عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .
تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …
الحلقة (56)
-الجزء الثالث-
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
“إِصْلَاحٌ لِمَنْ يُرِيْدُ الْإِصْلَاحَ”.
(3)
سَنُتَابِعُ فِيْ هَذِهِ الْحَلْقَةِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- الْكِتَابَةَ فِيْ بَقِيَّةِ الْخُطُوَاتِ الْإِصْلَاحِيَّةِ -وَالَّتِيْ كُنَّا قَدْ بَدَأْنَاهَا فِيْ الْحَلْقَةِ السَّابِقَةِ بِـ”الْخُطْوَةِ الْأُوْلَى” ، وَالَّتِيْ كَانَ عُنْوَانُهَا : “حِفْظُ الْحِمَى”- فَنَقُوْلُ -سَائِلِيْنَ اللهَ التَّوْفِيْقَ وَالْهُدَى- :
الْخُطْوَةُ الثَّانِيَةُ : “دَوَامُ الْعَمَلِ” .
فَـ”إِنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ ، وَإِنْ قَلَّ”[1]،
وَقَدْ وَصَّى اللهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ وَمُصْطَفَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِيْنُ}[الحجر:99] ، فَـ”كَانَ عَمَلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِيمَةً”[2]،
وَهِيَ وَصِيَّتُهُ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِيْنَ ، قَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُون”[آل عمران:102] ، فَحَقَّقُوْا مَا أَوْصَاهُمُ اللهُ بِهِ ، فَكَانَ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[الأحزاب:23] ، بَاقُوْنَ عَلَى الْعَهْدِ ، وَالْعَمَلِ حَتَّى يِأْتِيَهُمْ الْأَجَلُ ،
فَعَمَلُ البَّاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ -التَّوْحِيْدِ ، وَسَائِرِ شُعَبِ الْإِيْمَانِ- وَالدَّيْمُوْمَةُ عَلَيْهَا ، وَالْمُسَارَعَةُ إِلَيْهَا ، صَمَّامُ أَمَانٍ -بِإِذْنِ اللهِ- مِنَ الْاِنْتِكَاسَاتِ ، وَالنُّكُوْصِ إِلَى الْوَرَاءِ ، أَوِ السُّقُوْطِ فِيْ أَوْحَالِ الْبِدَعِ الْغَوِيَّاتِ ، وَالشَّهَوَاتِ الْمُضِلَّاتِ ،
الْخُطْوَةُ الثَّالِثَةُ : “الْمُبَادَرَةُ بِجَهَادِ الدَّعْوَةِ” .
وَهَذَا الْجِهَادُ هُوَ “جِهَادُ الْخَاصَّةِ مِنْ أتْبَاعِ الرُّسُلِ ، وَهْوَ جِهَادُ الأَئِمَّةِ ، وَهْوَ أَفْضَلُ الجِهَادَيْن لِعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ ، وَشِدَّةِ مُؤْنَتِهِ ، وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيْ «سُوْرَةِ الْفُرْقَانِ» -وَهِيَ مَكِّيَّةٌ- : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِيْ كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيْرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِيْنَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيْرًا}[الفرقان:51-52] ، فَهَذَا جِهَادٌ لَهُمْ بِالْقُرْآنِ ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْجِهَادَيْنِ ،
وَهُوَ جِهَادُ الْمُنَافِقِيْنَ -أَيْضًا- فَإِنَّ الْمُنَافِقين لَمْ يَكُونُوْا يُقَاتِلُوْنَ الْمُسْلِمِيْنَ ، بَلْ كَانُوْا مَعَهُمْ فِيْ الظَّاهِرِ ، وَرُبمَا كَانُوْا يُقَاتِلُوْنَ عَدُوَّهُمْ مَعَهُمْ ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التحريم:9] ، وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِيْنَ بِالْحجَّةِ وَالْقُرْآنِ ، وَالْمَقْصُوْدُ أَنَّ سَبِيْلَ اللهِ هِيَ : الْجِهَادُ ، وَطَلَبُ الْعِلْمِ ، وَدَعْوَةُ الْخَلْقِ بِهِ إِلَى اللهِ”[3]،
فَجِهَادُ الدَّعْوَةِ -الْآنَ ، وَفِيْ كُلِّ آنٍ– مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْلِحَةِ الْفَاعِلَةِ الَّتِي تُنْكَأُ بِهَا عَدَاوَاتُ الْأَعْدَاءِ فِيْ مُخْتَلَفِ الْجِهَاتِ ،
قَالَ تَعَالَى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين}[فصلت:33] ،
وَقَالَ تَعَالَى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين}[النحل:125] ،
فَلْنُبَادِرْ بِجِهَادِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيْدِ ، وَسُنَّةِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِيْنَ قَبْلَ أَنْ يُبَادِرَنَا دُعَاةُ النَّارِ إِلَى النَّارِ ، وَغَضَبِ الرَّحْمَنِ ؛ نَسْأَلُ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ .
الْخُطْوَةُ الرَّابِعَةُ : “الصَّبْرُ وَالْمُصَابَرَةُ” .
وَالصَّبْرُ وَالْمُصَابَرَةُ “مِنْ أَجَلِّ مَقَامَاتِ الْإِيْمَانِ … ، فَأَكْمَلُ الْخَلْقِ أَصْبَرُهُمْ ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ أَحَدٍ كَمَالُهُ الْمُمْكِنُ إِلَّا مَنْ ضَعُفَ صَبْرُهُ ، فَإِنَّ كَمَالَ الْعَبْدِ بِالْعَزِيْمَةِ ، وَالثَّبَاتِ ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزِيْمَةٌ فَهُوَ نَاقِصٌ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ عَزِيْمَةٌ وَلَكِنْ لَا ثَبَاتَ لَهُ عَلَيْهَا فَهُوَ نَاقِصٌ ، فَإِذَا انْضَمَّ الثَّبَاتُ إِلَى الْعَزِيْمَةِ أَثْمَرَ كُلَّ مَقَامٍ شَرِيْفٍ ، وَحَالٍ كَامِلٍ ، وَلِهَذَا فِيْ دُعَاءِ النَّبِيٍّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ … : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ»[4]، وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ شَجَرَةَ الثَّبَاتِ ، وَالْعَزِيْمَةِ لَا تَقُوْمُ إِلَّا عَلَى سَاقِ الصَّبْرِ ، فَلَوْ عَلِمَ الْعَبْدُ الْكَنْزَ الَّذِيْ تَحْتَ هَذِهِ الْأَحْرُفِ الثَّلَاثَةِ ؛ أَعْنِي : اِسْمَ «الصَّبْرِ» لَمَا تَخَلَّفَ عَنْهُ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَا أُعْطِيَ أَحْدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»[5]“[6]،
فَإِذَا صَبَرَ الْعَبْدُ عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَهَجَرَ الْمَعَاصِيَ وَالْمُنْكَرَاتِ ، وَتَحَمَّلَ الْأَذَى الَّذِيْ يُصِيْبُهُ فِيْ ذَاتِ الْإِلَهِ ، كَانَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- عَلَى السَّبِيْلِ وَالسُّنَّةِ ، والرِّفْعَةِ فِيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَنَالَ الْأَجْرَ الْمَوْعُوْدَ ، وَمَغْفِرَةَ الذُّنُوْبِ ، فَـ{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ،
وَمِنَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ عَلَى أَلَمِ الفِرَاقِ ؛ فِرَاقِ الْأَحِبَّةِ ؛ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ ، وَالْأَقَارِبِ وَالْأَصْدِقَاءِ ، فَهَذَا الطَّرِيْقُ طَرِيْقٌ شَاقَّةٌ ؛ قَدْ لَا يَجِدُ مَعَهُ عَلَى الْجَادَّةِ إِلَّا أَقِلَّةٌ ، فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى الْوَحْدَةِ وَالْغُرْبَةِ ، وَلَا يَسْتَوْحِشَنَّ مِنْ قِلَّةِ سَالِكِيْ دُرُوْبِ الْآخِرَةِ .
اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنْ خِزِيِّ الشَّيْطَانِ ، وَسَعِيْرِ النَّارِ ، وَأَنِلْنَا رِضَى رَبِّنَا الْكَرِيْمِ الرَّحْمَنِ ، وَدُخُوْلَ الْجِنَانِ ، مَعَ الْمُقَرَّبِيْنَ الْأَبْرَارِ ، وَالصَّالِحِيْنَ الْأَخْيَارِ ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ مُجِيْبُ الدَّعَوَاتِ ، وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ،
وَعَلَى آلِهِ ، وَصَحْبِهِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ .