بِدْعَةُ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ وَأَثَرُهَا فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ ، وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ .
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ السَّيْئَةِ الَّتِيْ سَبَّبَهَا التَّقْلِيْدُ -لِلْمَذَاهِبِ أَوِ الرِّجَالِ- فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ ، مَعَ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيْرِ .
-(الحلقة السادسة)-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين … أما بعد :
سَادِسًا :
التَّقْلِيْدُ الْمَذْهَبِيُّ -بِأَنْوَاعِهِ- وَأَثَرُهُ فِيْ الْاِخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ .
لقد تسببت بدعة التقليد المذهبي -كما هو ظاهر ومشاهد في كثير من البلدان- إلى نشوب اختلافات وتفرقات متعددة بين الأنام في أمة الإسلام ، بل إن كثيرًا من الفرق والطوائف كان أحد أسباب تكونها التعصب المذهبي للمذاهب والشيوخ ، حتى صار المذهب المتبع يوالي ويعادي عليه أصحابه ، فدخل -عند ذلك- الشيطان ليحرش بينهم ؛ فنجمت العداوات ، وأضمرت في النفوس الأحقاد والحزازات ، فهجر الأخ أخاه ، وظلم الصديق صديقه ، ساءت بينهم الظنون ، وفسدت لأجل ذلك القلوب ،
وبسبب هذا الخلاف والاختلاف تسلط الأعداء عليهم ، فسقطت بلدانهم في أيديهم ، وساموهم سوء العذاب ، وأذاقوهم صنوف البلاء ،
وما نرى هذا إلا عقوبة إلهية عاقبهم الله تعالى بها لمخالتهم أمره ، وترك الاعتصام بحبله ، وتنكبهم طريق النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنته ، ومجانبتهم سبيل سلف الأمة ،
· قال تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}[آل عمران:130-105] ،
· وقال تعالى : {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}[الأنفال:46] ،
· وقال تعالى : {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[الأنعام: 153] ،
· وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[الأنعام: 159] ،
· وقال تعالى : {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[الروم: 31-32] ،
· وقال تعالى : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النساء:115]
· وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ خِلاَفَهَا ، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ ، وَقَالَ : “كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ ، وَلاَ تَخْتَلِفُوا ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا”[1]،
· وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : “دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ”[2].
· وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين وعلماء المؤمنين ، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده ـ ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران ، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده ، وخطؤه مغفور له ، وعلى المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنما جعل الإمام ليؤتم به» ، وسواء رفع يديه ، أو لم يرفع يديه لا يقدح ذلك في صلاتهم ، ولا يبطلها ؛ لا عند أبي حنيفة ، ولا الشافعي ، ولا مالك ، ولا أحمد … ،
وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها : كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها ؛ حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين ، والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين ، والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا ، وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا ، وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه ، وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المتبعين الظن وما تهوى الأنفس ، المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله ، مستحقون للذم والعقاب”[3].
· وقال ابن القيم رحمه الله : ولما كان التلقِّي عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على نوعين : نوع بواسطة ، ونوع بغير واسطة ، وكان التلقِّي بلا واسطة حظَّ أصحابه الذين حازوا قَصبات السِّباق ، واستولَوْا على الأمد ، فلا طمع لأحد من الأمَّة بعدهم في اللَّحَاق ، ولكن الْمُبَرَّز مَن اتَّبع صراطهم المستقيم ، واقتفى منهاجهم القويم ، والمتخلِّف من عدَل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشِّمال ، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال ، فأي خصلة خير لم يَسبقوا إليها ؟ وأي خطَّة رشد لم يستولوا عليها ؟ تالله لقد ورَدوا رأس الماء من عين الحياة عذبًا صافيًا زُلالاً ، وأيَّدوا قواعد الإسلام فلم يدَعوا لأحد بعدهم مقالاً ، فتحوا القلوب بِعَدلِهم بالقرآن والإيمان ، والقرى بالجهاد بالسيف والسِّنان ، وألقوا إلى التابعين ما تلقَّوه من مشكاة النبوَّة خالصًا صافيًا ، وكان سندهم فيه عن نبيِّهم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ، عن جبريل عن ربِّ العالمين سندًا صحيحًا عاليًا ، وقالوا : هذا عَهْد نبيِّنا إلينا ، وقد عَهِدْنا إليكم ، وهذه وصية ربِّنا وفرضه علينا ، وهي وصيته وفرضه عليكم ، فجرى التَّابعون لهم بإحسانٍ على منهاجهم القويم ، واقتفَوْا على آثارهم صراطَهم المستقيم ، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد ، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج: 24] ، وكانوا بالنِّسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين : {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة:13-14] ،
ثم جاءت الأئمَّة من القرن الرابع المفضَّل في إحدى الروايتين ، كما ثبت في الصَّحيح من حديث أبي سعيد ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وعِمْرانِ بن حُصَين -رضي الله عنهم- فسلكوا على آثارهم اقتصاصًا ، واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباسًا ، وكان دين الله سبحانه أجلَّ في صدورهم ، وأعظم في نفوسهم ، من أن يُقدِّموا عليه رأيًا أو معقولاً أو تقليدًا أو قياسًا ، فطار لهم الثَّناء الحسَنُ في العالَمين ، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدقٍ في الآخِرين ، ثم سار على آثارهم الرعيلُ الأول من أتباعهم ، ودرَج على منهاجهم الموفَّقون من أشياعهم ، زاهدين في التعصُّب للرجال ، واقفين مع الحجة والاستدلال ، يسيرون مع الحقِّ أين سارت ركائبه ، ويستقلُّون مع الصواب حيث استقلَّت مضاربه ، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زَرافات ووُحْدانًا ، وإذا دعاهم الرسول إلى أمرٍ انتدبوا إليه ولا يسألونه عمَّا قال برهانًا ، ونصوصه أجلُّ في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدِّموا عليها قولَ أحدٍ من الناس ، أو يُعارضوها برأيٍ أو قياس ،
ثم خلَف من بعدهم خُلوفٌ فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا ، كلُّ حزب بما لديهم فَرِحون ، وتقطَّعوا أمرهم بينهم زُبرًا ، وكلٌّ إلى ربِّهم راجعون ، جعلوا التعصُّب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون ، ورؤوس أموالهم التي بها يتَّجِرون ، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد ، وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:22] ، والفريقان بمعزلٍ عمَّا ينبغي اتِّباعُه من الصواب ، ولسان الحقِّ يتلو عليهم : {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}[النساء: 123] …
تالله إنَّها فتنةٌ عمَّت فأعْمَت ، ورمَت القلوب فأصمَّت ، ربَا عليها الصغير ، وهرم فيها الكبير ، واتُّخِذ لأجلها القرآنُ مهجورًا ، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطورًا ، ولما عمَّت بها البليَّة ، وعظمت بسببها الرزيَّة ؛ بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها ، ولا يعدُّون العلم إلاَّ إياها ، فطالِبُ الحقِّ من مَظانِّه لدَيْهم مفتون ، ومُؤْثِره على ما سواه عندهم مغبون ، نصَبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل ، وبَغوا له الغوائل ، ورمَوْه عن قوس الجهل والبغي والعناد ، وقالوا لإخوانهم : إنا نخاف أن يبدِّل دينكم ، أو أن يُظْهِر في الأرض الفساد! فحقيقٌ بمن لنفسه عنده قَدْر وقيمة ، ألَّا يلتفت إلى هؤلاء ، ولا يرضى لها بما لديهم ، وإذا رُفِع له علم السُّنة النبوية شَمَّر إليه ، ولم يحبس نفسه عليهم ، فما هي إلاَّ ساعة حتى يُبعثَر ما في القبور ، ويُحصَّل ما في الصدور ، وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله ، وينظر كلُّ عبد ما قدَّمت يداه ، ويقع التمييز بين الْمُحقِّين والمبطلين ، ويعلم المعرضون عن كتاب ربِّهم وسُنَّة نبيهم أنَّهم كانوا كاذبين”[4].
· وقال الشيخ صدِّيق حسن خان رحمه الله -في اختلاف المذاهب في مسألة وضع اليُمنى على اليُسرى- : “ومن الغرائب أنَّها صارَتْ في هذه الدِّيار ، وفي هذه الأعصار عند العامَّة ومَن يُشابههم ممن يظنُّ أنه قد ارتفع عن طبقتهم من أعظم المنكرات ، حتَّى إن المتمسِّك بها يصير في اعتقاد كثيرٍ في عداد الخارجين عن الدِّين! فترى الأخَ يُعادي أخاه ، والوالد يفارق ولده إذا رآه يفعل واحدةً منها -أيْ : مِن هذه السُّنن- وكأنَّه صار متمسكًا بدِين آخَر ، ومنتقلاً إلى شريعة غير الشريعة التي كان عليها ، ولو رآه يزني ، أو يشرب الخمر ، أو يقتل النَّفس ، أو يعقُّ أحد أبويه ، أو يشهد الزُّور ، أو يحلف الفجور ، لم يَجْرِ بينه وبينه من العداوة ما يجري بينه وبينه بسبب التمسُّك بهذه السنن أو ببعضها !
لا جرمَ هذه علامات آخر الزَّمان ، ودلائل حضور القيامة، وقرب السَّاعة”[5].
نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله .