عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .
تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …
الحلقة (67)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
“مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ” .
فِيْ طَرِيْقِ سَيْرِنَا فِيْ هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ وَقَفَاتٍ مُتَكَرِّرَةٍ ، يَقِفُ الْوَاحِدُ مِنَا فِيْهَا مَعَ نَفْسِهِ مُحَاسِبًا مُرَاقِبًا ، مُفَتِّشًا مُدَقِّقًا ، لِائِمًا مُعَاتِبًا ، نَاصِحًا وَاعِظًا ، مُذَكِّرًا مُبَكِّتًا ، نَادِمًا مُتَحَسِّرًا عَلَى مَا فَاتَه مِنْ أَيَّامٍ وَأَوْقَاتٍ ، وَلَحَظَاتٍ وَسَاعَاتٍ لَمْ يُحَقِّقْ فِيْهَا الْعُبُوْدِيَّةَ -حَقَّ التَّحْقِيْقِ- لِلَّهِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ ،
وَأَحَبُّ مَنْ يَقُوْمُ بِهَذِهِ الْمُحَاسَبَةِ -اِسْتِمْرَارًا عَلَى الدَّوَامِ- هُمْ إِخْوَانِي مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالتَّوْحِيْدِ ، فِيْ أَزْمِنَةٍ اِشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ فِيْهَا الْغُرْبَةُ ، وَعَظُمَتِ الْمِحْنَةُ ؛ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ -فِيْ هَذَا الطَّرِيْقِ- هُمُ الْقُدُوَاتُ ، الدُّعَاةُ ، الْهُدَاةُ لِمَنْ ضَلَّ عَنِ السَّبِيْلِ ، وَانْصَرَفَ عَنْ سُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِيْنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَضَابِطُ هِذِهِ الْمُحَاسَبَةِ -بِاخْتِصَارٍ- هِيَ : أَنْ “يُمَيِّزَ الْعَبْدُ بَيْنَ مَا لَهُ ، وَمَا عَلَيْهِ ؛ فَيَسْتَصْحِبَ مَا لَهُ ، وَيُؤَدِّيْ مَاَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسَافرٌ سَفَرَ مَنْ لَا يَعُوْدُ”[1]،
وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَا هَهُنَا أَدِلَّةٌ ، وَأُصُوْلٌ ،
قَالَ تَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[الحشر: 18] ؛ “أَيْ : حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ، وَانْظُرُوا مَاذَا ادَّخَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَوْمِ مَعَادِكُمْ ، وَعَرْضِكُمْ عَلَى رَبِّكُمْ”[2].
وَقَالَ تَعَالَى : ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ ؛ هِيَ النَّفْسُ اللَّؤُوْمُ ؛ “تَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَتَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ”[3]،
وَمَنْ نَظَرَ فِيْ سِيَرِ الْأَكَابِرِ النُّبَلَاءِ ، وَالشُّدَاةِ الْأَعْلَامِ ؛ مِنَ الْأَسْلَافِ ، والتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ رَأَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيْمَ لَا يُفَارِقُهُمْ أَبَدًا ؛ لَا فِيْ لَيْلِهِمْ ، وَلَا فِيْ النَّهَارِ ، لَا فِيْ إِقَامَتِهِمْ ، وَلَا فِيْ الْأَسْفَارِ ، فَهُوَ لَهُمْ زَادٌ فِيْ رَحْلَتِهِمْ ، وَنُوْرٌ يُسْفِرُ لَهُمْ طَرِيْقَهُمْ فِيْ مَسِيْرِهِمْ ؛ يَوْمَ الْوِفَادَةِ عَلَى رَبِّهِمْ .
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : “سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَومًا ، وَقَدْ خَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا ؛ فَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ -وَبَينِي وَبَينَهُ جِدَارٌ ، وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ- : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، بَخٍ بَخٍ ، وَاللَّهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ ، أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ”[4]،
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ ، قَالَ : “إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ ، يِحِسَابِ نَفْسِهِ لِلَّهِ ، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّما شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ”[5]،
وَعَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ رَحِمَهُ اللهُ ، قَالَ : “لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يُحَاسَبَ نَفْسَهُ أَشَدَّ مِنْ مُحَاسَبَةِ شَرِيكِهِ ، حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ ، وَمِنْ أَيْنَ مَلْبَسُهُ ، وَمِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ ، أَمِنْ حِلٍّ ذَلِكَ أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟”[6].
