القائمة إغلاق

تَفْكِيْرَانِ مُخْتَلِفَانِ … لَا يَجْتَمِعَانِ.

نَظَرَاتٌ نَاقِدَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتُهُ بَعْضُ الْمُقَرَّرَاتِ الدِّرَاسِيَّةِ والَّتِيْ تُعْنَى بِـ”التَّفْكِيْرِ النَّاقِدِ” ، مِنْ خِلَالِ عَقْدِ مُقَارَنَةٍ بَيْنَ تَفْكِيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَتَفْكِيْرِ مُخَالِفِيْهِمْ ، “وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ” .

 -الحلقة الثالثة-

نسخة رقمية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين … أما بعد :

(مقدمة)

وفي هذه الحلقة -إن شاء الله- سوف أنقل مجموعة نقول مهمة عن علماء الأمة تبين :

ضَرَرَ تقديس العقل على الفرد والمجتمع ، وما أنتجه من قوانين مخالفة للشريعة المحكمة المطهرة ، وَالرَّدَّ على الطريقة التشكيكية في التفكير ،

وَكَذَلِكَ نقولاً أخرى تبين خطورة الطريقة الفلسفية المنطقية الأرسطية في التعليم ،

فأقول وبالله التوفيق وبه أستعين :

(1)

العقل الفاسد ، ونتاجه الآسن الآجن -المضاد للفطرة النقية ، والشريعة الحنيفية- من أفدح ما منيت به الأمة في هذه الأزمنة ؛ إذ به يشرعن الباطل ، وتؤد به العقائد ، وتنخر به أخلاق الأمم المحافظة ، ومن أقبح نتائجه -الآن- ما يسمى بـ”القوانين الوضعية” ، التي بها بدلت الشريعة ، ونُحِّيَتْ بطريقة ممنهجة منظمة ، من قبل طوائف منحرفة ضالة ؛ ليبرالية ، علمانية ، حداثية ، وَجَّهُوْا سِهَامَهُمْ -أولاً- عن طريق الكتابات في الصحف ، والمجلات ، مركزين على نقد اليقينيات ، والتشكيك في المسلمات ، وتقديس العقول والآراء ؛

ثُمَّ اِنْتَقَلُوْا بَعْدَهَا إلى دوائر قريبة من صناع القرار ليخترقوها ؛ فلما اخترقوها ، ودان لهم الأمر منهجوا طريقتهم في مناهج يدرسها الطلاب والناشئة ،

ثُمَّ هُمُ -الْآنَ-يَنْتَظِرُوْنَ الْمَرْحَلَةَ التَّالِيَةَ ليفرضوها واقعًا فعليًا تحكم البلدان بها ، ويلزم العباد بدساتيرها ،

نسأل الله ألا يحقق لهم مرامهم ، وأن يجعل ما كادوه وأضمروه سهامًا ترجع إلى نحورهم ، اللهم آمين ،

(2)

وقد جاءت في ذم ذلك نصوص ، وآثار ، وأقوال لعلماء أثبات ، فـ:

فِيْ ذَمِّ تَقْدِيْسِ الْعَقْلِ ، وَتَقْدِيْمِهِ عَلَى النُّصُوْصِ الْمُنَزَلَةِ  :

قَالَ اللهُ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم}[الحجرات:1] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا}[الأحزاب:36] ،

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : “إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ ، فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”[1]،

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلِامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها ، هو من فعل المكذبين للرسل ، بل هو جماع كل كفر ، كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بالملل والنحل ما معناه : «أصل كل شر هو من معرضة النص بالرأي ، وتقديم الهوى على الشرع» ، وهو كما قال ، فإن الله أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، وبين أن المتبعين لما أنزل هم أهل الهدى والفلاح ، والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال ؛

كما قال تعالى : “قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[طه:123-126] ،

ومعلوم أن الكلام الذي جاءت به الرسل عن الله نوعان : إما إنشاء وإما خبر ، والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة ، فأصل السعادة تصديق خبره ، وطاعة أمره ، وأصل الشقاوة معارضة خبره وأمره بالرأي والهوى ، وهذا هو معرضة النص بالرأي ، وتقديم الهوى على الشرع ، ولهذا كان ضلال من ضل من أهل الكلام والنظر في النوع الخبري ، بمعارضة خبر الله عن نفسه وعن خلقه بعقلهم ورأيهم ، وضلال من ضل من أهل العبادة والفقه في النوع الطلبي ، بمعارضة أمر الله الذي هو شرعه بأهوائهم وآرائهم ، والمقصود هنا أن معارضة أقوال الرسل بأقوال غيرهم من فعل الكفار ، كما :

قال تعالى : {مَا يُجَادِلُ فِيْ آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِيْنَ كَفَرُوْا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِيْ الْبِلَادِ} إلى قوله : {وَجَادَلُوْا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوْا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 4-5] .

وقوله تعالى : {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِيْنَ إِلَّا مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ وَيُجَادِلُ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوْا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56] .

وقوله تعالى : {مَا يُجَادِلُ فِيْ آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِيْنَ كَفَرُوْا} [غافر 4] ، مصدق لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «مِرَاءٌ فِيْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ»[2].

ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن ، وجادل في ذلك بعقله ورأيه ، فهو داخل في ذلك ، وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله ، بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله ، فقد دخل في ذلك ، فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة”[3].

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “ومن حيله ومكايده -أي الشيطان اللعين-: الكلام الباطل ، والآراء المتهافتة ، والخيالات المتناقضة ، التي هي زبالة الأذهان ، ونُحاتة الأفكار ، والزبد الذى يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة ، التي تعدل الحق بالباطل ، والخطأ بالصواب ، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات ، ورانت عليها غيوم الخيالات ، فمركبها القيل والقال ، والشك والتشكيك ، وكثرة الجدال ، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه ، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ، فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورًا ، وقالوا من عند أنفسهم فقالوا منكرًا من القول وزورًا ؛ فهم في شكهم يعمهون ، وفى حيرتهم يترددون ، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال ، فهم إليه يتحاكمون ، وبه يتخاصمون ، فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا ، وضلوا عن سواء السبيل ،

وَمِنْ كَيْدِهِ بِهِمْ ، وَتَحَيُّلِهِ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّيْنِ : أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية ، لا تفيد اليقين ، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية ، والبراهين اليقينية في المناهج الفلسفية ، والطرق الكلامية ، فحال بينهم ، وبين اقتباس الهدى واليقين من مشْكاة القرآن ، وأحالهم على منطق يونان ، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العريَّة عن البرهان ، وقال لهم : تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان ، ومرت عليها القرون والأزمان ، فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان والدين ، كإخراج الشعرة من العجين”[4]،

وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوَانِيْنَ الْوَضْعِيَّةِ ، الَّتِيْ هِيَ نَتَاجُ الْعُقُوْلِ الْجَانِحَةِ عَنِ السَّبِيْلِ السَّوِيَّةِ ، وَاِسْتِبْدَالِ الشَّرِيْعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِهَا فَهُوَ كُفْرٌ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ الْحَنِيْفِيَّةِ :

قَالَ اللهُ تَعَالَى : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}[الشورى:21]

وَقَالَ تَعَالَى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}[النساء:60] ،

وَقَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ : “فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء ، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا -وهي القوانين الوضعية التي وضعها جنكيز خان ، وألزم الناس بها- وقدمها عليه ؟! من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين”[5]،

وَقَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ آلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ : “إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين ؛ لـ:

قول الله عز وجل : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}[النساء:59] ،

وقد نفى الله سبحانه وتعالى الأيمان عن من لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم نفياً مؤكداً بتكرار أداة النفي وبالقسم ،

قال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء:65]”[6]،

وَقَالَ فَضِيْلَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ : “من لم يحكم بما أَنزل الله استخفافا به ، أو احتقارًا له ، أو اعتقادًا أن غيره أصلح منه ، وأنفع للخلق ، أو مثله فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة ، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجًا يسير الناس عليه ، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق ، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية ، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ، ونقص ما عدل عنه”[7]،

وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّرِيْقَةِ التَّشْكِيْكِيَّةِ الْمَنْهَجِيَّةِ فِيْ التَّفْكِيْرِ ، فهو -كما قدمنا- منهج اعتزالي قديم ، تبناه كبار المعتزلة القدامى ، كـ”أبي هشام الجبائي” ؛ القائل : “أول الواجبات هو الشك ؛ لتوقف القصد إلى النظر عليه”[8]، وتبعهم على ذلك أفراخهم الأشاعرة ، كـ”الغزالي”[9]، ونحوه ، ثم لما جاء هذا العصر الحديث سار على طريقتهم الليبراليون الجدد ، متبعين آثارهم ، وآثار أسيادهم الفلاسفة الغربيين ؛ كـ : “رينيه ديكارت” ؛ القائل : “الشك خطوة ضرورية لا بد من اتخاذها ، فخبرتي بالخطأ وتعرضي له منذ عهد بعيد ، واحتمال تجدده بفعل تلك الأحكام التي خضعت لها ولم أتبين صحتها ؛ سواء كانت أحكاماً فرضها الغير من معلمين ، أو مرشدين ، أو من وكل إليهم أمري ، أم أحكاماً فرضها علي الحس أو الخيال-وتعرضها للخطأ معروف- إن كل هذا يدعوني إلى الشك”[10]، وتبعه على هذا المنهج ودعا إليه : “طه حسين” [11].

والمنهج التشكيكي منهح يناقض الإيمان ، والفطرة السليمة ، والشريعة المحكمة النقية ،  

قَالَ اللهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 15] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}[إبراهيم:9] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:23-24] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ}[يونس:37] ،

وَقَالَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ”[12]،

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : “مَا طُلِبَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا بِالْيَقِيْنِ ، وَلَا هُرِبَ مِنَ النَّارِ إِلَّا بِالْيَقِيْنِ ، وَلَا صُبِرَ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا بِالْيَقِيْنِ”[13].

وقَالَ اِبْنُ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ : “والله ما سمع سامع قط بأدخل في الكفر من قول من أوجب الشك في الله تعالى ، وفي صحة النبوة ؛ فرضاً على كل متعلم لا نجاة له إلا به ، ولا دين لأحد دونه ، وإن اعتقاد صحة التوحيد لله تعالى وصحة النبوة باطل لا يحل ، فحصل من كلامهم أن من لم يشك في الله تعالى ، ولا في صحة النبوة فهو كافر ، ومن شك فيهما فهو محسن مؤد ما وجب عليه ، وهذه فضيحة وحماقة ، اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول”[14]،

 

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ}[الفاتحة: 5] : منزلة اليقين وهو من الإيمان منزلة الروح من الجسد ، وبه تفاضل العارفون ، وفيه تنافس المتنافسون ، وإليه شمر العاملون ، وعمل القوم إنما كان عليه ، وإشاراتهم كلها إليه ، وإذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين ، قال الله تعالى -وبقوله : يهتدي المهتدون- : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُوْنَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوْا وَكَانُوْا بِآيَاتِنَا يُوْقِنُوْنَ}[السجدة: 24] ،

وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين ، فقال وهو أصدق القائلين: {وَفِيْ الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوْقِنِيْنَ} [الذاريات: 20] ،

وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين ، فقال : {وَالَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوْقِنُوْنَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ}[البقرة:4- 5] ،

وأخبر عن أهل النار : بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين ، فقال تعالى : {وَإِذَا قِيْلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيْهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِيْنَ}[الجاثية: 32]،  

فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح. وهو حقيقة الصديقية. وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره …  ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورًا ، وإشراقًا ، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط ، وهم وغم ، فامتلأ محبة لله ، وخوفًا منه ، ورضًا به ، وشكرًا له ، وتوكلًا عليه ، وإنابة إليه ، فهو مادة جميع المقامات والحامل لها”[15]،

وَقَالَ اِبْنُ أَبِي الْعِزِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -تعليقًا على قول الطحاوي رحمه الله : «وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيْمِ وَالْاِسْتِسْلَامِ»- : “… ؛ أي : “لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين ، وينقاد إليها ، ولا يعترض عليها ، ولا يعارضها برأيه ، ومعقوله ، وقياسه ، روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال : «مِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ ، وَمِنَ الرَّسُوْلِ الْبَلَاغُ ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيْمُ»[16]، وهذا كلام جامع نافع”[17].

 وَأَمَّا الطَّرِيْقَةُ الْفَلْسَفِيَّةُ الْأَرُسْطِيَّةُ[18]فِيْ التَّعْلِيْمِ -المعتمدة على الشك ، ونسبية الحقيقة- فهي طريقة منحرفة ، مآلها إلى شطط وضلال ، تبدأ بشك ووسواس في كل شيء ، ثم تؤول إلى ردة وإلحاد ، والعياذ بالله .

والعجب كل العجب من قوم يقرأ فيهم كلام الله ، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم صباحًا، ومساءً ، في المساجد ، والمدارس ، والجامعات ، ودور القرآن ، ثم يعرضون عنه ، ويذهبون إلى تفاهات أفكار أهل الأهواء الضالين المضلين ، أو الفلاسفة الغربيين ، يحفلون بها ، معجبين بأربابها ، بل ويلزمون الطلاب بتعلمها ، وتعليمها[19]، و”ما جهل الناس ، ولا اختلفوا إلا بتركهم مصطلح العرب ، وأخذهم بمصطلح أرسطو طاليس”[20]، وهذه الطريقة في إثبات الحقائق طريقة فجة ، ذات ألفاظ ومعاني جائرة منغلقة ، فيها من التكلف والتعقيد الشيء الكثير ، “ فلا تجد هذا التكليف الشديد ، والتعقيد في الألفاظ والمعاني عند الصحابة -أصلًا- وإنما يوجد عند من عدل عن طريقهم ، وإذا تأمله العارف : وجده كلحم جمل غث ، على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقل ، فيطول عليك الطريق ، ويوسع لك العبارة ، ويأتي بكل لفظ غريب ، ومعنى أغرب من اللفظ ، فإذا وصلت لم تجد معك حاصلًا طائلًا ، ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحنًا ، فالمتكلمون في جعاجع الجواهر ، والأعراض ، والأكوان ، والألوان ، والجوهر الفرد ، والأحوال ، والحركة ، والسكون ، والوجود ، والماهية ، والانحياز ، والجهات ، والنسب ، والإضافات ، والغيرين ، والخلافين ، والضدين ، والنقيضين ، والتماثل ، والاختلاف ، …”[21].

قَالَ الْحَافِظُ أَبُوْ عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللهُ : “الفلسفة أس السفه والانحلال ، ومادة الحيرة والضلال ، ومثار الزيغ والزندقة ، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة ، المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة ، ومن تلبس بها تعليمًا وتعلمًا قارنه الخذلان والحرمان ، واستحوذ عليه الشيطان”[22].

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ  اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “إنَّ الخائضين في العلوم من أهل هذه الصناعة أكثر الناس شكًّا واضطرابًا ، وأقلهم علمًا وتحقيقًا ، وأبعدهم عن تحقيق علم موزون ، وإن كان فيهم من قد يُحقِّق شيئًا من العلم ؛ فذلك لصحَّة المادة ، والأدلة التي ينظر فيها ، وصحة ذهنه وإدراكه ، لا لأجل المنطق ، بل إدخاله صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطوِّل العبارة ، ويبعد الإشارة ، ويجعل القريب من العلم بعيدًا ، واليسير منه عسيرًا ؛ ولهذا تجد من أدخله في الخلاف ، والكلام ، وأصول الفقه ، وغير ذلك لم يفد إلا كثرة الكلام والتشقيق ، مع قلَّة العلم والتحقيق ، فعلم أنه من أعظم حشو الكلام ، وأبعد الأشياء عن طريق ذوي الأحلام”[23]،

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:8-9] ، يعلم الذكي منهم والعاقل : أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة ، وأن حجته ليست ببينة ، وإنما هي كما قيل فيها :

حجج تهافت كالزجاج تخالها … حقًا وكل كاسر مكسور

ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال : «حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويقال : هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام»[24].

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “وأهل الكلام والفلسفة أشد اختلافًا وتنازعًا بينهم فيها من جميع أرباب العلوم على الإطلاق ، ولهذا كلما كان الرجل منهم أفضل كان إقراره بالجهل والحيرة على نفسه أعظم ؛ كما قال بعض العارفين : «أكثر الناس شكًا عند الموت أهل الكلام» ، وقال أفضل المتأخرين من هؤلاء لتلاميذه عند الموت : «أشهدكم أني أموت وما عرفت مسألة واحدة ؛ إلا مسألة افتقار الممكن إلى واجب ، ثم قال : والافتقار أمر عدمي فها أنذا أموت وما عرفت شيئًا» ، وقال ابن الجويني عند موته : «لقد خضت البحر الخضم ، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ، وما أدري على ماذا أموت ، أشهدكم أني أموت على عقيدة أمي» ، وقال آخر في خطبة كتابه في الكلام : «لعمري :

لقد طفت في تلك المعاهد كلها … وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعًا كف حائر … على ذَقَنٍ أو قارعًا سن نادم»

وقال الرازي -في كتابه : «أقسام اللذات» ، وقد ذكر أنواعها-: وأن أشرفها لذة العلم والمعرفة ، وأشرف العلم العلم الإلهي لشرف معلومه ، وشدة الحاجة إليه ، … ، ثم أنشد :

نهاية إقدام العقول عقال … وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا … وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا … سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها … رجال فماتوا والجبال جبال

لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلًا ، ولا تروي غليلًا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ؛ أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر10] ، واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي”[25].

نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله …



([1]) سنن الدارقطني (4280) .

([2]) رواه أحمد (7848) .

([3]) درء تعارض النقل والعقل (5/204-206) .

([4]) إغاثة اللهفان (1/118-119) .

([5]) البداية والنهاية (13/139) .

([6]) مجموع الفتاوى والرسائل (12/284-285) .

([7]) مجموع الفتاوى (6/161) .

([8]) شرح المقاصد في علم الكلام ، للتفتازاني ، ص : (1/48) .

([9]) وقد نقلنا عنه في الحلقة الأولى فليرجع إليه .

([10])  المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت ؛ لمحمد حمدي ، ص : (59).

([11]) في الشعر الجاهلي ، ص : (11-14) .

([12]) رواه مسلم (47) .

([13]) اليقين ؛ لابن أبي الدنيا ، ص : (102) .

([14]) الفصل في الملل والنحل (4/164) .

([15]) مدارج السالكين (2/274-277) .

([16]) تحت بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاَتِهِ}[المائدة:67] .

([17]) شرح العقيدة الطحاوية (1/231) .

([18]) أرسطو : فيلسوف يوناني ، ولد قبل الميلاد ، من تلاميذ أفلاطون ، مباحثه في طرق التفكير المادي ، والبحث عن الحقيقة الكلية المشاهدة ، أخذ طريقته المناطقة المنتسبين إلى الإسلام ؛ من أهل الأهواء أو ليبراليين ، عظموا طريقته في المنطق والتفكير حتى أوصلتهم إلى عدم الاعتراف بالغيبيات ، ووجود الله الوجود الحقيقي ، ومن قوانينه -وقوانينهم- المنطقية : قانون الهوية ؛ وهو قانون يبين ثبات الأشياء على أصلها ، لا تتغير ، مهما طرأ عليها من ظروف ، ومن قوانينهم : قانون عدم التناقض ، وقانون الوسط الممتنع ، … ، ومن قوانينهم في التفكير : نسبية الحقيقة ، أو عدم وجود اليقين المطلق ، أو أن الحق المطلق لا يملكه أحد ، وكل هذه موجودة في مناهج : “التفكير الناقد” المنتشرة في العالم الإسلامي ، “وهم فرقٌ ثلاث : إحداهن اللاأدرية ؛ سموا بذلك لأنهم يقولون لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ، ولا انتفاءه بل نحن متوقفون في ذلك ، الثانية : تسمي العنادية نسبة إلى العناد ؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً ، وعمدتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض ، والقدح في كل مذهب بالاشكالات المتجهة عليه من غير أهله ، الثالثة : تسمى العندية نسبة إلى لفظ (عند) ؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس، فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده”[حاشية روضة الناظر ؛ لابن بدران ، ص : (246-247)] .

([19]) كما هو الحال في مناهج التفكير الناقد ، ونحوها من مناهج .

([20]) سير أعلام النبلاء (8/268) .

([21]) مدارج السالكين ؛ لابن القيم (3/405) .

([22]) فتاوى ابن الصلاح (1/209-210) .

([23]) مجموع الفتاوى (9/23-24) .

([24]) مجموع الفتاوى (5/119) .

([25]) الصواعق المرسلة (2/664-665) .

%d مدونون معجبون بهذه: