القائمة إغلاق

“بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَصْفُهَا الْمُبِيْنُ ، وَحِفْظُهَا الْأَمِيْنُ” .

حَلَقَاتٌ عِلْمِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ ، أَصِفُ فِيْهَا الْبُيُوْتَ الْمُؤْمِنَةَ ؛ عَقِيْدَتَهَا وَأَخْلَاقَهَا ، ثم أُذَكِّرُ بَعْدَهَا بِالتَّرَاتِيْبِ السَّلَفِيَّةِ الضَّرُوْرِيَّةِ فِيْ طُرُقِ وَأَسَالِيْبِ ِحِفْظِهَا مِنْ عُدْوَانِ الْفِرَقِ الْمُعْتَدِيَةِ .

حَلَقَاتٌ مُهِمَّةٌ ، وَبِخَاصَّةٍ فِيْ أَزِمِنَةِ الْغُرْبَةِ ، مُوَجَّهَةٌ لِجَمِيْعِ أَفْرَادِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ ، صَانَهَا اللهُ مِنْ خُطَطِ وَتَدَابِيْرِ ذَوِيْ الشُّرُوْرِ الْكَائِدَةِ .

الحلقة (التاسعة- تابع1) :

-(بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْإِسْلَامِ)-

“وَصْفُ عَقِيْدَةِ أَهْلِهَا الْمُوَحِّدِيْنَ ، وَأَخْلَاقِهِمْ” .

نسخة رقمية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :

(مقدمة)

اتباعاً لما مضى ، سنتكلم في هذه الحلقة عن :

(ثَانِيًا) :

مَنْهَجُ السَّلَفِ فِيْ كَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَ شُبُهَاتِ الْمُشَبِّهِيْنَ ؛ مِنْ جُنُوْدِ الشَّيَاطِيْنِ

للسلف -رحمهم الله- منهج رصين في التعامل مع شبهات المشبهين ، نذكرها ، ونذكر بها بما يلي :

1)    هجر مواطن الشبهات ، والحذر من دعاتها ، وذلك قبل ورودها ، وهو ما يسمى بـ”الهجر الوقائي” ؛

قَالَ تَعَالَى : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}[الأنعام:68] ،

وَقَالَ أَبُوْ عُثْمَانَ الصَّابُوْنِي رَحِمَهُ اللهُ في عقيدة السلف -مستدلاً بالآية السابقة-: “ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ، ولا يحبونهم ، ولا يصحبونهم ، ولا يسمعون كلامهم ، ولا يجالسونهم ، ولا يجادلونهم في الدين ، ولا يناظرونهم ، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان ، وقرَّت في القلوب ضرت ، وجرت إليها من الوساوس ، والخطرات الفاسدة ما جرت ، وفيه أنزل الله عز وجل قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}[الأنعام:68]”[1].

وَقَالَ تَعَالَى : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}[النساء:140] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ  ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[الأنعام:153] ،

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ -في تفسير الآية السابقة-: “ومضى في النساء ، وهذه السورة النهي عن مجالسة أهل البدع ، والأهواء ، وأن من جالسهم حكمه حكمهم ، فقال : {وإذَا رَأَيتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} الآية ، ثم بين في سورة النساء -وهي مدنية-عقوبة من فعل ذلك ، وخالف ما أمر الله به ، فقال : {وقَد نَزَّلَ عَلَيكُم فِي الكِتَابِ} الآية ، فألحق من جالسهم بهم ، وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة ، وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس أهل البدع على المعاشرة ، والمخالطة ، منهم : أحمد بن حنبل ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع، قالوا : ينهى عن مجالستهم ؛ فإن انتهى وإلا ألحق بهم ، يعنون في الحكم”[2].
وَقَالَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ ، وَلَا آبَاؤُكُمْ ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ”[3]،

قَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- بعد الحديث السابق : “قد أخبر النبي لهم عن افتراق هذه الأمة ، وظهور الأهواء ، والبدع فيهم ، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته ، وسنة أصحابه  رضي الله عنهم ، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى شيئاً من الأهواء ، والبدع معتقداً ، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره ، ويتبرأ منه ، ويتركه حياً وميتًا ، فلا يسلم عليه إذا لقيه ، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته ، ويراجع الحق”[4].

وَقَالَ أَبْوُ قِلَابَةَ رَحِمَهُ اللهُ : “لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون”[5].  

وَعَنِ اِبْنِ سِيْرِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ– وقد دخل عليه رجلان من أهل الأهواء قائلين له-: يا أبا بكر نحدثك بحديث ؟ قال : “لا” ، قالا : فنقرأ عليك آية من كتاب الله ؟ قال : “لا”، “لتقومان عني ، أو لأقومن” ، قال : فخرجا ، فقال بعض القوم : يا أبا بكر ، وما كان عليك أن يقرآ عليك آية من كتاب الله تعالى ؟ قال : إني خشيت أن يقرآ علي آية فيحرفانها ، فيقر ذلك في قلبي”[6]،  

وَقَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : قال لي أبو قلابة : يا أيوب احفظ عني أربعًا : لا تقل في القرآن برأيك ، وإياك والقدر ، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمسك ، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينبذوا فيه ما شاءوا”[7]،

فإن وردت الشبهات لزم ردها ، وهو من الجهاد في سبيل الله تعالى ، لأن”المحامي عن السُّنة ، الذابُّ عن حماها ؛ كالمجاهد في سبيل الله ، يُعِدُّ للجهاد ما استطاع من الآلات ، والعدة ، والقوة ، كما قال تعالى : {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[الأنفال:60] ، لكن يجب أن يكون الرد على وفق المنهجية الصحيحة ؛ وذلك بلزوم الكتاب والسنة ، على فهم سلف الأمة ؛ كما قال تعالى : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا”[النساء:59] ،

 والأصل هو نشر الحق ، والبعد عن أهل الباطل وباطلهم ، وإخمال ذكرهم ، “إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت ؛ إذا طمع بردِّ الباطل ، وصرف صاحبه عن مذهبه ، أو خشي ضلال عامة”[8]،

قَالَ الْإِمَامُ الدَّارِمِيٌّ رَحِمَهُ اللهُ -في طريقة التعامل مع المبتدعة ، وبدعهم-: “ثم لم يزالوا بعد ذلك مقموعين ؛ أذلة ، مدحورين حتى كان الآن بأخرة ؛ حيث قلَّت الفقهاء ، وقبض العلماء ، ودعا إلى البدع دعاة الضلال ؛ فشدَّ ذلك طمع كل متعوِّذ في الإسلام من أبناء اليهود ، والنصارى ، وأنباط العراق ، ووجدوا فرصة للكلام ؛ فجدوا في هدم الإسلام ، وتعطيل ذي الجلال والإكرام ، وإنكار صفاته ، وتكذيب رسله ، وإبطال وحيه ؛ إذ وجدوا فرصتهم ، وأحسوا من الرعاع جهلًا ، ومن العلماء قلة ؛ فنصبوا عندها الكفر للناس إمامًا بدعوتهم إليه ، وأظهروا لهم أغلوطات من المسائل ، وعمايات من الكلام ، يغالطون بها أهل الإسلام ؛ ليوقعوا في قلوبهم الشك ، ويلبسوا عليهم أمرهم ، ويشككوهم في خالقهم ، مقتدين بأئمتهم الأقدمين الذين قالوا : {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ البَشَرِ} [المدثر: 25] ، و{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7] ، فحين رأينا ذلك منهم ، وفطنا لمذهبهم ، وما يقصدون إليه من الكفر ، وإبطال الكتب والرسل ، ونفي الكلام ، والعلم ، والأمر عن الله تعالى رأينا أن نبين من مذاهبهم رسومًا من الكتاب والسنة ، وكلام العلماء ما يستدل به أهل الغفلة من الناس على سوء مذهبهم ؛ فيحذروهم على أنفسهم ، وعلى أولادهم ، وأهليهم ، ويجتهدوا في الرد عليهم ؛ محتسبين ، منافحين عن دين الله تعالى ، طالبين به ما عند الله ، وقد كان من مضى من السلف يكرهون الخوض في هذا ، وما أشبهه ، وقد كانوا رزقوا العافية منهم ، وابتلينا بهم عند دروس الإسلام ، وذهاب العلماء ؛ فلم نجد بدًا من أن نرد ما أتوا به من الباطل بالحق”[9].

2)    التزام منهج علماء أهل السنة والحديث الأثبات -المعاصرين منهم ، أو الأموات- والتمسك بغرزهم ، وعدم الخروج عن طريقهم .

قَالَ تَعَالَى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور}[فاطر:28] ،

وَقَالَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا ، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ”[10]،

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “إن أهل السنة والحديث ، المشتغلين بعلم الرسول  صلى الله عليه وسلم ، وعلم بطانته من أصحابه هم أعلم الناس بهذا الموروث ؛ فتكون أحوالهم في الديانة علمًا ، وفهمًا ، وعملًا ، واعتقادًا لها ثِقَلُها ، واعتبارها في فهم مراد الله ورسوله ، ولهذا كان الأخذ بالفتاوى الصحابية ، والآثار السلفية أولى من آراء المتأخرين وفتاويهم”[11]،

وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ -أَيْضًا- : “الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه ، ولا قدحت فيه شكًا ؛ لأنه قد رسخ في العلم ، فلا تستفزه الشبهات ، بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم ، وجيشه مغلولة مغلوبة ، والشبهة وارد يرد على القلب ، يحول بينه وبين انكشاف الحق له ؛ فمتى باشر القلب حقيقة العلم لم تؤثر تلك الشبهة فيه ، بل يقوى علمه ويقينه بردها ، ومعرفة بطلانها ، ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه قدحت فيه الشك بأول وهلة ؛ فان تداركها وإلا تتابعت على قلبه أمثالها حتى يصير شاكًا مرتابًا “[12].

