“بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَصْفُهَا الْمُبِيْنُ ، وَحِفْظُهَا الْأَمِيْنُ” .
حَلَقَاتٌ عِلْمِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ ، أَصِفُ فِيْهَا الْبُيُوْتَ الْمُؤْمِنَةَ ؛ عَقِيْدَتَهَا وَأَخْلَاقَهَا ، ثم أُذَكِّرُ بَعْدَهَا بِالتَّرَاتِيْبِ السَّلَفِيَّةِ الضَّرُوْرِيَّةِ فِيْ طُرُقِ وَأَسَالِيْبِ ِحِفْظِهَا مِنْ عُدْوَانِ الْفِرَقِ الْمُعْتَدِيَةِ .
حَلَقَاتٌ مُهِمَّةٌ ، وَبِخَاصَّةٍ فِيْ أَزِمِنَةِ الْغُرْبَةِ ، مُوَجَّهَةٌ لِجَمِيْعِ أَفْرَادِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ ، صَانَهَا اللهُ مِنْ خُطَطِ وَتَدَابِيْرِ ذَوِيْ الشُّرُوْرِ الْكَائِدَةِ .
الحلقة (التاسعة– تابع2) :
-(بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْإِسْلَامِ)-
“وَصْفُ عَقِيْدَةِ أَهْلِهَا الْمُوَحِّدِيْنَ ، وَأَخْلَاقِهِمْ” .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :
(مقدمة)
والآن أوان الشروع فيما نحن فيه من ذكر أهم الشبهات التي يوردها الجهلة ، وأعداء التوحيد على : “لا إله إلا الله” ، ثم نجيب عليها بإذن الله ،
(الشُّبْهَةُ الْأُوْلَى) :
يَقُوْلُوْنَ :
“لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ” تَكْفِي قَائِلَهَا بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهَا ، فَيَكُوْنُ مُسْلِمًا ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِيْنَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ ، يَعِيْشُ دَهْرَهُ وَحَيَاتَهُ عَلَى هَذَا وَلَوْ وَقَعَ فِيْ كُلِّ شِرْكٍ ، أَوْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا قَطُّ .
ولهم على ما أوردوه -من هذه الشبهة- أدلة ، فهموها على غير مرادها ، أو اجتزأوها من سياقاتها ، منها :
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ، وَرَسُولُهُ ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ ، وَرَسُولُهُ ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ، وَرُوحٌ مِنْهُ ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ”[1]،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ ، وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ”[2]،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –لَمَّا أَنْكَرَ عَلَى أَسَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِيْنَ قَتْلَ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ-: “يَا أُسَامَةُ ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ”[3]،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ”[4]،
والجواب على هذه الأحاديث -وما شابهها- بما يلي :
– “لا إله إلا الله” لا تنفع قائلها إلا إذا جمع شروطها معها ؛ إجمالاً ، أو تفصيلًا-وقد قدمنا ذكرها في حلقات سابقة- عملاً بمقتضاها ، واعتقادًا لمعناها ؛ ظاهرًا ، وباطنًا ، وإلا كانت غير نافعة له ، وصار حاله حال المنافقين الذين يقولونها ظاهرًا ، ويخالفونها باطناً ، وهو مذهب غلاة المرجئة من الكرامية -ومن نحا نحوهم- القائلين : إن النطق -فقط- يكفي في تحقيق الإيمان ، وأخبث منهم من قال : إن المعرفة -أو التصديق- كافيان لدخول الجنة ، ولو بدون نطق ، نسأل الله العفو والعافية .
– وشروط “لا إله إلا الله” تلزم المكلف العمل بها حتى مماته ، لا كما يقول من يقول من المرجئة المعاصرين أنه يكفي التزامها ولو مرة واحدة في العمر .
– ثم لا بد أن ينتهج في الأدلة التي يراد الاستدلال بها -في أي باب من أبواب الدين- سبيل المؤمنين ، فكثير من انحراف الفرق إنما جاء من قبل اتباع الهوى ، أو العمل بالأدلة على غير قواعدها الشرعية المنضبطة ، و”الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه ، والحديث يفسر بعضه بعضًا”[5]، وَ”موافقة طريقة السلف ؛ من الصحابة ، والتابعين ، وأئمة الحديث ، والفقه في الدين ؛ كالإمام أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والبخاري ، وإسحاق ، وغيرهم، وهي رد المتشابه إلى المحكم ، وأنهم يأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ، ويبينه لهم ؛ فتتفق دلالته مع دلالة المحكم ، وتوافق النصوص بعضها بعضاً ، ويصدق بعضها بعضاً ، فإنها كلها من عند الله ، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ، ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره”[6]؛ ويصدق ذلك قوله تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}[النساء: 82] ، والسنة من عند الله كما أن القرآن من عند الله ؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ”[7]، فلا يوجد ألبتة “حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ، ليس أحدهما ناسخاً للآخر ، فهذا لا يوجد أصلاً ، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق ؛ الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق”[8]، صلى الله عليه وسلم .
– وأما الأحاديث المتقدم ذكرها ؛ فـ”كلها يفسر بعضها بعضًا ، والمعنى : أن من قال : لا إله إلا الله صادقًا من قلبه ، مخلصًا لله وحده ، وأدى حقها ؛ بفعل ما أمر الله ، وترك ما حرم الله ، ومات على ذلك دخل الجنة ، وعصم دمه ، وماله حال حياته ، إلا بحق الإسلام”[9]؛ أي : كقتل المرتد ، أو القاتل ، ورجم الزاني ، وقطع يد السارق ، ونحو ذلك ، ويجب الكف عمن قالها ولم يتمكن من العمل -كما هو الحال في قصة أسامة رضي الله عنه ، في الحديث المتقدم- فإن تمكن ثم أتى بما يناقضها لم يجب الكف عنه ، بل يؤاخذ بما صدر منه ؛ كما فعل فعل أبو بكر رضي الله عنه في قتال المرتدين ، وكما فعل علي رضي الله عنه في تحريق السبئيين .
– ومن قالها نفاقاً ؛ فالله أعلم بمراده ، ولم نؤمر أن ننقب عن قلبه ، وليس لنا إلا ما ظهر ؛ كما هو حال المنافقين الذين يبطنون ما لا يظهرون ،
ومما يدل عليه من الأحاديث ،
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ”[10]،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ”[11]،
– ومن كلام الأئمة في الرد على الشبهة السالفة :
قَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله ، وأن الله رب كل شيء ومليكه ؛ كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون ، بل التوحيد يتضمن من محبة الله ، والخضوع له ، والذل له ، وكمال الانقياد لطاعته ، وإخلاص العبادة له ، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال ، والمنع ، والعطاء ، والحب ، والبغض ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي ، والإصرار عليها ، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهُ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ»[12]، … وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس ، حتى ظنها بعضهم منسوخة ، وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر ، والنواهي ، واستقرار الشرع ، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار ، وأول بعضهم الدخول بالخلود ، وقال : المعنى لا يدخلها خالدًا ، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة ، والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلًا بمجرد قول اللسان فقط ، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ؛ فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار ، فلا بد من قول القلب ، وقول اللسان ، وقول القلب يتضمن من معرفتها ، والتصديق بها ، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات ، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله المختصة به ؛ التي يستحيل ثبوتها لغيره ، وقيام هذا المعنى بالقلب علمًا ، ومعرفة ، ويقينًا ، وحالًا ؛ ما يوجب تحريم قائلها على النار”[13]،
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهِ : “وأما حديث أسامة الذي قتل فيه من قال ” لا إله إلا الله ، حين لحقه أسامة ليقتله ، وكان مشركاً ، فقال : لا إله إلا الله ، فقتله أسامة لظنه أنه لم يكن مخلصاً في قوله ، وإنما قاله تخلصاً فليس فيه دليل على أن كل من قال : لا إله إلا الله فهو مسلم معصوم الدم ، ولكن فيه دليل على أنه يجب الكف عمن قال : لا إله إلا الله ، ثم بعد ذلك ينظر في حاله حتى يتبين ، والدليل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ}[سورة النساء:94] ؛ أي فتثبتوا ، وهذا يدل على أنه إذا تبين أن الأمر كان خلاف ما كان عليه فإنه يجب أن يعامل بما يتبين من حاله ، فإذا بان منه ما يخالف الإسلام قتل ولو كان لا يقتل مطلقاً إذا قالها لم يكن فائدة للأمر بالتثبت”[14].
وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَنٍ آلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهِ : “قوله : «مَنْ شَهِدَ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ”[15]؛ أي : من تكلم بها عارفًا لمعناها ، عاملًا بمقتضاها ، باطنًا وظاهرًا ، فلا بد في الشهادتين من العلم ، واليقين ، والعمل بمدلولها ؛ كما قال الله تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ}[محمد :19] ، وقوله : {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86] ، أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ، ولا يقين ، ولا عمل بما تقتضيه ؛ من البراءة من الشرك ، وإخلاص القول ، والعمل ؛ قول القلب واللسان ، وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع”[16]،
نكمل في الحلقة التالية إن شاء الله .
([1]) رواه البخاري (3435) .
([2]) رواه البخاري (1399) ، ومسلم (32) .
([3]) رواه البخاري (4269) ، ومسلم (191) .
([4]) رواه البخاري (44) ، ومسلم (388) .
([5]) الجامع لأخلاق الراوي ؛ للخطيب البغدادي (2/212) .
([6]) إعلام الموقعين ؛ لابن القيم (2/294) .
([7]) رواه أبو داوود (4604) .
([8]) زاد المعاد (4/137) .
([9]) مجموع التاوى ؛ لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (28/204) .
([10]) رواه البخاري (25) ، ومسلم (38) ،
([11]) رواه البخاري (128) ، ومسلم (57) .
([12]) رواه البخاري (425) ، ومسلم (1440) .
([13]) مدارج السالكين (1/339) .
([14]) كشف الشبهات ، ص : (94) .
([15]) من حديث عبادة المتقدم .
([16]) فتح المجيد ؛ ص: (35) .