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللهُ ، قَالَ : “رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ لِنَفْسِهِ : أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ ثُمَّ ذَمَّهَا ، ثُمَّ خَطَمَهَا ، ثُمَّ أَلْزَمَهَا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ لَهَا قَائِدًا”[7]،
وَالْآثَارُ فِيْ ذَلِكَ كَثِيْرَة ، وَلَوْلَا بُغْيَةَ الْاِخْتِصَارِ لَأَتَيْنَا بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَـ:
فَيَا إِخْوَتَاهُ ، نَفُوْسَكُمْ لَا تُهْمِلُوْهَا ، رَاقِبُوْهَا ، وَحَاسِبُوْهَا ، زَكُّوْهَا ، وَطَهِّرُوْهَا ؛ فَإِنَّ زَكَاتَهَا ، وَطَهَارَتَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى مُحَاسَبَتِهَا الْمُحَاسَبَةَ الصَّادِقَةَ ؛ لَيْسَ إِلَّا .
“وَجِمَاعُ ذَلِكَ :
أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ أَوَّلًا عَلَى الْفَرَائِضِ ؛ فَإِنْ تَذَكَّرَ فِيْهَا نَقْصًا تَدَارَكَهُ ، إِمَّا بِقَضَاءٍ ، أَوْ إِصْلَاحٍ ،
ثُمَّ يُحَاسِبَهَا عَلَى الْمَنَاهِي ؛ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ اِرْتَكَبَ مِنْهَا شَيْئًا تَدَارَكَهُ بِالتَّوْبَةِ ، وَالْاِسْتِغْفَارِ ، وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ ،
ثُمَّ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى الْغَفْلَةِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ غَفَلَ عَمَّا خُلِقَ لَهُ تَدَارَكَهُ بِالذِّكْرِ ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ تَعَالَى ،
ثُمَّ يُحَاسِبَهَا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ ، أَوْ مَشَتْ إِلَيْهِ رِجْلَاهُ ، أَوْ بَطَشَتْ يَدَاهُ ، أَوْ سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ : مَاذَا أَرَادَتْ بِهَذَا ؟ وَلِمَ فَعَلَتْهُ ؟ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَتْهُ ؟
وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُنْشَرَ لَهُ لِكُلِّ حَرَكَةٍ ، وَكَلِمَةٍ مِنْهُ دِيْوَانَانِ : دِيْوَانُ لِمَ فَعْلَتَهُ ؟ وَكَيْفَ فَعَلْتَهُ ؟ فَالْأَوَّلُ : سُؤَالٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ ، وَالثَّانِيْ : سُؤَالٌ عَنِ الْمُتَابَعَةِ ،
قَالَ تَعَالَى : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْمَلُونَ} [الحجر:92-93] ،
وَقَالَ تَعَالَى : {فَلَنَسْئَلَنَّ الّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبينَ}[الأعراف:6-7]
وَقَالَ تَعَالَى : {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهمْ}[الأحزاب:8] .
فَإِذَا سُئِلَ الصَّادِقُوْنَ ، وَحُوْسِبُوْا عَلَى صِدْقِهِمْ فَمَا الظَّنُّ بِالْكَاذِبِيْنَ؟!”[8].
اللَّهُمَّ اِغْفِرْ زَلَلَنَا وَتَقْصِيْرَنَا ، وَلَا تُؤَاخِذْنْا إِنْ نَسِيْنَا ، أَوْ جَهِلْنَا ،
اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا ، وَأَعِنَّا عَلَى تَزْكِيَتِهَا ، وَمُحَاسَبَتِهَا ،
وَصّلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى إِمَامِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَعَلَى آلِهِ ، وَصَحَابَتِهِ الْأَصْفِيَاءِ ، الْأَوْفِيَاءِ .
([1]) مدارج السالكين (1/187) .
([2]) تفسير ابن كثير (8/77) .
([3]) تفسير الطبري (23/470) .
([4]) موطأ الإمام مالك (24) .
([5]) حلية الأولياء (2/157) .
([6]) حلية الأولياء (4/89) .
([7]) محاسبة النفس ؛ لابن أبي الدنيا (8) .
([8]) إغاثة اللهفان ؛ لابن القيم (1/83) ، بتصرف يسير .