القائمة إغلاق

“بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَصْفُهَا الْمُبِيْنُ ، وَحِفْظُهَا الْأَمِيْنُ” .

حَلَقَاتٌ عِلْمِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ ، أَصِفُ فِيْهَا الْبُيُوْتَ الْمُؤْمِنَةَ ؛ عَقِيْدَتَهَا وَأَخْلَاقَهَا ، ثم أُذَكِّرُ بَعْدَهَا بِالتَّرَاتِيْبِ السَّلَفِيَّةِ الضَّرُوْرِيَّةِ فِيْ طُرُقِ وَأَسَالِيْبِ ِحِفْظِهَا مِنْ عُدْوَانِ الْفِرَقِ الْمُعْتَدِيَةِ .

حَلَقَاتٌ مُهِمَّةٌ ، وَبِخَاصَّةٍ فِيْ أَزِمِنَةِ الْغُرْبَةِ ، مُوَجَّهَةٌ لِجَمِيْعِ أَفْرَادِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ ، صَانَهَا اللهُ مِنْ خُطَطِ وَتَدَابِيْرِ ذَوِيْ الشُّرُوْرِ الْكَائِدَةِ .

الحلقة (السابعة) :

-(بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْإِسْلَامِ)-

“وَصْفُ عَقِيْدَةِ أَهْلِهَا الْمُوَحِّدِيْنَ ، وَأَخْلَاقِهِمْ” .

نسخة رقمية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :

(مقدمة)

سنتابع في هذه الحلقة -إن شاء الله- ما قد بدأناه في في الحلقة الماضية من ذكر عقيدة أصحاب البيوت المؤمنة ، فنقول : يقول أصحاب البيوت المؤمنة -الطاهرة النقية-:

(2)

“لا إله إلا الله” : هي كلمة التوحيد ، والتوحيد هو : إفراد الله بأنواع التوحيد الثلاثة[1]:

تَوْحِيْدُ الْأُلُوْهِيَّةِ -توحيد القصد والطلب- وهو : إفراد الله بعبادات الموحدين ؛ فلا يستغيثون إلا به ، ولا يدعون إلا إياه ، ولا يذبحون ، ولا ينذرون ، ولا يصلون إلا له ، ولا يتوكلون إلا عليه ، …

وَتَوْحِيْدُ الرُّبُوْبِيَّةِ -توحيد المعرفة والإثبات- وهو : إفراد الله بأفعاله جل وعلا ؛ فهو  المحيي ، المميت ، الخلاق ، المدبر ، القهار ، الرزاق ، ومنه : إفراده بالتشريع والحكم ،

وَتَوْحِيْدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ -توحيد المعرفة والإثبات- وهو : إفراد الله بأسماء وصفات تليق به جل وعلا ، وردت في الكتاب والسنة ؛ نثبتها كما جاءت ، لفظًا ومعنى ؛ بلا تحريف ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تمثيل ،

وَالْعِبَادَةُ ؛ لغة : التذلل والخضوع[2]، وشرعًا : التذلل لله ؛ محبة وتعظيماً ، ورغبة ورهبة بفعل كل ما يحبه الله ويرضاه ، واجتناب كل ما يكرهه الله ويأباه ؛ من الأقوال والأعمال الظاهرة ، والباطنة ،

فمثال ما يحبه الله : التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، وصلة الأرحام ، …

ومثال ما يكرهه الله : الشرك به ، والزنا ، وشرب الخمر ، وقطيعة الأرحام ، …   

ومن أقوال العلماء في ذلك :

قَالَ اِبْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ -في تفسير قوله تعالى : {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِيْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا …}[آل عمران:83]- : “يقول : وله خَشَع من في السموات ، والأرض ، فخضع له بالعبودية ، وأقرَّ له بإفراد الربوبية ، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية طوعاً ، وكرهاً”[3].

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ -في معرض تفسيره لقول الله تعالى : {وَاعْبُدُوْا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوْا بِهِ شَيْئًا …} [آل عمران:36]- : “يعني بذلك جلَّ ثناؤه : وذلُّوا لله بالطاعة ، واخضعُوا له بها ، وأفرِدُوه بالربوبية ، وأخلصوا له الخضوع والذِّلة بالانتهاء إلى أمره ، والانزجار عن نهيه ، ولا تجعلوا له في الربوبية ، والعبادة شريكاً تعظِّمونه تعظيمَكم إياه”[4].

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “فالكلام في باب التوحيد والصفات : هو من باب الخبر ؛ الدائر بين النفي ، والإثبات ، والكلام في الشرع والقدر : هو من باب الطلب والإرادة ؛ الدائر بين الإرادة والمحبة ، وبين الكراهة والبغض ؛ نفيا وإثباتًا والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات ، والتصديق والتكذيب ، وبين الحب والبغض ، والحض والمنع … وإذا كان كذلك : فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال ، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال ، ولا بد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره ؛ فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته ، وعموم مشيئته ، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه ؛ من القول والعمل ، ويؤمن بشرعه وقدره إيمانًا خاليا من الزلل ، وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له ؛ وهو التوحيد في القصد ، والإرادة والعمل ، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول ؛ كما دل على ذلك سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] ، ودل على الآخر سورة : {قَلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُوْنَ}[الكافرون:1] ، وهما سورتا الإخلاص ، وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر ، وركعتي الطواف ، وغير ذلك … [و]التوحيد في الصفات ؛ فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله ؛ نفيًا وإثباتًا ؛ فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه”[5].

