القائمة إغلاق

عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .

تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …

الحلقة (54)

-الجزء الثاني-

نسخة رقمية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :

تَفْكِيْرَانِ مُخْتَلِفَانِ … لَا يَجْتَمِعَانِ .

قَدْ تَكَلَمْنَا فِيْ الْحَلْقَةِ الْمَاضِيَةِ عَنِ الْمَعَالِمِ الْوَاضِحَةِ لِأَهْلِ الْإِيْمَانِ وَالسُّنَّةِ فِيْ التَّفْكِيْرِ الصَّحِيْحِ ، وَفِيْ هَذِهِ الْحَلْقَةِ -بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى- سَوْفَ نُكْمِلُ فِقَرَاتِ هَذَا الْمَوْضُوْعِ ، فَنَقُوْلُ وَبِاللهِ التَّوْفِيْقُ :

ثَانِيًا :

“الْفُرُوْقُ الْجَلِيَّةُ بَيْنَ تَفْكِيْرِ ِأَهْلِ الْإِيْمَانِ وَالسُّنَّةِ وَتَفْكِيْرِ غَيْرِهِمْ” .

سَوْفَ نُجْرِي -هُنَا- الْفُرُوْقَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَ تَفْكِيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِيْمَانِ ، وَتَفْكِيْرِ غَيْرِهِمْ ؛ نَبْدَأُ -أَوَّلًا- بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِيْمَانِ ؛ فَنَقُوْلُ :

عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِيْمَانِ : عَمَلِيَّةُ تَفْكِيْرِ الْإِنْسَانِ بِعَقْلِهِ فِطْرَةٌ خَلَقَهَا اللهُ فِيْهِ ، وَهِيَ مِنْ ضِمْنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا ، حَيْثُ يُوْلَدُوْنَ عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ ، وَتَوْحِيْدِهِ ، فَيَتَوَجَّهُ التَّفْكِيْرُ عِنْدَهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّفْكُّرِ فِيْ آلَاءِ اللهِ تَعَالَى ، وَآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ ، أَوِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّيْنِيِّةِ ، ثُمَّ يَسْتَمِرُّ مَعَهُمْ هَذَا التَّفْكِيْرُ الصَّحِيْحُ ، وَيَزِيْدُ كُلَّمَا زَادَ قُرْبُهُمْ مِنَ اللهِ ، وَنَمَا عِلْمُهُمْ وَإِيْمَانُهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ ، مُصَدِّقِيْنَ بِمَا أَنَزَلَهُ اللهُ فِيْ كُتُبِهِ ، وَبِمَا أَخَبَرَ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ أُمُوْرِ الْغَيْبِ ، وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ ؛ لَا يَتَجَاوَزُوْنَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةِ ؛ يَحْفَظُوْنَهُمَا ، وَيَعْمَلُوْنَ بِمَا فِيْهِمَا -عَنْ فَهْمٍ وَدِرَايَةٍ- لَا يَحِيْدُوْنَ عَنْهُمَا قِيْدَ أَنْمُلَةٍ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُوْقِنِيْنَ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِيْنَ ، وَبِوَعِيْدِهِ لِلْعَاصِيْنَ ، ثَابِتِيْنَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ إِلَى مَمَاتِهِمْ ، حَذِرِيْنَ فِيْ سَيْرِهِمْ فِيْ حَيَاتِهِمْ مِنْ كُلِّ تَفْكِيْرٍ يُعَكِّرُ صَفْوَ هَذِهِ الْفِطْرَةِ النَّقِيَّةِ السَّلِيْمَةِ ؛ كَتَفْكِيْرِ الْمَلَاحِدَةِ ، أَوِ الْفَلَاسِفَةِ ، أَوْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ ، أَوْ تَفْكِيْرِ الْحَدَاثِيِّيْنَ ، أَوِ اللِّيْبِرَالِيِّيْنَ ، أَوِ الْعَلْمَانِيِّيْنَ ، أَوِ التَّنْوِيْرِيِّيْنَ ، أَوْ تَفْكِيْرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُتَكَلِّمِيْن ، وَالْمُتَأَثِّرِيْنَ بِهِمْ ، مِنْ جَمِيْعِ جِهَاتِ الْفِرَقِ ، وَمُخْتَلَفِ الطَّوَائِفِ ؛ مِمَّا سَنَذْكُرُ وَصْفَهُ قَرِيْبًا -إِنْ شَاءَ اللهُ- .     

وَتَفْكِيْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِيْمَانِ -الْمَوْصُوْفُ سَلَفًا- هُوَ هُوَ تَفْكِيْرُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ عَلَى مَرِّ الْعُصُوْرِ ، شِعَارُهُمْ : “وَإِنْ تُطِيُعُوْهُ تَهْتَدُوْا”[النور:54] ، وَ”اتَّبِعُوْاَ وَلَا تَبْتَدِعُوْا فَقَدْ كُفِيْتُمْ”[1]، فَلِذَا نَرَى أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِيْنَا -مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ- مَا سَادُوْا ، وَلَا عَلَوْا ، وَلَا اِنْتَصَرُوْا عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ بِالصِّنَاعَاتِ ، وَالْأَسْلِحَةِ الْمُخْتَلِفَةِ أَبَدًا ، مَا كَانَ اِنْتِصَارُهُمْ ، وَرِفْعَتُهُمْ -مَعَ قِلَّةٍ فِيْهِمْ ، وَفَقْرٍ ، وَضَعْفٍ- إِلَّا بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ ، وَالْإِيْمَانِ ، وَالْعَمَلِ ، وَالْيَقِيْنِ بِاللهِ ، وَالتَّارِيْخُ شَاهِدٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَبِرَ ،

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِيْمَانِ يُدْرِكُوْنَ -بِمَا فَهِمُوْهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَيِّ اِزْدِهَارٍ يَحْصُلُ ، وَيَكُوْنَ مُوَفَّقًا مُسَدَّدًا إِلَّا بَعْدَ تَثْبِيْتِ قَاعِدَةِ التَّمَسُّكِ بِالْأَصْلَيْنِ الْمُشَرَّفَيْنِ ؛ وَالْعَمَلِ بِهِمَا كَمَا فَهِمَهُ السَّابِقُوْنَ الْأَوَّلُوْنَ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ وَالْأَنْصَارِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَمَنْ رَامَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ رَامَ مُسْتَحِيْلًا ، وَالتَّارِيْخُ -قَدِيْمُهُ وَحَدِيْثُهُ- شَاهِدٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَبِرَ ،

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِيْمَانِ -مَعَ هَذَا- لَا يُغْفِلُوْنَ أَهَمِيَّةَ الْعَقْلِ الصَّرِيْحِ فِيْ التَّفْكِيْرِ ، فَهُوَ فِطْرَةٌ أَوْدَعَهَا اللهُ فِيْ الْإِنْسَانِ -كَمَا قَدَّمْنَا- هُوَ مُهِمٌّ غَايَةً فِيْ الْأَهَمِيَّةِ ، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ تِأَمَّلَ وَتَدَبَّرَ ، وَأَعْمَلَ عَقْلَهُ ؛ فَـ:

قَالَ جَلَّ وَعَلَا : {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43] ، وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ : {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}[البقرة:269] ، فـ :”الْعَقْلُ شَرْطٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ ، وَكَمَالِ ، وَصَلَاحِ الْأَعْمَالِ ، وَبِهِ يَكْمُلُ الْعِلْمُ ، وَالْعَمَلُ ؛ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ فِي النَّفْسِ ، وَقُوَّةٌ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَصَرِ ؛ الَّتِي فِي الْعَيْنِ ؛ فَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الْإِيمَانِ ، وَالْقُرْآنِ كَانَ كَنُورِ الْعَيْنِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الشَّمْسِ ، وَالنَّارِ ، وَإِنْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُبْصِرْ الْأُمُورَ ؛ الَّتِي يَعْجِزُ وَحْدَهُ عَنْ دَرْكِهَا ، وَإِنْ عُزِلَ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَتْ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ مَعَ عَدَمِهِ أُمُورًا حَيَوَانِيَّةً ؛ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَحَبَّةٌ ، وَوَجْدٌ ، وَذَوْقٌ ؛ كَمَا قَدْ يَحْصُلُ لِلْبَهِيمَةِ”[2]،

نُكْمِلُ فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ …



[1] الإبانة ؛ لابن بطة (174) .

[2] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/339) .

%d