجه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم” (2/32) .

(12) أخرجه الخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه”(1/150) .

(13) أخرجه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم” (2/149) .

(14) إعلام الموقعين (2/211) .

(15) مجموع الفتاوى (22/252) .

(16) إعلام الموقعين (4/202-203) .

(17) إعلام الموقعين (2/184) .

(18) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد ،ص : (39-40) .

(19) فتاوى نور على الدرب ، موثق من موقع سماحته الرسمي على الشبكة .

(20) المدخل المفصل (1/57-59) .

 

%d مدونون معجبون بهذه: