بِدْعَةُ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ وَأَثَرُهَا فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ ، وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ .
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ السَّيْئَةِ الَّتِيْ سَبَّبَهَا التَّقْلِيْدُ -لِلْمَذَاهِبِ أَوِ الرِّجَالِ- فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ ، مَعَ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيْرِ .
–(الحلقة الرابعة)–
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين … أما بعد :
رَابِعًا : تَحْذِيْرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ بِدْعَةِ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ .
لقد وردت آثار وأقوال كثيرة جدًا ، فيها التحذيرات المتتابعة من بدعة التقليد المذهبي ، وهنا سوف أذكر شيئًا منها ، علها تكون نافعة مذكرة ؛ لي وللقارئ ، ولمن ابتلي بهذه البدعة الخطيرة ،
وقبل ذلك نورد في إبطال التقليد ما يتيسر من أدلة وردت في الأصلين المشرفين ، ومن ذلك :
-
-
-
قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوَا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}[البقرة:166–167]،
-
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية السابقة : “الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله ، ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض ، بل عَمّ جميعهم ، فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة“(1).
-
-
-
-
-
وقوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[البقرة:170-171] ،
-
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية السابقة : “قال علماؤنا : وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد …”(2).
-
وقوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}[المائدة:104]،
-
وقوله تعالى : {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}[يونس: 78]،
-
وقوله تعالى : {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] ،
-
-
-
-
-
قال ابن عبد البر رحمه الله -بعد سرده لبعض ما سبق من آيات– : “وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها ؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر ، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد ، كما لو قُلِّد رجل فكفر ، وقُلِّد آخر فأذنب ، وقُلِّد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها ، كان كلُّ واحد ملومًا على التقليد بغير حجة ؛ لأنَّ كلَّ ذلك تقليد يشبه بعضه بعضًا ، وإن اختلفت الآثام فيه ، وقال الله عز وجل : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] ، وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا ، وفي ثبوته إبطال التقليد أيضًا ، فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول ؛ التي يجب التسليم لها ، وهي : الكتاب والسنة ، أو ما كان في معناهما ؛ بدليل جامع بين ذلك“(3).
-
وعَنْ عَدِي بن حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ ، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًامِنْ دُونِ اللَّهِ} ، حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا ، فَقُلْتُ : إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ ، فَقَالَ :”أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟” ، قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ :”فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ”(4).
-
وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَهُوَ يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : هِيَ حَلَالٌ ، فَقَالَ الشَّامِيُّ : إِنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : “أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَأَمْرَ أَبِي نَتَّبِعُ ؟ أَمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : بَلْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : “لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ“(5)،
-
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : “أَلَا لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنَ آمَنَ ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ“(6)،
-
وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ” كُنَّا نَدْعُو «الْإِمَّعَةَ» فِي الْجَاهِلِيَّةِ : الَّذِي يُدْعَى إِلَى الطَّعَامِ ، فَيَذْهَبُ مَعَهُ بِآخَرَ ، وَهُوَ فِيكُمُ الْمُحْقِبُ(7)دِينَهُ الرِّجَالَ ؛ الَّذِي يَمْنَحُ دِينَهُ غَيْرَهُ ، فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ ذَلِكَ الْغِيَرُ فِي دُنْيَاهُ ، وَيَبْقَى إِثْمُهُ عَلَيْهِ”(8).
-
-
-
-
-
وقال أبو حنيفة رحمه الله :“لا يحلُّ لمن يفتى من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت”(9)،
-
وقال رحمه الله : “إذا صح الحديث فهو مذهبي“(10).
-
وقال مالك رحمه الله : “إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي ؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”(11).
-
وقال الشافعي رحمه الله : “إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بها ، ودعوا ما قلته”(12)،
-
وقال أحمد رحمه الله : “رأي الأوزاعي ، ورأي مالك ، ورأي سفيان كله رأي ، وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار”(13).
-
-
-
-
وقال –أيضاً– رحمه الله : “لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا”(14).
-
-
-
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : “ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين ، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة ، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما ، فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء ؛ سواء تعصب لمالك ، أو الشافعي ، أو أبي حنيفة ، أو أحمد أو غيرهم ، ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلًا بقدره في العلم والدين وبقدر الآخرين فيكون جاهلًا ظالماً والله يأمر بالعلم والعدل وينهى عن الجهل والظلم”(15).
-
وقال ابن القيم رحمه الله : “ولا يلزم أحدًا قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره ، وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة ، لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام ، وهم أعلى رتبة ، وأجل قدرًا ، وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك ، وأبعد منه قول من قال : يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء ، وأبعد منه قول من قال : يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة ، فيا لله العجب ، ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومذاهب التابعين ، وتابعيهم ، وسائر أئمة الإسلام ، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأئمة والفقهاء! وهل قال ذلك أحد من الأئمة ، أو دعا إليه ، أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه ؟ والذي أوجبه الله تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة ، لا يختلف الواجب ولا يتبدل ، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال ، فذلك أيضًا تابع لما أوجبه الله ورسوله ، … وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم ، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة ، كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده أو غيره من البلاد ، بل إذا صح الحديث وجب عليه العمل به ؛ حجازيًا كان ، أو عراقيًا ، أو شاميًا ، أو مصريًا ، أو يمنيًا …”(16)،
-
وقال رحمه الله : “وكانوا يسمون المقلد : «الإمعة» ، و«مُحْقِبَ دينه» ، كما قال ابن مسعود : «الإمعة : الذي يحقب دينه الرجال» ، وكانوا يسمونه : «الأعمى الذي لا بصيرة له» ، ويسمون المقلدين : «أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل صائح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يركنوا إلى ركن وثيق» ، … ، وكما سماه الشافعي : «حاطب ليل» ، ونهى عن تقليده وتقليد غيره ؛ فجزاه الله عن الإسلام خيرًا ، لقد نصح لله ورسوله والمسلمين ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وأمر باتباعهما دون قوله ، وأمرنا بأن نعرض أقواله عليهما فنقبل منها ما وافقهما ونرد ما خالفهما ؛ فنحن نناشد المقلدين : هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه ، أم عصوه وخالفوه؟“(17)،
-
-
وقال الشوكاني رحمه الله : “فانظر إلى هذه البدعة الشيطانية التي فرقت بين أهل هذه الملة الشريفة وصيرتهم على ما يراه من التباين والتقاطع والتخالف ، فلو لم يكن من شؤم هذه التقليدات والمذاهب المبتدعات إلا مجرد هذه الفرقة بين أهل الإسلام ، مع كونهم أهل ملة واحدة ، ونبي واحد ، وكتاب واحد لكان ذلك كافيًا في كونها غير جائزة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الفرقة ، ويرشد إلى الاجتماع ، ويذم المتفرقين في الدين حتى أنه قال في تلاوة القرآن –وهو من أعظم الطاعات– إنهم إذا اختلفوا تركوا التلاوة ، وأنهم يتلون ما دامت قلوبهم مؤتلفة ، وكذا ثبت ذم التفرق والاختلاف في مواضع من الكتاب العزيز معروفة ؛ فكيف يحل لعالم أن يقول بجواز التقليد ؛ الذي كان سبب فرقة أهل الإسلام ، وانتشار ما كان عليه من النظام والتقاطع بين أهله ، وإن كانوا ذوي أرحام“(18).
-
-
-
-
-
-
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله السؤال التالي : هل يمكن أن أختار أحد العلماء الأربعة مثلاً –المشهورين– لكي أعمل على طريقتهم دون الآخرين ، وأقرأ له لكي أتمكن من التطبيق فعلًا ؟
-
-
فأجاب :
“ليس لك أن تقلد واحدًا مطلقًا ، بل عليك أن تسأل أهل العلم عما أشكل عليك ، والتقليد لا يجوز ؛ بل يجب على طالب العلم أن ينظر في الأدلة الشرعية ، ويختار ما تقتضيه الأدلة ؛ سواء وافق الأئمة الأربعة أو لم يوافقهم ، وإذا كان عاميًا فإنه لا يقلد أحدًا من هؤلاء ، بل يسأل أهل العلم في زمانه ، أهل العلم بالسنة أهل البصيرة يسألهم عما أشكل عليه ويعمل بما يفتى به“(19).
-
-
-
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله -في ذم التقليد والمقلدين- : “فهذا فريق تباعد عن الكتاب والسُّنة؛ فضلَّ الطريق ، ومالتْ به العصبية ذات الشمال وذات اليمين -نعوذ بالله مِن صنيعه- وقد عظمت بهم المحنة ، واشتدت بهم الأزمة ، وكان الناس في أَمر مريج ، واضطراب شديد !
-
-
مِنْ هُنَا وَقَعَ التجاذب في المسلم بيْن داعيين : داعي الدليل الأَحق ، وداعي التقليد الأَعمى الأَصم ، وصار مَن الأَبحاث المتولِّدة بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة ، وقد قال كلٌ فيه قولاً ، وبحث آخر فيه بحثًا ، وثالث أَلَّف فيه رسالة ، أَو رسالتين ورابع كتب فيه كتاباً ، أَو كتابين ، وخامس ما ترك مناسبة إلَّا وذكره ، كُلّ على مراده ومشربه ، وما زال دولاب التطاحن والتكاثر فيه مستمرًا حتى عصرنا ؛ فهو محل سجال ، ومعترك نزال ، ووقع بسببه مشاحنات ، وبغضاء ، وتكفير وتبديع ، وتفسيق وتضليل ، وتقاطع ، وتدابر؛ حتى نشبت في بعض الأَصقاع حروب أَبادت الفريقين ، وهيشات أُهْدِرت بسببها دِمَاءُ من شاء الله مِن المسلمين ، وما زال الأمر كذلك حتى تَطَامَنَتِ الفتنة بقلم الحافظين : حافظ المشرق : الخطيب البغدادي ، المتوفـَّى سنة (463 هـ) -رحمه الله تعالى- في كتابه: “الفقيه والمتفقه” ، وحافظ المغرب : ابن عبد البر ، المتوفى سنة (463 هـ) -رحمه الله تعالى- في كتابه : “جامع بيان العلم وفضله” ؛ إِذ حَرَّرا كلمة الفصل بالانتصار لداعي الدليل ، والقدح في الدعوة إلى التعصب الذميم ، والصدَ عن الدليل ، فَلاَح لَدَى المنصفين الحق المبين من الزيْفِ والْمَيْنِ ، لكن هذه قضية للهوى والحظوظ النفسانية فيها غارة ومدخل ، وغاية ومطلب ؛ لأَن أمور القضاء والفتيا كانت ترْسَمُ على مذهب كذا ، والسلطة معهم ، فيصعب اقتحام الدعوى عليهم ، لكَن ما شعر الناس إلا وصوت جهير ينطلق مِن الأرض المباركة ، من رُبى دمشق الشام ، يُعْلِنُ على رؤوس الأَشهاد : فساد التعصب المذهبي ، وغلط المقلدة ، وتغليط الدعوة إلى سدِّ باب الاجتهاد ، وأَن حقيقة ذلك نسخ للشريعة ، والصيحة في وجوه دعاة التعصب المذهبي ، وأَنه بدعة حادثة بعد القرون الفاضلة ، وأَن قول مَن قال بوجوب تقليد فقيه في دين الله لاَ يُخْرَجُ عن قوله إلى الدليل ، ولا إلى غيره مِن المجتهدين : ضلال عظيم ، وبدعة في المسلمين ، وأَن الواجب هو الطواعية لله ودينه وشرعه ، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لا غير ، إلى آخر تلك الحقائق الِإيمانية ، والدعوات الشرعية ، فقال في ذلك وخطب ، وكاتب وكتب ، وأَنكر على الفَعَلةِ ، واستنكر ، ونصح وأَرشد ؛ ذلكم هو شيخ الإسلام : «أَبو العباس تقي الدِّين أَحمد بن عبد الحليم بن تيمية النميري الحراني ثم الدمشقي» ، المولود سنة (661 هـ) ، والمتوفَّى سنة (728 هـ) -رحمه الله تعالى-؛ فأثرت دعوته الإصلاحية هذه ، وهَيَّأَ الله له أعوانًا وتلاميذ ، في غرتهم : شمس الدِّين أَبو عبد الله محمد ابن قيم الجوزية ، المتوفى سنة (751 هـ) -رحمه الله تعالى- تلميذه ، وصاحب التصانيف المفيدة ، فكان لهذين الإمامين مِن المباحثات الدقيقة ما تقر به عيون الذين يؤثرون طاعة الله ورسوله ، وطاعة أهل العلم والهدى على أهل التعصب والهوى ، ثم استمرت هذه المدرسة الأَثرية المباركة ، تسير في كل ناحية ، ويظهر لها في كل عصر عالم وداعية ، حتى أَخذ ظِلُّ هذه المحنة يتقلص ، وغشاوته تنجلي ، وَآلت الدعوة إلى التقليد ، والحَجْرِ على العقول ، والصَّدِّ عن الدليل في زاوية يأباها الله ورسوله والمؤمنون ، وَمَا يَسْكنُ إِليها إلَّا متجرئ على الِإثم ، متحمل آثام من يقلده في بدعته.
هذه إِلماعة مختصرة عما كان عليه أمر الناس ، وما حدث بعد مِن التمذهب ، ثم انشقاقهم فيه إلى فريقين ؛ إلا بقايا مِن أهل العلم كانوا على ما كان عليه الأَئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- حتى عصر الخلفاء الأَربعة -رضي الله عنهم- اكتسبوا لَقَب : “أَهل الحديث” ؛ هذا اللقب المنيف الذي كان مِن قَبْلُ لِشُيُوْخ القرون المفضلة ، ثم قيام ورثتهم في القرن الثامن الهجري بإِحياء مآثرهم ، ودلالة الناس على مدرستهم ، تترسم خُطى النبوة والرسالة ، ومدارج الصحابة ، وَقَفْوَ التابعين لهم بإحسان …”(20).
نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله .
(1) تفسير الطبري (3/288) .
(2) تفسير القرطبي (2/211) .
(3) جامع بيان العلم وفضله (2/977) .
(4) رواه الطبراني (13673) .
(5) رواه الترمذي (824) .
(6) جامع بيان العلم وفضله ؛ لابن عبد البر (1882) .
(7) “أراد الذي يقلد دينه لكل أحد ، أي : يجعل دينه تابعا لدين غيره ؛ بلا حجة ولا برهان ولا روية، وهو من الإرداف على الحقيبة”[النهاية في غريب الحديث (1/412)].
(8) شرح مشكل الآثار (15/408) .
(9) أخرجه ابن عبد البر في “الانتقاء من فضائل الثلاثة الائمة الفقهاء” ،ص : (144-145) .
(10)المستخرج على المستدرك ؛ للحافظ العراقي ،ص : (15) .
(11) أخرجه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم” (2/32) .
(12) أخرجه الخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه”(1/150) .
(13) أخرجه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم” (2/149) .
(14) إعلام الموقعين (2/211) .
(15) مجموع الفتاوى (22/252) .
(16) إعلام الموقعين (4/202-203) .
(17) إعلام الموقعين (2/184) .
(18) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد ،ص : (39-40) .
(19) فتاوى نور على الدرب ، موثق من موقع سماحته الرسمي على الشبكة .
(20) المدخل المفصل (1/57-59) .