القائمة إغلاق

 “بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَصْفُهَا الْمُبِيْنُ ، وَحِفْظُهَا الْأَمِيْنُ” .

حَلَقَاتٌ عِلْمِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ ، أَصِفُ فِيْهَا الْبُيُوْتَ الْمُؤْمِنَةَ ؛ عَقِيْدَتَهَا وَأَخْلَاقَهَا ، ثم أُذَكِّرُ بَعْدَهَا بِالتَّرَاتِيْبِ السَّلَفِيَّةِ الضَّرُوْرِيَّةِ فِيْ طُرُقِ وَأَسَالِيْبِ ِحِفْظِهَا مِنْ عُدْوَانِ الْفِرَقِ الْمُعْتَدِيَةِ .

حَلَقَاتٌ مُهِمَّةٌ ، وَبِخَاصَّةٍ فِيْ أَزِمِنَةِ الْغُرْبَةِ ، مُوَجَّهَةٌ لِجَمِيْعِ أَفْرَادِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ ، صَانَهَا اللهُ مِنْ خُطَطِ وَتَدَابِيْرِ ذَوِيْ الشُّرُوْرِ الْكَائِدَةِ .

الحلقة (التاسعة– تابع5) :

-(بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْإِسْلَامِ)-

“وَصْفُ عَقِيْدَةِ أَهْلِهَا الْمُوَحِّدِيْنَ ، وَأَخْلَاقِهِمْ” .

نسخة رقمية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :

(تابع)

ومن أدلة أعداء التوحيد على ما ذكرناه -في الحلقة السابقة- من الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ ، ما أوردوه من استدلالات منحرفة على جواز التوسل المبتدع بالأنبياء ، والصالحين ،

(1)

من ذلك حديث :

أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا قَحَطُوْا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : “اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا ، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا” ، قَالَ : فَيُسْقَوْنَ[1]،

فيرون أن التوسل المذكور في هذا الحديث إنما هو بذات المتوسل به ، أو بجاهه ؛ لذا صار من دعائهم : اللهم إنا نسألك بذات نبيك -أو بجاه نبيك- أن تسقينا ، أو : أن تحقق لنا مرادنا ، أو نحو ذلك من الأدعية ،

فَالْجَوَابُ عَلَى مَا اسْتَدَلَّوْا بِهِ هُوَ أَنْ نَقُوْلَ :

هذا منهم رأي سقيم ، وما التزموه من أدعية أدعية مبتدعة ، محرمة ؛ بذات النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بذات غيره ، بجاهه صلى الله عليه وسلم ، أو بجاه غيره ؛ لأنها وسيلة لدعاء أصحابها دعاء العبادة ، أما إن كان التوسل المقصود به دعاء أصحابها ، والطلب منهم الغوث ، والاستغاثة فهذا شرك أكبر لا شك فيه ، وما طلبه الصحابة رضوان الله عليهم من الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته هو أن يدعو لهم الله بأن يسقوا المطر ، وكذلك ما طلبوه من العباس رضي الله عنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل هذا -وما كان على نحوه ، ومثاله- مشروع لا إشكال فيه ، مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو مع غيره ،

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “فلفظ «التوسل» به -صلى الله عليه وسلم-معنيان صحيحان باتِّفاق المسلمين ، ويُراد به معنًى ثالث لم تَرِد به سُنة ، فأما المعنيان الأَوَّلان الصحيحان باتِّفاق العلماء ، فـ:

أحدُها هو : أصل الإيمان والإسلام ، وهو التوسُّل بالإيمان به وبطاعته ،

والثاني : دعواه ، وشفاعته كما تقدَّم ؛ فهذان جائزان بإجماع المسلمين ، ومن هذا قول عمر بن الخطاب : «اللهمَّ إنَّا كنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبيِّنا ، فَتَسْقِيَنَا ، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا ، فَاسْقِنَا» ؛ في الاستسقاء ؛ أي : بدعائه ، وشفاعته ، وقوله تعالى:  {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}[المائدة:35] ؛ أي : القُربة إليه ؛ بطاعته ، وطاعة رسوله ؛ قال تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء:80] ، 

