عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .
تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …
الحلقة (60)
-الحلقة الثالثة-
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
“سُنَنُ اللهِ الَّتِيْ لَا تَتَبَدَّلُ ، وَلَا تَتَحَوَّلُ“
(2)
سُنَّةُ الاِسْتِدْرَاجِ .
وَهِيَ : مَدُّ اللهِ الْعِبَادَ بِالنِّعَمِ عَلَى كُفْرِهِمْ -أَوْ مَعاصِيْهِمْ- مَدًّا جَزِيْلًا ، ثُمَّ أَخْذُهُمْ بِالنِّقَمِ أَخْذًا وَبِيْلًا ،
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ :
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ ﴾ [الأعراف:182-183] ،
وقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا : {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ}[القلم : 44- 45] .
هَاتَانِ الْآيَتَانِ لِلْكُفَّارِ ،
أَمَّا لِأَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ ؛ فَكَمَا فِي :
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشُّعَرَاءِ: 205-207] ،
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}[الأنعام:44]»[1].
وَلِلْعَبْدِ الْمُسْتَدْرَجِ عَلَامَاتٌ يُعْرَفُ بِهَا ؛ فَـ:
مِنْ عَلَامَاتِهِ الَّتِيْ يُعْرَفُ بِهَا : إِسْرَافُهُ فِيْ الْمَعَاصِي وَالسَّيْئَاتِ ، وَالْمُجَاهَرَةُ بِهَا ، مَعَ صِحَّةٍ ، وَطُوْلِ عُمُرٍ ،
وَمِنْ عَلَامَاتِهِ : الْجَهَالَةُ الْمُغْرِقَةُ ، وَالْغَفْلَةُ الْمُغْلِقَةُ ، فَلَا يَتَنَبَّهُ لِمَا يُرَادُ بِهِ ، وَلَا يَتَدَبَّرُ ؛ فَقَدْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ الرَّانَ ؛ فَإِنَّهُ فِيْ زَمَانِهِ ، وَفِيْ جَمِيْعِ حَيَاتِهِ “لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ”[2]،
وَمِنْ عَلَامَاتِهِ : أَنَّ تُسْبَغَ عَلَيْهِ النِّعَمِ ؛ مِنْ رِئَاسَةٍ وَمُلْكٍ ، وَوَجَاهَةٍ وَمَالٍ وعِلْمٍ ، لَكِنَّهُ لِشَقَائِهِ يَمْنَعُهُ اللهُ الشُّكْرَ[3]،
وَمِنْ عَلَامَاتِهِ : اِغْتِرَارُهُ بِحِلْمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيْمَا يَنْتَهِكُ مِنَ الْحُرُمَاتِ ؛ فِيْ الْخَلَوَاتِ ، أَوِ الْجَلَوَاتِ ، وَسِتْرِهِ مِنْ الْاِفْتِضَاحِ عَلَى رُؤُوْسِ الْأَشْهَادِ ،
وَمِنْ عَلَامَاتِهِ : كَثْرَةُ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ ، مَعَ جُرْمٍ وَتَقْصِيْرٍ خَفِيِّ ،
فـَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى عَفْوِهِ وَعَافِيَتِهِ ؛ فَـ :
فَيَا لِلَّهِ “كَمْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ!
وَكَمْ مَفْتُوْنٍ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ!
وَكَمْ مَغْرُوْرٍ بِالسِّتْر عَلَيْهِ!”[4].
اللَّهُمَّ سِتْرَكَ ، وَمَغْفِرَتَكَ ، وَإِحْسَانَكَ ،
اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوْبِ ثبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ ،
نُكْمِلُ -إِنْ شَاءَ اللهُ– فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ …