بِدْعَةُ التَّقْلِيْدِ الْمَذْهَبِيِّ وَأَثَرُهَا فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ ، وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ .
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ السَّيْئَةِ الَّتِيْ سَبَّبَهَا التَّقْلِيْدُ -لِلْمَذَاهِبِ أَوِ الرِّجَالِ- فِيْ اِنْتِشَارِ الْبِدَعِ وَظُهُوْرِ الْمُبْتَدِعِيْنَ ، مَعَ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيْرِ .
-(الحلقة السابعة)-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين … أما بعد :
سَابِعًا :
شُبُهَاتٌ وَرُدُوْدٌ وَارِدَةٌ فِيْ هَذَا الْمَوْضُوْعِ .
سنجمل -هنا- أهم الشبهات التي يعرضها أصحاب هذه البدعة -أي : بدعة التقليد المذهبي- فيما يلي ؛ حيث يقولون :
1) هناك نصوص شرعية تثبت التقليد وتقره ؛ كقوله تعالى : {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }[الأنبياء: ٧] ، وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ }[النساء: ٥٩] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : “عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ”[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم : “اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ”[2].
2) وهناك وقائع متعددة تثبت أن كثيرًا من السلف كانوا يقلدون ؛ كتقليد كثير من الصحابة فتوى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمضاء طلاق الثلاث -في مجلس واحد- ثلاثًا ، وفتواه في إفراد الحج ، وغير ذلك ،
3) وهناك وقائع متعددة تثبت أن كثيرًا من أهل العلم كانوا ينتسبون إلى المذاهب بلا نكير ،
4) ونحن المقلدة إنما نقلد علماء كبارًا ، لهم شأنهم بين العلماء ، فهومهم أولى من فهومنا ، وترجيحاتهم أضبط من ترجيحاتنا ،
5) ونحن المقلدة قد قلدنا علماء اختاروا أقوالهم بمقتضى الدليل .
6) ونقول -أيضًا- : لا بد من التقليد ، فهل يعقل أن يكون الناس كلهم مجتهدين ؟!
7) ونقول -أيضًا- : إننا بفعلنا هذا -أي : في التقليد المذهبي- نريد منه -فقط- ضبط المذهب ، وطريقة العلماء في التفقه ، أما معرفة الراجح من الأقوال فهي مرحلة متأخرة ، فلو بدأنا بها لما نضبط مذاهب العلماء المتبعة على وجهها الفقهي الصحيح ،
والجواب على هذه الشبهات يكون بالتالي :
أولاً : أما عن النصوص -أو أعمال السلف- التي ورد فيها ما يدل ظاهرها على مشروعية التقليد فالاستدلال بها على ما تذهبون إليه من مشروعية التقليد غير صحيح ؛ إذ أنه لا دلالة فيها صريحة على ذلك ، كل ما في الأمر هو الحث على سؤال أهل العلم -من الصحابة ، أو من غيرهم- واتباعهم على ذلك بما يوردونه من أدلة يصح بها الاستدلال ، فإذا لم يصح بها الاستدلال فإنه لا يعمل بها ؛ وهذا معروف متفق عليه ، ومن أمثلة ذلك: ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يفتي بأنه لا ربا إلا في النسيئة ،
وكما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إفراد الحج ،
وقد صح عن ابن عمر رضي الله عنه وقد سأله رجل شامي عن التمتع بالعمرة إلى الحج ؟ فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : “هِيَ حَلَالٌ” ، فَقَالَ الشَّامِيُّ : إِنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : “أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا ، وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَأَمْرَ أَبِي نَتَّبِعُ ، أَمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : بَلْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : “لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”[3]،
