القائمة إغلاق

عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .

تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …

الحلقة (54)

-الجزء الثالث-

نسخة رقمية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :

تَفْكِيْرَانِ مُخْتَلِفَانِ … لَا يَجْتَمِعَانِ .

لَا زِلْنَا مُسْتَمِرِّيْنَ فِيْ ذِكْرِ الْفُرُوْقِ الْمُهِمَّةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ تَفْكِيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِيْمَانِ ، وَتَفْكِيْرِ غَيْرِهِمْ ؛ وَكُنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِيْ الْحَلْقَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ تَفْكِيْرَ أَهْلِ السُّنَّةِ يُبْنَي عَلَى قَاعِدَةٍ مَتِيْنَةٍ أَصِيْلَةٍ ، لَا يَصِحُّ بِدُوْنِهَا ؛ وَلَا يَسْتَقِيْمُ أَيُّ تَفْكِيْرٍ إِلَّا بِهَا ، وَهِيَ قَاعِدَةُ التَّسْلِيْمِ التَّامِّ لِمَا جَاءَ فِيْ الْأَصْلَيْنِ الْمُشَرَّفَيْنِ -الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- عَلَى فَهْمِ السَّلَفِ الْأَبْرَارِ السَّابِقِيْنَ ، وَأَنَّ عَقْلَ صَاحِبِ الْفِطْرَةِ النَّقِيِّةِ لَا يُمْكِنُ -أَبَدًا- أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُخَالِفُهُمَا ، وَمَا لَمْ يُدْرِكْهُ عَقْلُهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ مِنْهُمَا ، فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ ، وَيُطِيْعُ ، وَيَنْصَاعُ لَهُ ؛ طَوَاعِيَةً للهِ وَرَسُوْلِهِ .

وَفِيْ هَذِهِ الْحَلْقَةِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- سُنَعَزِّزُ مَا قُلْنَاهُ هُنَاكَ بِبَعْضِ الْأَدِّلَّةِ ، والنُّقُوْلِ الْمَأْثُوْرَةِ عَنِ الْأَئِمَّةِ :  

قَالَ اللهُ تَعَالَى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا}[الأحزاب:36] ،

وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ[1].

وَعَنْ مُعَاذَةَ ، قَالَتْ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَقُلْتُ : مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ قُلْتُ : لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ ، قَالَتْ : كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ”[2]،

وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : كُلُّ شَيْءٍ خَالَفَ أَمْرَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ ، وَلَا يَقُوْمُ مَعَهُ رَأْيٌ وَلَا قِيَاسٌ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَطَعَ الْعُذْرَ بِقُوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌّ غَيْرَ مَا أَمَرَ هُوَ بِهِ”[3]،

وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد رَحِمَهُ اللهُ : “وَلَيْسَ فِيْ السُّنَّةِ قِيَاسٌ ، وَلَا تُضْرَبْ لَهَا الْأَمْثَالُ ، وَلَا تُدْرَكُ بِالْعُقُوْلِ ، وَالْأَهْوَاءِ ، إِنَّمَا هِيَ الْاِتِّبَاعُ ، وَتَرْكُ الْهَوَى”[4].

وَقَالَ الْإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : “وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيْمِ وَالْاِسْتِسْلَامِ ؛ فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيْمِ فَهْمُهُ حَجَبَه مَرامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيْدِ ، وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ ، وَصَحِيْحِ الْإِيْمَانِ ؛ فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيْمَانِ ، وَالتَّصْدِيْقِ وَالتَّكْذِيْبِ ، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ ، مُوَسْوِسًا تَائِهًا ، شَاكًّا زائِغًا ، لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا ، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّباً”[5]،

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ كُلُّهُ حَقٌّ ؛ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِفِطْرَةِ الْخَلَائِقِ ، وَمَا جُعِلَ فِيهِمْ مِنْ الْعُقُولِ الصَّرِيحَةِ ، وَالْقُصُوْدِ الصَّحِيْحَةِ ، لَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ ، وَلَا الْقَصْدَ الصَّحِيْحَ ، وَلَا الْفِطْرَةَ الْمُسْتَقِيْمَةَ ، وَلَا النَّقْلَ الصَّحِيْحَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ تَعَارُضَهَا مَنْ صَدَّقَ بِبَاطِلِ مِنَ النُّقُولِ ، أَوْ فَهِمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ، أَوِ اعْتَقَدَ شَيْئًا ظَنَّهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَهُوَ مِنَ الْجَهْلِيَّاتِ ، أَوْ مِنَ الْكُشُوفَاتِ ، وَهُوَ مِنْ الْكُسُوْفَاتِ ؛ إنْ كَانَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِمَنْقُولِ صَحِيْحٍ ، وَإِلَّا عَارَضَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ ، أَوِ الْكَشْفِ الصَّحِيْحِ مَا يَظُنُّهُ مَنْقُولًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ كَذِبًا عَلَيْهِ ، أَوْ مَا يَظُنُّهُ لَفْظًا دَالًّا عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ دَالًّا عَلَيْهِ”[6]،

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “مَا عُلِمَ بِصَرِيْحِ الْعَقْلِ الَّذِيْ لَا يَخْتَلِفُ فِيْهِ الْعُقَلَاءُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَارِضَهُ الشَّرْعُ الْبَتَّةَ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ فِيْمَا تَنَازَعَ الْعُقَلَاءُ فِيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ وَجَدَ مَا خَلْفَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ شُبَهَاتٍ فَاسِدَةً ؛ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ بُطْلَانُهَا ، بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ ثُبُوتُ نَقِيضِهَا ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ ، وَالصِّفَاتِ ، وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ ، وَالنُّبُوَّاتِ ، وَالْمَعَادِ ، تَجِدْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْعَقْلِ لَمْ يُخَالِفْهُ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرُّسُلَ لَا يُخْبِرُونَ بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ ، وَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَجَازَاتِ الْعُقُولِ فَلَا يُخْبِرُونَ بِمَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ”[7]،

وَقَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيْزِ بْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ : “فَالشَّرَائِعُ تَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيْهِ الْعُقُوْلُ وَلَكِنْ لَا تَأْتِي بِمَا تُحِيْلُهُ الْعُقُوْلُ ، الْعُقُوْلُ الصَّحِيْحَةُ السَّلِيْمَةُ تَخْضَعُ ، مَا تُحِيْلُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، وَلَا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيْزُ ، قَدْ تَحَارُ وَلَا تَعْرِفُ الْحِكْمَةُ ، لَكِنْ تَرْجِعُ إِلَى الصَّوَابِ ، الْحِكْمَةُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- إِنْ ظَهَرَتْ لَكَ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَإِلَّا فَهُوَ حَكِيْمٌ عَلِيْمٌ وَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ حِكْمَتَهُ ، فَهُوَ حَكِيْمٌ عَلِيْمٌ ، عَلَيْكَ أَنْ تَخْضَعَ لِقَوْلِهِ وَشَرْعِهِ ، وَإِنْ جَهِلْتَ الْحَكِمَةَ ، فَاللهُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ الْحَكِيْمُ الْعَلِيْمُ ، وَإِنْ أَبَيْتَ وَقُلْتَ : إِنَّهُ مَا ظَهَرَ لَكَ الْحِكْمَةَ ، فَاللهُ أَحْكَمُ مِنْكَ ، وَأَعْلَمُ مِنْكَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَهُوْ الْحَكِيْمُ الْعَلِيْمُ قَطْعًا ، وَأَنْتَ إِذَا كُنْتَ مُسْلِمٌ تُسَلِّمُ بِهَذَا ، تُؤْمِنُ بِأَنَّه حَكِيْمٌ عَلِيْمٌ ، فَإِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ فَاخْضَعْ لِهَذَا الشَّيْءِ ، وَأَلْغِ عَقْلَكَ إِذَا ثَبَتَ النَّصُّ ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ حَكِيْمٌ عَلِيْمٌ ، وَأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْكَ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ-سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى-“[8]

 نُكْمِلُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ …



[1] رواه أبو داوود (162) .

[2] رواه مسلم (689) .

[3] الأم (2/193) .

[4] شرح أصول أهل السنة ؛ للالكائي (317) .

[5] متن الطحاوية ، ص : (43) .

[6] الرسالة العرشية ، ص : (36) .

[7] مختصر الصواعق ، ص : (166) .

[8] فتاوى نور على الدرب (موقع سماحته على الشبكة) .

%d مدونون معجبون بهذه: