عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .
تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …
الحلقة (64)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
“التَّقْلِيْلُ مِنْ خُطُوْرَةِ مُنْكَرَاتِ الشَّهَوَاتِ نَفْثَةٌ إِرْجَائِيَّةٌ خَبِيْثَةٌ” .
يَسْرِي أُوَارُهَا في هَذِهِ الْأَيَّامِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُنْتَسِبِيْنَ إِلَى الْعِلْمِ -هَدَاهُمُ اللهُ- .
يُحَذِّرُوْنَ مِنْ فِرَقٍ ، وَأَحْزَابٍ ، وَجَمَاعَاتٍ مُخَالِفَةٍ -وَهَذَا مِنْهُمْ حَقٌّ- لَكِنْ إِذَا ذُكِرَتِ مُنْكَرَاتِ الشَّهَوَاتِ قَالُوْا -مُقَلِّلِيْنَ مِنْ شَأْنِهَا- : هَذِهِ مُنْكُرَاتٌ ، وَمَعَاصٍ شَهْوَانِيَّةٌ ، الْمُنْكَرَاتُ الْبِدْعِيَّةُ أَشَدُّ ، وَأَخْطَرُ !!
أَقُوْلُ : نَعْمْ ، الْمُنْكَرَاتُ الْبِدْعِيَّةُ أَخْطَرُ ، لَكِنْ :
أَلَا تَعْلَمُوْنَ -يَا هَؤُلَاءِ- : أَنَّ “الْمَعَاصِي بَرِيْدُ الْكُفْرِ”[1]، فَالْإِصْرَارُ عَلَيْهَا بِلَا تَوْبَةٍ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ بِاللهِ ، وَبِشَرِيْعَةِ الْإِسْلَامِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- .
كَمَا قَالَ تَعَالَى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63] ، وَالفِتْنَةُ الْمَقْصُوْدُ بِهَا هَاهُنَا : الكُفْرُ[2].
وَكَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا : {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14] ، وَالْعَبْدُ “إِنِ اِسْتَمَرَّ عَلَى الذُّنُوبِ ، وَأَصَرَّ عَلَيهَا خِيْفَ عَلَيْهِ أَنْ يَرِيْنَ عَلَى قَلْبِهِ ؛ فَتُخْرِجَهُ عَنِ الإسْلامِ بِالكُلِّيَّةِ”[3]،
أَلَا تَعْلَمُوْنَ -يَا هَؤُلَاءِ- : أَنَّ الْمَوْجَةَ الْإِلْحَادِيَّةُ ، وَالْمُنْتَشِرَةُ بَيْنَ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ ؛ خَاصَّةً -هَذِهِ الْأَيَّامِ- إِنَّمَا سَاقَهُمْ إِلَيْهَا الْاِنْغِمَاسُ فِيْ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَعْمُرُوْا قُلُوْبَهُمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ بِمَا يُحِبُّهُ الرَّحْمَنُ ، مَلَؤُهَا بِمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ ، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}[النساء:60] ، وَمِنْ أَشَدِّ إِضْلَالَاتِ الشَّيْطَانِ اللَّعِيْنِ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَعْبُدُوْهُ ، وَيُطِيْعُوْهُ فِيْ تَرْكِ التَّوْحِيْدِ ، وَالْاِنْصِرَافِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَهْوَاءِ ، وَالشَّهَوَاتِ ، وَالشَّيَاطِيْنِ .
وَالدُّعَاةُ إِلَى بِدْعَةِ الْإِرْجَاءِ الْمُعَاصِرِ فِيْ أَزْمِنَتِنَا -هَذِهِ- الْمُتَأَخِّرَةِ ضَلُّوْا الطَّرِيْقَ ، وَأَضَاعُوْا السَّبِيْلَ فِيْ مَسَائِلَ عِدَّةٍ ، وَفِيْ شَأْنِهِمْ هَذَا صَارُوْا -بِسُكُوْتِهِمْ عَنْ إِنْكَارِ الْمُنْكَرَاتِ ، أَوْ تَقْلِيْلِهِمْ مِنْ شَأْنِهَا- مُسَوِّقِيْنَ لِأَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ ، وَالْمُنْكَرَاتِ الْمُضِلَّاتِ ، فِيْ رُكُوْبِ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ ، مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُوْنَ ، أَوْ لَا يَشْعُرُوْنَ ، وَقَدْ وَقَعُوْا -وَلَا شَكَ- فِيْ الْمُخَالَفَةِ ، وَبَعُدُوْا عَنِ الْأَحَقِّيَّةِ فِيْ وَصْفِ الْخَيْرِيَّةِ ، الْتِيْ وُصِفَتْ بِهَا الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}[آل عمران:110] ،
جَفَوْا ، كَمَا إِنَّ الْخَوَارِجَ -وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ- غَلَوْا ، … وَكِلَا طَرَفِيْ قَصْدِ الْأُمُوْرِ ذَمِيْمُ ،
يَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ -فِيْ هَذَا الشَّأْنِ- : “نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِتَالِ فِيْ الْفِتْنَةِ ؛ فَأَهْلُ الْبِدَعِ مِنَ الْخَوَارِجِ ، وَالْمُعْتَزِلَةِ ، وَالشِّيْعَةِ ، وَغَيْرِهِمْ يَرَوْنَ قِتَالَهُمْ ، وَالْخُرُوْجَ عَلَيْهِمْ إِذَا فَعَلُوْا مَا هُوَ ظُلْمٌ ، أَوْ مَا ظَنُّوْهُ هُمْ ظُلْمًا ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوْفِ ، وَالنَّهْيِّ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَآخَرُوْنَ مِنَ الْمُرْجِئَةِ ، وَأَهْلِ الْفُجُوْرِ قَدْ يَرَوْنَ تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوْفِ ، وَالنَّهِيِّ عَنِ الْمُنْكَرِ ظَنًّا أَنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْفِتْنَةِ ، وَهَؤُلَاءِ يُقَابِلُوْنَ لِأُوْلَئِكَ”[4]،
“لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ هَدَاهُمُ اللهُ إِلَى السَّبِيْلِ الْأَقْوَمِ ، وَالصِّرَاطِ الْأَنْوَرِ ، وَالنَّمَطِ الْأَوْسَطِ ؛ فَهُمْ خِيَارٌ عُدُوْلٌ ، وَهُدَاةٌ بُدُوْرٌ ، وَأَمَاجِدُ شُكُوْرٌ ، يَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ بِمَعْرُوْفٍ ، وَيَنْهُوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِلَا مُنْكَرٍ ، لَا يَغْلُوْنَ وَلَا يَجْفُوْنَ ، لَا يُغْلِظُوْنَ عَلَى صَاحِبِ الْمُنْكَرِ ، وَلَا يَغُضُّوْنَ الطَّرْفَ عَنْهُ ، أَوْ يَتَسَاهَلُوْنَ ، بَلْ هُمْ وَسَطٌ وَسَطٌ ، وَحَقٌّ مُتَمَسِّكُوْنِ بِهِ أَبْلَجُ ، لَا يُوْجَدُ عِنْدَهُمْ أَجْنِدَةٌ سِرْيَّةٌ سِيَاسِيَّةٌ ، وَلَا أَهْدَافٌ ، أَوْ مَقَاصِدُ خَفِيَّةٌ ؛ غَيْرَ رِضَى الرَّحْمَنِ رَبِّ الْبَرِيِّةِ ، لَا تَأْخُذُهُمْ فِيْ اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ، وَلَا عُذُوْلُ عَاذِلٍ ، لَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا يُرَاعُوْنَ فِيْ إِنْكَارِهِمْ : الضَّوَابِطَ وَالْقَوَاعِدَ الْمَرْعِيَّةَ ؛ الْمَنْصُوْصَ عَلَيْهَا فِيْ الْأَدِّلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ”[5].
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ ، وَآلِهِ ، وَالصَّحْبِ الْكِرَامِ ، وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإْحْسَانٍ .
([1]) من أقوال أبي حَفْصٍ عَمرُو بنُ سَلَمَةَ النَّيسَابُورِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: “الْمَعَاصِي بَرِيْدُ الْكُفْرِ ، كَمَا أَنَّ الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ”[أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7223)] .
([2]) انظر : تفسير ابن جرير رحمه الله (17/391) .
([3]) الداء والدواء ، ص : (73) .
([4]) المستدرك على مجموع الفتاوى (3/207) .
([5]) من مقال لي بعنوان : “وسطية أهل السنة والجماعة في إنكار المنكرات” ، وهو موجود على الرابط التالي : [https://ala7sa.com/0017/] .