· قال ابن القيم رحمه الله تعالى : “الوجه الرابع والثلاثون : أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم ، فإن اللَّه سبحانه أمر بسؤال أهل الذكر ، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر اللَّه نساء نبيه أن يذكرنه بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}[الأحزاب: 34] ، فهذا هو الذكر الذي أمرنا اللَّه باتِّباعه ، وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله ، وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزله على رسوله ليخبروه به ، فإذا أخبروه به لم يسعه غيرَ أتباعه ، وهذا كان شأنُ أئمةِ أهل العلم لم يكن لهم مُقلَّد معين يتبعونه في كل ما قال ؛ فكان عبد اللَّه بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أو فَعَله أو سَنَّة ، لا يسألهم عن غير ذلك ، وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصًا عائشة عن فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في بيته ، وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم فقط ، وكذلك أئمة الفقه …
الوجه السابع والأربعون : قولكم : قد صح عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال : «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ الْمَهْدِيِّيْنَ مِنْ بَعْدِي»[4]، وقال : «اِقْتَدُوْا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»[5]، فهذا من أكبر حُججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد ؛ فإنه خلاف سُنتهم ، ومن المعلوم بالضرورة أن أحدًا منهم لم يكن يدع السُّنة إذا ظهرت لقول غيره كائنًا من كان ، ولم يكن له معها قول ألبتَّة ، وطريقة فرقة التقليد خلاف ذلك ، يوضحه :
الوجه الثامن والأربعون : أنه صلى اللَّه عليه وسلم قَرَنَ سُنتهم بسنته في وجوب الاتباع ، والأخذ بسنتهم ليس تقليدًا لهم ، بل اتباعٌ لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ، كما أن الأخذ بالأذان لم يكن تقليدًا لمن رآه في المنام ، والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدًا لمعاذ ، بل اتباعًا لمن أَمرَنا بالأخذ بذلك ، فأين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟”[6].
وقد تبين مما سبق أن سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم المقصود بها : السنة الموافقة لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ،
فإن كانت المسألة لا نص فيها فاجتهاد الصحابة فيها أولى من اجتهاد غيرهم ؛ لأن “قول الصحابي أقرب إلى الصواب من غيره بلا ريب ، وقوله حجة ، بشرطين : أحدهما : ألا يخالف نص كتاب الله تعالى ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والثاني : ألا يخالفه صحابي آخر ؛ فإن خالف الكتاب ، أو السنة فالحجة في الكتاب أو السنة ، ويكون قوله من الخطأ المغفور ، وإن خالف قول صحابي آخر طلب الترجيح بينهما ، فمن كان قوله أرجح فهو أحق أن يتبع ، وطرق الترجيح تعرف إما من حال الصحابي ، أو من قرب قوله إلى القواعد العامة في الشريعة ، أو نحو ذلك … ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في أول كتابه (إعلام الموقعين) : أن فتاوى الإمام -أي : أحمد بن حنبل- مبنية على خمسة أصول ، منها : فتاوى الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، والعلماء مختلفون فيها ، لكن الغالب ، أو اللازم أن يكون هناك دليل يرجح قوله ، أو يخالفه فيعمل بذلك الدليل”[7].
ثانيًا : أما الانتساب إلى المذاهب فالأفضل ألا ينتسب إلى شيء منها ؛ لعدم ورود ذلك عن السلف ، لكن إن انتسب إليها -من دون تعصب- لأجل أنها كانت وسيلته للتفقه في الدين ، فلا مانع من ذلك إن شاء الله ، وعليه يحمل من فعله من الأئمة ،
· قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : “لا مانع من الانتساب إلى المذاهب ، لكن من دون تعصب ، ومن دون جمود على المرجوح إذا عرفت الراجح ، إذا كنت طالب عالم تفهم فعليك أن تأخذ بالأرجح بما يقتضيه الدليل ، ولو خالف مذهبك الذي انتسبت إليه أو نشأت عليه ، وعليك أن تنظر في مسائل الخلاف بالأدلة ، فما قام عليه الدليل وعرفت أنه الأرجح أخذت به ، وإلا سألت أهل العلم عما أشكل عليك ، سألت من تطمئن إليهم من أهل العلم في علمهم وفضلهم وورعهم واستقامتهم حتى يوضحوا لك ما هو الأرجح في مسائل الخلاف”[8].
ثالثًا : أما قولهم : نحن إنما قلدنا علماء أثباتًا ، وأن أقوال هؤلاء العلماء مبنية على الدليل ، فنقول : هذا هو عينه التقليد الممنوع ؛ فالتقليد أخذ قول العالم دون معرفة دليله -كما قدمنا- ولنا أن نقول : وما يدرينا أن هذا العالم الذي قلدتموه قد استدل بدليل صحيح ؛ رواية ودراية ، أما الاتباع المشروع فأخذ قول العالم بدليله الصحيح .