3)    الحذر كل الحذر من المتعالمين ، الرؤوس الجهال ؛ متقفري العلم ، والداعين إليه ، وليسوا منه ، يُعرفون بسيماهم ، يهرفون بما لا يعرفون ، يهيمون في أهوائهم ، ويتيهون في شهواتهم ،

قَالَ تَعَالَى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33] ،

قَالَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا ، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”[13]،

قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ : دخل رجل على ربيعة الرأي فوجده يبكي ، فقالما يبكيك ؟ أمصيبة دخلت عليك ؟ وارتاع لبكائه ، فقال :لا ، ولكن استفتي من لا علم له ، وظهر في الإسلام أمر عظيم ، قال ربيعة : ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالحبس من  السُّرَّاق”[14].

يَقُوْلُ الشَّيْخُ بَكْرٌ أَبُوْ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “فيجب على من بسط الله يده أن يقيم سوق الحجر في الفتيا على المتعالمين ، فإن الحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان ، والأموال ، وإن الوالي إن لم يجعل على الفتيا كبلاً فسيسمع لها طبلاً ، وإن لا يمكن من بذل العلم إلا المتأهل له”[15].

4)    الكف عن كثرة السؤال ، والبحث والتنقيب عن أغاليط المسائل ، بما لا فائدة منها ، ولا طائل ، 

قَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}[المائدة : 101-102] ،

قَالَ اِبْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ -معلقًا على الآية السابقة- : “والحاصل أنَّها نزلَت بسبب كثرةِ المسائل ؛ إمَّا على سبيل الاستهزاء ، أو الامتحان ، وإمَّا على سبيل التَّعَنُّت عن الشيء ، الذي لو لم يُسأل عنه لكان على الإباحة”[16].

قَالَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ”[17]،

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا : قِيلَ وَقَالَ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ”[18].

قَالَ اِبْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ -معلقًا على الحديث السابق- : “قوله : «وكثرة السؤال» ، هل هو سؤال المال ، أو السؤال عن المشكلات والمعضلات ، أو أعم من ذلك ؟ الأولى حمله على العموم ، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس ، وأحداث الزمان ، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله ، فإن ذلك مما يكره المسؤول غالبًا ، وقد ثبت النهي عن الأغلوطات ، أخرجه أبو داود من حديث معاوية ، وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة ، أو يندر جدًا ، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن ، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ”[19].  

5)    وأخيرًا : التسليم التام ، لله تعالى ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه “لا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم ، والاستسلام”[20]،

فاللهم إنا نسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، اللهم أمتنا على الإسلام والسنة ، ثابتين ، مسلِّمين ، غير مبدلين ، ولا مغيرين ،

قَالَ تَعَالَى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا}[الأحزاب:36] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء:65] ،

 وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : إن من علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يحمل الأمرَ على عِلةٍ تُضعِف الانقياد ، والتسليم لأمر الله عز وجل ، بل يُسَلِّمُ لأمرِ الله تعالى وحُكمه ، ممتثلًا ما أمر به ، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه ، أو لم تظهر ، فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد بالبذل ، والتسليم لأمر الله[21].

وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ -أَيْضًا- : إن مبنى العبودية ، والإيمان بالله ، وكتبه ، ورسله على التسليم ، وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأوامر، والنواهي ، والشرائع ، ولهذا لم يحكِ اللهُ سبحانه عن أمة نبي صَدَّقت نبيها ، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ، ونهاها عنه ، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها ، بل انقادت ، وسَلَّمت ، وأذعنت ، وما عرفت من الحكمة عرفته ، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها ، وإيمانها ، واستسلامها على معرفته ، ولا جعلت طلبه من شأنها”[22].

نُكْمِلُ فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ .



([1]) شرح عقيدة السلف ، أصحاب الحديث ، ص : (34) .

([2]) تفسير القرطبي (7/142) .

([3]) رواه مسلم في المقدمة (16) .

([4]) شرح السنة (1/224) .

([5]) سنن الدارمي (405) .

([6]) سنن الدارمي (411) .

([7]) الإبانة الكبرى ؛ لابن بطة (397) .

([8]) جامع بيان العلم وفضله (2/938) .

([9]) الرد على الجهمية ؛ ص : (32) .

([10]) رواه أبو داوود (3641) ، والترمذي (2682) ، وابن ماجه (223) .

([11]) إعلام الموقعين (4/118) .

([12]) مفتاح دار السعادة) 1/140) .

 

([13]) رواه البخاري (100) ، ومسلم (6893) .

([14]) جامع بيان العلم وفضله (2410) .

([15]) التعالم ، ص : (10) .

([16]) فتح الباري (8/ 282) .

([17]) رواه مسلم (3236) .

([18]) رواه البخاري (1477) ، ومسلم (4501) .

([19]) فتح الباري (10/ 407) .

([20]) متن الطحاوية ، ص : (43) .

([21]) الوابل الصيب ، ص : (17) .

([22]) الصواعق المرسلة (4/1560) .

%d