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : ” كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد ، شاهدة به داعية إليه ، فإن القرآن : إمَّا خبر عن الله ، وأسمائه وصفاته ، وأفعاله ؛ فهو التوحيد العلمي الخبري ، وإمَّا دعوة إلى عبادته وحده ، لا شريك له ، وخلع كل ما يعبد من دونه ؛ فهو التوحيد الإرادي الطلبي ، وإمَّا أمر ، ونهي ، وإلزام بطاعته في نهيه ، وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته ، وإمَّا خبر عن كرامة الله لأهل توحيده ، وطاعته ، وما فعل بهم في الدنيا ، وما يكرمهم به في الآخرة ؛ فهو جزاء توحيده، وإمَّا خبر عن أهل الشرك ، وما فعل بهم في الدنيا من النكال ، وما يحل بهم في العقبى من العذاب ؛ فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد ، فالقرآن كله في التوحيد ، وحقوقه ، وجزائه ، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم”[6].

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : وروح هذه الكلمة -أي : كلمة التوحيد- وسرها : إفراد الرب جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه ، وتبارك اسمه ، وتعالى جده ، ولا إله غيره بالمحبة ، والإجلال ، والتعظيم ، والخوف ، والرجاء ، وتوابع ذلك من : التوكل ، والإنابة ، والرغبة ، والرهبة، فلا يحب سواه  ، وكل ما يحب غيره فإنما يحب تبعا لمحبته ، وكونه وسيلة إلى زيادة محبته ، ولا يخاف سواه ، ولا يرجى سواه ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يرغب إلا إليه ، ولا يرهب إلا منه ، ولا يحلف إلا باسمه ، ولا ينذر إلا له ، ولا يتاب إلا إليه ، ولا يسجد إلا له ، ولا يذبح إلا له وباسمه ، ويجتمع ذلك في حرف واحد ؛ وهو : أن لا يعبد إلا إياه بجميع أنواع العبادة ، فهذا هو : تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ؛ ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة ، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة ، وقام بها ، كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج:33] …”[7].

وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَمِيْنِ الشَّنْقِيْطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : “وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : توحيده في ربوبيته ، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء ، قال تعالى : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}الآية ، [الزخرف:87] ، .. وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله ، كما قال تعالى : {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنَ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}[يونس:21] ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدًا .

الثاني : توحيده جل وعلا في عبادته ، وضابط هذا النوع من التوحيد هو : تحقيق معنى «لا إله إلا الله» ، وهي متركبة من نفي وإثبات ، فمعنى النفي منها : خلع جميع أنواع المعبودات غير الله ؛ كائنة ما كانت ، في جميع أنواع العبادات ؛ كائنة ما كانت ، ومعنى الإثبات منها : إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام ، وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد ، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم ، {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب} [ص:5] ، ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}الآية ، [محمد:19] ، وقوله : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ،

النوع الثالث : توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته ، وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين :

الأول : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم ؛ كما قال تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ،

والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله ، كما قال بعد قوله : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11] ، مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف ، قال تعالى : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110]…”[8].

وَقَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيْزِ بْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ : “فلا شك أن من تدبر القرآن الكريم وجد فيه آيات تأمر بإخلاص العبادة لله وحده ، وهذا هو توحيد الألوهية ، ووجد آيات تدل على أن الله هو الخلاق ، وأنه الرزاق وأنه مدبر الأمور ، وهذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون ، ولم يدخلهم في الإسلام ، كما يجد آيات أخرى تدل على أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وأنه لا شبيه له ولا كفو له ، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات الذي أنكره المبتدعة ؛ من الجهمية ، والمعتزلة ، والمشبهة ، ومن سلك سبيلهم .

ويجد آيات تدل على وجوب اتباع الرسول ورفض ما خالف شرعه ، وهذا هو توحيد المتابعة ، فهذا التقسيم قد علم بالاستقراء وتتبع الآيات ودراسة السنة …”[9].

نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله …



([1]) ومن أهل العلم من خص تعريف التوحيد بـ: توحيد العبادة ، لأن الخصومة التي وجدت بين الأنبياء وأممهم المخالفين كانت فيه .

 

([2]) لسان العرب (3/271) .

([3]) تفسير الطبري (5/549) .

([4]) تفسير الطبري (7/5) .

([5]) التدمرية ، ص : (7) .

([6]) مدارج السالكين (3/450) .

([7]) الداء والدواء ، ص : (198) .

 

([8]) أضواء البيان (3/17-18) .

([9]) مجموع الفتاوى (6/215) .

%d مدونون معجبون بهذه: