بِدْعَةُ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ وَأَثَرُهَا فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ ، وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ .
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ السَّيْئَةِ الَّتِيْ سَبَّبَهَا التَّقْلِيْدُ -لِلْمَذَاهِبِ أَوِ الرِّجَالِ- فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ ، مَعَ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيْرِ .
-(الحلقة الخامسة)-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين … أما بعد :
خَامِسًا :
عَلَاقَةُ بِدْعَةِ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ بِالْاِنْحِرَافِ الْعَقَدِي ، مَعَ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ عَلَى ذَلِكَ .
(1)
إن أعظم مخالفة عقدية يقع فيها كثير من أصحاب هذه البدعة تكمن في أنهم يتعمدون مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما أعظمهما من مخالفة! ؛ خاصة في الأحكام ذات الأدلة الصحيحة الصريحة ، وهم بهذا على خطر عظيم -إن لم يتداركوا أنفسهم- .
وهو في حقيقية أمرهم مخالفة منهم للأصل الذي يرددونه بألسنتهم ، وهو قولهم : “أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا رسول الله” ، يقولون ما لا يفعلون ، ويخالفون ما يدعون من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما يزعمون ،
· قال تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب”[الحشر:7] ،
· وقال تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم”[النور:63] ،
· وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[ المائدة: ١٠٤] ،
· وقال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء:65] ،
· وقال تعالى :{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}[آل عمران:31] ،
· وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : “إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ ؛ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ ؛ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ”[1].
· قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : “عَجِبْتُ لِقَوْمٍ عَرَفُوا اَلْإِسْنَادَ وَصِحَّتَهُ ؛ يَذْهَبُونَ إِلَى رَأْيِ سُفْيَانَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم”[النور:63] ، أَتَدْرِي مَا اَلْفِتْنَةُ ؟ اَلْفِتْنَةُ : اَلشِّرْكُ ؛ لَعَلَّهُ إِذَا رَدَّ بَعْضَ قَوْلِهِ ، أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ اَلزَّيْغِ فَيَهْلِكَ”[2] .
· قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ” … ، وقال مَعْنُ بن عيسى القَزَّاز : سمعت مالكًا يقول : «إنما أنا بشر أُخطئ وأُصيب ، فانظروا في قولي ، فكلُّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وما لم يوافق الكتابَ والسنة فاتركوه»[3]، فرضيَ اللَّه عن أئمة الإسلام ، وجَزَاهم عن نصيحتهم للأمة خيرًا ، ولقد امتثل وصيتَهم وسلك سبيلَهم أهلُ العلم والدين من أتباعهم ، وأما المتعصبون فإنهم عكسوا القضية ، ونظروا في السنة ، فما وافق أقوالَهم منها قبلوه ، وما خالفها تحيَّلوا في ردِّه أو ردِّ دلالته ، وإذا جاء نظيرُ ذلك أو أضعفُ منه سندًا ودلالَةً وكان موافقًا قولَهم قبلوه ، ولم يستجيزوا رده ، واعترضوا به على منُازعيهم ، وأشاحوا وقرَّروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته ، فإذا جاء ذلك السندُ بعينه أو أقوى منه ، ودلالته كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلاف قولهم دفَعُوهُ ولم يقبلوه”[4].
· وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله : “الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلم معنى ذلك في أي شيء كان أن يعمل به ، ولو خالفه من خالفه ، فبذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم ، وأجمع على ذلك العلماء قاطبة ، إلا جهال المقلدين وجفاتهم ، ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم ؛ كما حكى الإجماع على أنهم ليسوا من أهل العلم أبو عمر بن عبد البر وغيره ، قال الله تعالى : {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:3]، وقال تعالى : {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النور:54] ، فشهد تعالى لمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بالهداية ، وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم ليس بمهتد إنما المهتدي من عصاه ، وعدل عن أقواله ، ورغب عن سنته إلى مذهب أو شيخ ونحو ذلك ، وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم ، ويصنف التصانيف في الحديث والسنن ، ثم بعد ذلك تجده جامدًا على أحد هذه المذاهب ، ويرى الخروج عنها من العظائم”[5].
· قال فضيلة الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى : “الواسطة بيننا وبيْن الله : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فنشهد بالله أَنه قد بلَّغَ الرسالة ، وأَدَّى الأَمانة ، وختم الله به النبوة والرسالة ، وأَكمل الله به الديانة ، وجعل شريعته ناسخة لكل شريعة ، قاضية على كل نحلة ووجهة ، فيجب على كل مسلم الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتأسي به ، واتباع سنته ، فإِن مَن أَطاعه أَطاع الله ومَن عصاه فقد عصى الله، وقد قال الله تعالى : {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص:50] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن ربه ، وعلماء أمته مستقون مِن شريعته ، مستدلون بما أَوحاه الله إِليه ؛ فهم وسائط في البلاغ والاستدلال ، ونقل هذا الدِّين ، ونشره …
لهذا فإن إِعراض كثير مِن أهل الأقطار عن الوحيين الشريفين ، وتقليص الاقتباس مِن نورهما في كراسي التعليم ، والاكتفاء بالمذاهب المدونة مِن أعظم الباطل ، وهو مخالِف لأَئمة تلك المذاهب ، وقد أَنتج هذا البلاء العظيم : تحكيم القوانين الوضعية ، ثم تهدئة عواطف الأمة بدعوى المماطلة “تقنين الشريعة” ، وأَنتج : “الغَزْوَ الفِكْرِيَّ” بشتى ضروبه وأشكاله”[6].
(2)
وعند أخذ جولة سريعة في كتب المذاهب نرى المخالفات العديدة التي وقع فيها أصحاب المذاهب في دين الله ، عقيدة وشريعة ،
منها : مخالفة أئمة في المذاهب لما عليه أهل السنة والجماعة في العقيدة والتوحيد ،
ومنها : بدع وقعوا فيها مخالفة للسنة المصطفوية ؛ كتجويزهم شد الرحال إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو قبر غيره من الصالحين ، وتجويزهم إحياء ليلة النصف من شعبان ،
ووفي الفقهيات نحو ذلك من مخالفات ، بل أكثر ؛ “فالإمام أَبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذت عليه مسائل خالف فيها الدليل ، وهو أَكثر الأَئمة المتبوعين في ذلك ؛ لأَنه أَكثرهم رأياً ، فـ:
منها في مذهبه : تركه العمل بحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأَموال ،
وتركه العمل بحديث التغريب للزاني البكر ،
وفي الصلاة : عدم لزوم الطمأنينة فيها ، وأَن تكبيرة الِإحرام لا تتعين للدخول فيها ، ولا السلام للخروج منها ،
وغيرها كثير بسطها ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين .
ومنها في مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى -وهو أَقل من سابقه الإمام أَبي حنيفة- : كراهة صيام الست من شوال ،
وأَن إفراد صيام يوم الجمعة : حسن غير مكروه ،
وعدم الجهر بآمين ، وعدم رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه ،
وعدم قول الإمام : ربنا ولك الحمد ،
والقول بعدم خيار المجلس ،
ومنها في مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى -وهو أقل من سابقيه- رحمة الله على الجميع : نقض الوضوء بمجرد لمس المرأة الأجنبية بدون حائل .
ومنها في مذهب الإمام أَحمد رحمه الله تعالى -وهو أَقل من الأَئمة الثلاثة قبله ، بل هي على ندرة في مذهبه-: صيام يوم الشك احتياطاً ، وهو يوم الثلاثين من شعبان ؛ إذا كانت السماء مغيمة”[7]،
نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله .
(1) رواه البخاري (7307) ، ومسلم (6869) .
([2]) رواه ابن بطة في “الإبانة الكبرى”(1/260) .
(3) رواه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم” (1435) .
(4) إعلام الموقعين (2/143-144) .
(1) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ، ص : (472) .
(2) المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد (1/62-64) .
(1) المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد (1/74-75) ،
وانظر كتاب : “المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ فقهاء الحنفية أئمةَ المذهب المتقدمين ؛ دراسـة نقـديـة حاشية ابن عابدين -من بداية الكتاب إلى نهاية كتاب العبادات- أنموذجاً” ؛ لـ:”عبد الله الشهري” ، وانظر كتاب : “المسائلُ العَقَديَّة التي خالف فيها بعضُ فُقَهاء الشافعيَّة أئمَّة المذهب” ؛ لـ:”عزيزة الكلباني” .