“بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَصْفُهَا الْمُبِيْنُ ، وَحِفْظُهَا الْأَمِيْنُ” .
حَلَقَاتٌ عِلْمِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ ، أَصِفُ فِيْهَا الْبُيُوْتَ الْمُؤْمِنَةَ ؛ عَقِيْدَتَهَا وَأَخْلَاقَهَا ، ثم أُذَكِّرُ بَعْدَهَا بِالتَّرَاتِيْبِ السَّلَفِيَّةِ الضَّرُوْرِيَّةِ فِيْ طُرُقِ وَأَسَالِيْبِ ِحِفْظِهَا مِنْ عُدْوَانِ الْفِرَقِ الْمُعْتَدِيَةِ .
حَلَقَاتٌ مُهِمَّةٌ ، وَبِخَاصَّةٍ فِيْ أَزِمِنَةِ الْغُرْبَةِ ، مُوَجَّهَةٌ لِجَمِيْعِ أَفْرَادِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ ، صَانَهَا اللهُ مِنْ خُطَطِ وَتَدَابِيْرِ ذَوِيْ الشُّرُوْرِ الْكَائِدَةِ .
الحلقة (الثالثة) :
-(بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْإِسْلَامِ)-
“الْوَصْفُ الْعَامُّ”
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :
(مقدمة)
في هذه الحلقة سنتكلم -إن شاء الله تعالى- عن بيوت المؤمنين في الإسلام ، بالوصف العام ؛ عقيدة وأخلاقًا وشريعة ،
تعريفها ،
خصائصها ،
فضائلها ،
صفاتها ، وصفات أهلها ؛
أولياؤها وأعداؤها ،
الآداب المتعلقة بها ،
الأحكام العقدية والفقهية المقررة لها ،
وغير ذلك ،
ثم سنفصل -بحول الله تعالى- في أجزاء وتفاصيل ما يتعلق بهذه البيوت ؛ داخلها ، وخارجها ؛ مما هو له علاقة مباشرة ، أو غير مباشرة ، والله المعين .
ملاحظة / أصلحنا العنوان العام لهذه السلسة ، بغية الاختصار .
أقول وبالله التوفيق :
“بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ”
تعريف “البيوت” لغة : جمع بيت ، والـ”بيت : أصل واحد ، وهو المأوى ، والمآب ، ومجمع الشمل ، يقال بيت وبيوت وأبيات ، ومنه يقال لبيت الشعر : بيت ، على التشبيه ؛ لأنه مجمع الألفاظ ، والحروف ، والمعاني ، على شرط مخصوص ، وهو : الوزن ، … ، والبيت عيال الرجل ، والذين يبيت عندهم ، … ، وبيَّت الأمر إذا دبَّره ليلًا”[1]، “وقد يقال للمبني من غير الأبنية التي هي الأخبية بيت ؛ والخباء : بيت صغير من صوف أو شعر ، فإذا كان أكبر من الخباء ، فهو بيت ، ثم مظلة إذا كبرت عن البيت ، وهي تسمى بيتًا -أيضًا- إذا كان ضخمًا مُرَوَّقًا”[2]
والمؤمنون ، هم : الأفراد الْمُقِرُّوْنَ ؛ قولاً وعملاً .
واصطلاحًا : هي البيوت التي يختص بها المؤمنون وأهلوهم ، ليقضوا فيها حياتهم .
وَقَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ عَامَّةً ، وَأَهْلِ الْإِيْمَانِ بِخَاصَّةٍ بَأَنْ جَعَلَ لَهُمْ بُيُوْتًا مُنَاسِبَةً لَهُمْ ،
يسكنونها وأهلوهم ، وفيها يبيتون ،
تكنهم من الحر والقر ، وتؤمنهم في زمن الفتن ،
مُؤَسَّسَةٌ على تقى من الله ونور ورضوان ،
ينشؤونها بالمال الحر ، الطاهر الحلال ؛ بلا رياء ، ولا فخر ، ولا إسراف ،
فيها يعاشرون أهليهم ، ومعهم يأتلفون ،
وفيها يَأْنسون مع أولادهم ، وأرحامهم ، وأقاربهم ، وجيرانهم ، وإياهم يُؤْنسون ،
وفيها يتعبدون الله تعالى ، والقرآن له يقرؤون ، وبه يصلون ،
وفيها يتعلمون العلوم الشرعية ويعلِّمون ،
وفيها يربون أولادهم ونساءهم ومشكلاتهم يحلون ،
وفيها تكمن سعادتهم ، فإن خرجوا منها لحاجة ؛ فإليها بعد انقضائها يسارعون ،
وفيها يحفظون حقوق الجيران ؛ فلا أذية واقعة عليهم ولا إضرار ،
وفيها يكرمون الضيف بلا مَنٍّ ولا إقتار ،
ولهم في بيوتهم -غير ما ذكرنا- مآرب شتى ، ومقاصد جُلَّى ، يعرفها من عرف فضل الله عليه في هذه البيوت ،
وقد دل على ذلك نصوص وآثار كثيرة ، نذكر منها :
قَوْلَهُ تَعَالَى : {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِين}[النحل:80] ،
وَقَوْلَهُ تَعَالَى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين}[يونس:87] ،
وَقَوْلَهُ تَعَالَى : {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين}[الأعراف:74] ،
وَقَوْلَهُ تَعَالَى : {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}[التوبة:109]
يَقُوْلُ اِبْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِيْ تَفْسِيْرِ آيَةِ النَّحْلِ السَّابِقَةِ : “يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده ، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم ؛ يأوون إليها ، ويستترون بها ، وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع ، {وَجَعَلَ لَهُمْ} -أَيْضًا- : {مِن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} ؛ أي : من الْأَدَمِ ، يستخفون حملها في أسفارهم ، ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ، ولهذا قال : {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا} ؛ أي : الغنم ، { وَأَوْبَارِهَا } ؛ أي : الإبل ، { وَأَشْعَارِهَا } ؛ أي : المعز -والضمير عائد على الأنعام- ، {أَثَاثًا} ؛ أي : تتخذون منه أثاثًا ، وهو المال ، وقيل : المتاع ، وقيل : الثياب ، والصحيح أعم من هذا كله ، فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك ، ويتخذ مالا وتجارة”[3]،
وَيَقُوْلُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ فِيْ تَفْسِيْرِ آيَةِ التَّوْبَةِ السَّابِقَةِ : {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ} ؛ أي : على نية صالحة وإخلاص ، {وَرِضْوَانٍ} : بأن كان موافقا لأمره ، فجمع في عمله بين الإخلاص والمتابعة ، {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا} ؛ أي : على طرف {جُرُفٍ هَارٍ} ؛ أي : بال ، قد تداعى للانهدام ، {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : لما فيه مصالح دينهم ودنياهم”[4]،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”[5]،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ : الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ ، …”[6]،
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : “امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ”[7]،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “أَفْضَلُ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ”[8]،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِى تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ”[9].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ”[10]،
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ : “الْزَمُوا فِي آخِرِ الزَّمَانِ الصَّوَامِعَ ، يَعْنِي الْبُيُوتَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ يَنْجُو مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَّا صَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ”[11].
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ : “أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟” ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : “أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟” ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : “فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ” ، قَالَ : فَإِنَّ لِي خَادِمًا ، قَالَ : “فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ”[12]،
وَهَذِهِ النِّعَمُ لَمْ تُقْتَصَرْ عَلَى الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ ، بَل شَمِلَهَا رَبُّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ غَيْرَ الْإِنْسَانِ ؛ قَالَ تَعَالَى : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُون}[النحل:68] ،
يَقُوْلُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ فِيْ تَفْسِيْرِ آيَةِ النَّحْلِ السَّابِقَةِ : “في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر لها المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها ، وهدايته لها ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها ، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة ، فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام لطفه بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه”[13]،
نُكْمِلُ فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ بِحَوْلِ اللهِ ،
([1]) معجم مقاييس اللغة (1/324-325) .
([2]) لسان العرب (2/14) .
([3]) تفسير ابن كثير (4/591) .
([4]) تيسير الكريم الرحمن ، ص : (351) .
([5]) رواه الترمذي (2346) ، وابن ماجه (4141) .
([6]) رواه ابن حبان (4032) .
([7]) رواه الترمذي (2406) .
([8]) رواه الترمذي (450) ، وأصله في الصحيحين .
([9]) رواه مسلم (1774) .
([10]) رواه البخاري (6018) ، ومسلم (83) .
([11]) الإبانة الكبرى ؛ لابن بطة (761) .
([12]) رواه مسلم (7572) .
([13]) تيسير الكريم الرحمن ، ص : (444) .