رابعًا : أما قولهم : لا بد من التقليد ، فهل يعقل أن يكون الناس كلهم مجتهدين ؟! فالجواب على هذا قد ذكرناه في الحلقات الأولى ؛ فهناك فرق بين المجتهد والمتبع والمقلد ، فالمجتهد هو الذي له الحق أن يجتهد في المسائل النازلة ؛ والتي يبذل فيها جهدًا ليجد حلاً لها ، بخلاف المتبع والمقلد ، وقد تقدم الكلام عليهما .
خامسًا : أما قولهم : إننا بفعلنا هذا -أي : في التقليد المذهبي- نريد منه -فقط- ضبط المذهب ، وطريقة العلماء في التفقه ، أما معرفة الراجح من الأقوال فهي مرحلة متأخرة ، فلو بدأنا بها لما نضبط مذاهب العلماء المتبعة على وجهها الفقهي الصحيح ، فالجواب على هذه الشبهة -ببساطة- أن نقول :
– إن التفقه في الدين عبادة ، فهل تريدون أن تتعبدوا الله بالأقوال المرجوحة -المخالفة للدليل- من أجل دعواكم المزعومة .
– ثم إن قولكم : إن الطالب المتفقه الذي يأخذ الأقوال بدليلها الصحيح -والمخالف لما عليه أصحاب المذاهب الفقهية- قد لا يضبط المذهب بهذه الطريقة ، وستتوزع به السبل ، وتشتت به الطرق !! فهذا القول منكم مردود ؛ نقلاً ، وعقلاً ، وواقعاً ؛
أما النقل : فقد قدمنا ما يكفي ويشفي من النقول الصحيحة على بطلان التمذهب ،
وأما العقل : فما الذي يمنع الطالب أن يتفقه على الدليل الصحيح ، فهل أصبح الدليل الصحيح عقبة في طريق المقلدين ، نسأل الله العفو والعافية ،
أما الواقع المشاهد ، فكم وكم من العلماء الأثبات مَنْ شرح المتون الفقهية ، على أصولها الصحيحة ، فإذا جاء إلى قول ليس عليه دليل ، أو له دليل ضعيف : رده ، واستعاض عنه بالدليل الصحيح ، ثم مضى في طريقه ، وهو بفعله ذلك -والحمد لله- لم تتوزع به السبل ، ولم تشتت به الطرق ، بل وصل إلى مبتغاه -هو وطلابه- على ما يرضي الله ، وفق سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، على سنن السلف الصالح رضوان الله عليهم .
ثَامِنًا
الْمَنْهَجُ الْحَقُّ فِيْ طَرِيْقَةِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
المنهج الحق في ذلك أن نأخذ علومنا الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة ، وما أجمع عليه الأئمة ، ولا بأس عند الحاجة -إذا نزلت نازلة لا يوجد لحكمها نص- أن نأخذ بالقياس والنظر الصحيح ؛ هذه مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة ، مع التأكيد على ما يلي :
1) وجوب التسليم التام لما جاء في الكتاب والسنة ، ورد التنازع إليهما ، وتحريم إعمال الرأي فيهما ،
· قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}[النساء:59] ،
· قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابقة : “قال مجاهد وغير واحد من السلف : أي : إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه ، من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] ، فما حكم به كتابُ الله وسنةُ رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ؛ ولهذا قال تعالى : {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النور:2]، أي : ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، ومن لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ، ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر ، وقوله : {ذَلِكَ خَيْرٌ} ، أي : التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ، والرجوع في فصل النزاع إليهما خير {وَأَحْسَنُ تَأْوِيْلًا} ؛ أي : وأحسن عاقبة ومآلا ؛ كما قاله السدي وغير واحد ، وقال مجاهد : وأحسن جزاء ، وهو قريب”[9]،
· ويقول ابن القيم رحمه الله -في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}[الحجرات: 2]- : “فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم ، وعقولهم ، وأذواقهم ، وسياستهم ، ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم“[10]،
· ويقول -أيضًا- رحمه الله : “ولم يكن أحد منهم -أي الصحابة- يورد عليه معقولًا يعارض النص البتة ، ولا عرف فيهم أحد -وهم أكمل الأمم عقولًا- عارض نصًا بعقله يومًا من الدهر”[11].
