“بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَصْفُهَا الْمُبِيْنُ ، وَحِفْظُهَا الْأَمِيْنُ” .
حَلَقَاتٌ عِلْمِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ ، أَصِفُ فِيْهَا الْبُيُوْتَ الْمُؤْمِنَةَ ؛ عَقِيْدَتَهَا وَأَخْلَاقَهَا ، ثم أُذَكِّرُ بَعْدَهَا بِالتَّرَاتِيْبِ السَّلَفِيَّةِ الضَّرُوْرِيَّةِ فِيْ طُرُقِ وَأَسَالِيْبِ ِحِفْظِهَا مِنْ عُدْوَانِ الْفِرَقِ الْمُعْتَدِيَةِ .
حَلَقَاتٌ مُهِمَّةٌ ، وَبِخَاصَّةٍ فِيْ أَزِمِنَةِ الْغُرْبَةِ ، مُوَجَّهَةٌ لِجَمِيْعِ أَفْرَادِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ ، صَانَهَا اللهُ مِنْ خُطَطِ وَتَدَابِيْرِ ذَوِيْ الشُّرُوْرِ الْكَائِدَةِ .
الحلقة (التاسعة– تابع3) :
-(بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْإِسْلَامِ)-
“وَصْفُ عَقِيْدَةِ أَهْلِهَا الْمُوَحِّدِيْنَ ، وَأَخْلَاقِهِمْ” .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :
(مقدمة)
ومن الشبهات الخطيرة التي يوردها الجهلة ، وأعداء التوحيد في مفهوم العبادة :
(الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةِ) :
يَقُوْلُوْنَ :
التَّوَجُهُ إِلَى الْمَوْتَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ بِالدُّعَاءِ وَالْاِسْتِغَاثَةِ بِهِمْ لَيْسَ بِشِرْكٍ ، وَلَيْسَ هو مِنْ عِبَادِتِهِمْ ؛ فَنَحْنُ قَوْمٌ مُسْلِمُوْنَ ؛ نَشْهَدُ أَنْ : “لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ” ، وَنُصَلِّي ، وَنَصُوْمُ ، وَنَحُجُّ ، وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ ، الرَّازِقُ ، الْمُدَبِّرُ ، لَسْنَا كالْكُفَّارِ السَّابِقِيْنَ لَمَّا عَبَدُوْا أَصْنَامَهُمْ ، وَأَحْجَارَهُمْ ، وَأَشْجَارَهُمْ ، وَأَرَادُوْا مِنْهُمْ ؛ مُعْتَقِدِيْنَ فِيْهِمُ النَّفْعَ ، وَالضُّرَّ ، وَمَا نَصْنَعُهُ -بِأُوْلَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ- إِنَّمَا هُوَ تَوَسُّلٌ بِهِمْ فَقَطْ ؛ لِيُقَرِّبُوْنَا إِلَى اللهِ ، وَبِأَنْ يَشْفَعُوْا لَنَا عِنْدَهُ ؛ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الْمَقَرَّبُوْنَ ، وَلَهُمْ جَاهٌ عِنْدَ اللهِ رَفِيْعٌ ، لَيْسُوْا كَحَالِنَا ؛ فَنَحْنُ أَصْحَابُ ذُنُوْبٍ ، وَمَعَاصٍ ، وَسِيِّئَاتٍ ،
ولهم على ما أوردوه -على هذه الشبهة- أدلة أجروها ، وفهموها فهمًا جائرًا ، وقبل أن نوردها أود أن أجاوب على هذه الشبهة جواباً مجملاً ، ثم يأتي التفصيل بعد ، فاقول وبالله التوفيق :
– الْعِبَادَةُ أنواع معددة -وقد ذكرنا ضابطها في حلقات سابقة- فكل ما يجبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال ، الظاهرة والباطنة فهو من العبادة ، ومن ذلك : طلب الدعاء ، ومنه الاستغاثة .
والقاعدة في العبادة : أن ما كان لله تعالى فصرفه إلى غيره شرك مخرج من الملة ، فطلب الدعاء ، أو الاستغاثة من الأموات ، أو الغائبين ، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر ، وصاحبه إن مات على شركه فقد حبط عمله كله ، وبطل إسلامه ، ويكون في النار مع سائر المشركين ، ولا ينفعه نطقه بكلمة التوحيد ، ولا أي عمل من أعمال الإسلام .
– حَقِيْقَةُ التَّوَسُّلِ الْمَشْرُوْعِ هو أن نتقرب إلى الله ، ونتوصل إلى مراضيه بما يحبه ويريده ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:35] ، أي : “واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه ، والوسيلة : هي الفعيلة من قول القائل : توسلت إلى فلان بكذا ، بمعنى تقربت إليه”[1]، فنتوصل إلى رحمته ، ومحبته ، ودخول جنته ، والنجاة من ناره بـ:
الإيمان به ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم ،
وبأداء الأعمال الصالحة خالصة له ، صائبة على وفق السنة ؛ كالصلاة ، والصوم ، والزكاة ،
وبدعائه بأسمائه وصفاته ؛ كقول القائل : اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى اغفر لي ذنبي ، أو دعائه بأداء العمل الصالح بإخلاص ؛ كقول القائل : اللهم بحبي رسولك صلى الله عليه وسلم ، وببري بوالدي استجب دعائي .
أو بدعاء العبد الصالح الحي ، كقول القائل : اللهم إنا نتوسل إليك بدعاء فلان أن تسقينا ، اللهم فأسقنا ،
فكل هذا -وأمثاله- من التوسل المشروع ، أما ما عداه فهو من التوسل الممنوع ؛
ومنه : التوسل بجاه ، وذوات الصالحين ، فهذا بدعة محدثة .
ومنه : التوسل بدعاء الأموات والغائبين ، كقول القائل : مدد يا رسول الله ، أو أغثني يا جيلاني ، أو اشفع لي عند ربك يا علي ، ومنه قوله تعالى -حكاية عن المشركين- {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر:3] ، فهذا شرك أكبر .
– الشَّفَاعَةُ : مأخوذة من لفظ الشفع ، الذي هو ضد الوتر ، وهي : التوسط للغير بجلب ما ينفعه ، أو دفع ما يضره ،
والشفاعة التي في الآخرة ، والتي جاء ذكرها في النصوص الشرعية كلها لله ، فهي ملك له وحده سبحانه وتعالى ، لا تطلب إلا منه ، فمن طلبها من غيره ؛ كالأموات ، وأصحاب القبور ، أو غيرهم فقد وقع في الشرك الأكبر ،
فإذا جاء اليوم الآخر فلن يشفع أحد لأحد فيه إلا من بعد أن يأذن الله تعالى لمن يشاء من عباده ، ويرضى ، وهو -سبحانه- لا يرضى إلَّا لأهل التوحيد ؛ الشافع ، والمشفوع له ، فمن أراد الشفاعة فليطلبها مباشرة من الله ، فيقول -مثلاً- : اللهم شفع نبينا فينا ، أو نحو ذلك .
ومن أقوال الأئمة في ذلك :
يَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “فكل من غلا في حي ، أو في رجل صالح ؛ كمثل : علي رضي الله عنه ، أو عدي ، أو نحوه ، أو في من يعتقد فيه الصلاح ؛ كالحلاج ، أو الحاكم الذي كان بمصر ، أو يونس القتي ، ونحوهم ، وجعل فيه نوعًا من الإلهية ؛ مثل : أن يقول كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده ، أو يقول إذا ذبح شاة باسم سيدي ، أو يعبده بالسجود له ، أو لغيره ، أو يدعوه من دون الله تعالى ؛ مثل أن يقول : يا سيدي فلان اغفر لي ، أو ارحمني ، أو انصرني ، أو ارزقني ، أو أغثني ، أو أجرني ، أو توكلت عليك ، أو أنت حسبي ، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال ، والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى فكل هذا شرك ، وضلال يستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا قتل ؛ فإن الله إنما أرسل الرسل ، وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له ، ولا نجعل مع الله إلها آخر”[2].
وَيَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ : التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته ، وبدعاء غيره من الأنبياء ، والصالحين في حياتهم فهذا كله مستحب ، كما توسل الصحابة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته ، وتوسلوا بدعاء العباس بن عبد المطلب ؛ عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبدعاء يزيد بن الأسود الجرشي ،
وأما التوسل بجاه المخلوقين ، كمن يقول : اللهم إني أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، ونحو ذلك ، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر العلماء على النهي عنه ، وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى أنه بدعة إجماعًا ، ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى فلا يقتضي ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم ، لأن الذي لهم من الجاه ، والدرجات أمر يعود نفعه إليهم ، ولا ننتفع من ذلك إلا باتباعنا لهم ، ومحبتنا لهم ، والله المجازي لنا على ذلك”[3].
وَيَقُوْلُ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيْزِ بْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ : “طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من غيره من الأموات لا يجوز ، وهو شرك أكبر عند أهل العلم ؛ لأنه لا يملك شيئاً بعدما مات عليه الصلاة والسلام ، والله يقول : {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزمر: 44] ، الشفاعة ملكه سبحانه وتعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات لا يملكون التصرف بعد الموت في شفاعة ، ولا في دعاء ، ولا في غير ذلك”[4].
نُكْمِلُ فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ .
([1]) انظر : تفسير الطبري (10/290) .
([2]) مجموع الفتاوى (3/395) .
([3]) الدرر السنية (2/162) .
([4]) فتاوى نور على الدرب (2/105) .