2) الأخذ بالتفسير ومعاني القرآن الكريم يكون على طريقة السلف الصالح ؛ أصحاب القرون المفضلة ، حيث يفسرون القرآن بالقرآن ، والقرآن بالسنة ، ويعتمدون تفاسير الصحابة ؛ لأنهم شاهدوا التنزيل وعلموا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يعلمه غيرهم ، وكذلك تفاسير التابعين ، ومن تبعهم بإحسان ، وكذلك يقال في السنة فلا بد من التقيد بفهم الصحابة لها ، وفهم من تبعهم ، واقتفى آثارهم ، وسلك سبيلهم ، من التابعين وتابعيهم ، ثم سائر علماء الأمة الأخيار ، من أهل السنة والحديث ،
· يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “من المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة ، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة ؛ أن خيرها القرن الأول ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ؛ كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة : من علم ، وعمل ، وإيمان ، وعقل ، ودين ، وبيان وعبادة ، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل ، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وأضله الله على علم ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنْ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ ؛ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ : أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوْبًا ، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا ، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا ، قَوْمٌ اِخْتَارَهُمْ اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ ، وَإِقَامَةِ دِيْنِهِ ، فَاعْرِفُوْا لَهُمْ حَقَّهُمْ ، وَتَمَسَّكُوْا بِهَدْيِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوْا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيْمِ»[12]، … ، هذا وقد قال صلى الله عليه وسلم : «لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ»[13]، …”[14].
· وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : “إن أصح الطرق في ذلك أن :
يفسر القرآن بالقرآن ، فما أجمل في مكان فإنه قد فصل في موضع آخر ، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضوع آخر … ،
فإن لم تجده ففي السنة ، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له …
فإن لم تجده فارجع إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح ، لا سيما كبراؤهم ، كالخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديين : كابن مسعود، وابن عباس …
وإذا لم تجده ، فقد رجع كثير من الأئمة إلى : أقوال التابعين : كمجاهد بن جبر ؛ فإنه كان آية في التفسير … ، وكسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة مولى ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري ، ومسروق بن الأجدع ، وسعيد بن الْمُسَيَّب ، وأبى العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والضحاك بن مُزاحم ، وغيرهم من التابعين ، وتابعيهم ، ومن بعدهم…”[15]،
3) خبر الواحد كالمتواتر في وجوب العمل به ، وقد أجمع على ذلك الأئمة الأثبات ،
· قال الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة” وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها ، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل ، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان ، … ، ومحدِّثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله ، والانتهاء إليه والإفتاء به ، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه ، ويقبله عنه من تحته ، ولو جاز لأحدٍ من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي”[16]،
· وقال رحمه الله : “لم أسمع أحداً -نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم- يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتسليم لحكمه ، فإن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قولٌ بكل حال إلا بكتاب الله ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد لا يختلف فيه الفرض ، وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”[17].
· وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى : “وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار -فيما علمتُ- على قبول خبر الواحد العدل ، وإيجاب العمل به ، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر ، أو إجماع ، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا ، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع ؛ شرذمة لا تعد خلافًا”[18].
نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله -وهي آخرها في هذا الموضوع-.
([1]) رواه أبي داوود (4607) , والترمذي (2870) .
([2]) رواه الترمذي (3662) .
([3]) رواه الترمذي (824) .
([4]) تقدم تخريجه قريبًا .
([5]) تقدم تخريجه قريبًا .
([6]) إعلام الموقعين (3/529-555) .
([7]) مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (26/172) .
([8]) فتاوى نور على الدرب من موقع الشيخ على الشبكة .
([9]) تفسير ابن كثير (2/346) .
([10]) إعلام الموقعين (1/51) .
([11])الصواعق المرسلة (3/1053) .
([12]) أخرجه اللالكائي في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” (130) .
([13]) رواه البخاري (7068) .
([14]) مجموع الفتاوى (4/157-158) .
([15]) مقدمة التفسير ، ص : (44) .
([16]) الرسالة ، ص : (450-453) .
([17]) الأم (7/278) .
([18]) التمهيد (1/2) .