الثالث التوسُّل به ، بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال ، فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ؛ لا في حياته ، ولا بعد مماته ، لا عند قبره ، ولا غير قبره ، ولا يُعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم ، ولم يُنقل شيءٌ من ذلك في أحاديثَ ضعيفة مرفوعة[2]، أو موقوفة ، أو عمَّن ليس قوله حجة ؛ … ، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة ، وأصحابه : إنه لا يجوز ؛ أي : نَهوا عنه ؛ حيث قالوا: لا يسأل بمخلوقٍ ، ولا يقول آخر : أسألك بحقِّ أنبيائك”[3]، و”التوسُّل بدعائه ، وشفاعته ؛ كما قال عمر -رضي الله عنه- فإنه توسُّل بدعائه ، لا بذاته ؛ ولهذا عَدَلوا عن التوسُّل به إلى التوسل بعمِّه العباس ، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هو أَوْلى من التوسل بالعباس ، فلما عَدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس عُلِمَ أن ما يفعل في حياته قد تعذَّر بموته ، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به ، والطاعة له فإنه مشروع دائما”[4]،

وَسُئِلَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ بِرِئَاسَةِ سَمَاحَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيْزِ بْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ السؤال التالي :

“مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقول في دعائه : اللهم أعطني كذا وكذا من خيري الدنيا ، والآخرة ، بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ببركة الرسول ، أو بحرمة المصطفى ، أو بجاه الشيخ التيجاني ، أو ببركة الشيخ عبد القادر، أو بحرمة الشيخ السنوسي فما الحكم ؟

فأجابت :

من توسل إلى الله في دعائه بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ، أو حرمته ، أو بركته ، أو بجاه غيره من الصالحين ، أو حرمته ، أو بركته ، فقال : «اللهم بجاه نبيك ، أو حرمته، أو بركته أعطني مالًا ، وولدًا ، أو أدخلني الجنة وقني عذاب النار» ؛ مثلًا ، فليس بمشرك شركًا يخرج عن الإسلام ، لكنه ممنوع سدا لذريعة الشرك ، وإبعادًا للمسلم من فعل شيء يفضي إلى الشرك ، ولا شك أن التوسل بجاه الأنبياء ، والصالحين وسيلة من وسائل الشرك التي تفضي إليه على مر الأيام ، على ما دلت عليه التجارب ، وشهد له الواقع ، وقد جاءت أدلة كثيرة في الكتاب ، والسنة تدل دلالة قاطعه على أن سد الذرائع إلى الشرك ، والمحرمات من مقاصد الشريعة ، من ذلك قوله تعالى : {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:108] ؛ فنهى سبحانه المسلمين عن سب آلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله ، مع أنها باطلة ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب المشركين الإلهَ الحقَ سبحانه ، انتصارًا لآلهتهم الباطلة جهلًا منهم وعدوانا ، ومنها : نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ؛ خشية أن تعبد ، ومنها : تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية ، وتحريم إبداء المرأة زينتها للرجال الأجانب ، وتحريم خروجها من بيتها متعطرة ، وأمر الرجال بغض البصر عن زينة النساء ، وأمر النساء أن يغضضن من أبصارهن ؛ لأن ذلك كله ذريعة إلى الافتتان بها ، ووسيلة إلى الوقوع في الفاحشة ، … ، ولأن التوسل بالجاه ، والحرمة ونحوهما في الدعاء عبادة ، والعبادة توقيفية ، ولم يرد في الكتاب ، ولا في السنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ما يدل على هذا التوسل ، فعلم أنه بدعة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[5][6].

أما التوسل بمعنى طلب الغوث والاستغاثة فهذا لم يحدث منهم رضوان الله عليهم ، وحاشاهم أن يفعلوه ،

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “وقد كان جماعة يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه الرقية ، ويطلبون ذلك من بعض أصحابه ، وهذا وإن كان جائزًا لكن أولئك لا يسألون إلا الله ، فدرجتهم أعلى ، وأما بعد موته ، فلم يكن الصحابة يطلبون منه ما كانوا يطلبون منه في حياته ، لا من دعاء ، ولا من غير دعاء البتة ، ولا كان السلف في القرون الثلاثة يأتون إلى قبر أحدٍ من الأنبياء ، والصالحين ، يطلبون منه حاجة ، ولا دعاء ، ولا غيره ، ولا يسافرون إلى قبره ، بل إذا زاروا قبور المؤمنين كان مقصودهم الدعاء لهم ؛ كالصلاة على جنائزهم ، لا دعاؤهم ، ولا الدعاء بهم ، …”[7].

وَقَالَ سَمَاحَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيْزِ بْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ : “التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه تفصيل ، فإن كان ذلك باتباعه ، ومحبته ، وطاعة أوامره ، وترك نواهيه ، والإخلاص لله في العبادة ، فهذا هو الإسلام ، وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه ، وهو الواجب على كل مكلف ، وهو الوسيلة للسعادة في الدنيا والآخرة ، أما التوسل بدعائه ، والاستغاثة به ، وطلبه النصر على الأعداء والشفاء للمرضى فهذا هو الشرك الأكبر ، وهو دين أبي جهل ، وأشباهه من عبدة الأوثان ، وهكذا فعل ذلك مع غيره من الأنبياء ، والأولياء ، أو الجن ، أو الملائكة ، أو الأشجار ، أو الأحجار ، أو الأصنام ، وهناك نوع ثالث يسمى التوسل ، وهو التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم ، أو بحقه ، أو بذاته ؛ مثل : أن يقول الإنسان : أسألك يا الله بنبيك ، أو جاه نبيك ، أو حق نبيك ، أو جاه الأنبياء ، أو حق الأنبياء ، أو جاه الأولياء ، والصالحين ، وأمثال ذلك ، فهذا بدعة ، ومن وسائل الشرك ، ولا يجوز فعله معه صلى الله عليه وسلم ، ولا مع غيره ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع ذلك ، والعبادات توقيفية ؛ لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع المطهر ، وأما توسل الأعمى به في حياته صلى الله عليه وسلم فهو توسل به صلى الله عليه وسلم ليدعو له ، ويشفع له إلى الله في إعادة بصره إليه ، وليس توسلًا بالذات ، أو الجاه ، أو الحق ؛ كما يعلم ذلك من سياق الحديث”[8][9].

 

 

(2)

ومن ذلك حديث :

أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : “يَجْمَعُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ ، فَيَقُولُونَ : لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا ، فَيَأْتُونَ آدَمَ ، فَيَقُولُونَ : يَا آدَمُ ، أَمَا تَرَى النَّاسَ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا ، فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكَ ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَهَا ، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ ، فَيَأْتُونَ نُوحًا ، فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكُمْ ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكُمْ ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِي أَصَابَهَا ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى ، عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ ، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا ، فَيَأْتُونَ مُوسَى ، فَيَقُول ُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ ، وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ ، فَيَأْتُونَ عِيسَى ، فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكُمْ ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، فَيَأْتُونِي ، فَأَنْطَلِقُ ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا ، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ، ثُمَّ يُقَالُ لِي : ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا ، فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ”[10]،

وحديث

عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه ، أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي ، قَالَ : “إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ” ، قَالَ : فَادْعُهْ ، قَالَ : فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ : “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ؛ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ”[11].

فيرون أن طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم جائزة ، ويقولون : النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة ، ونحن نطلبها مما أعطاه الله إياها ؛ فيجوزون للواحد منهم أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيطلب منه أن يشفع له عند ربه ؛ ليرحمه ، أو ليغفر له ذنبه ، أو يدخله الجنة ، أو نحو ذلك من الحاجات ، كما جاء في هذا الحديث ،

فَالْجَوَابُ عَلَى مَا اسْتَدَلَّوْا بِهِ -هُنَا- هُوَ أَنْ نَقُوْلَ :

 هذا منهم رأي باطل مطرح ، بل هو من قبيل الشرك الأكبر ؛ فطلب الشفاعة ممن سيطلبها في ذلك الموقف إنما هي من : حي ، حاضر ، قادر ؛ فهي من قبيل التوسل المشروع ، كما كانوا يفعلونه معه صلى الله علي وسلم في الدنيا إذا قحطوا ؛ يأتونه ؛ فيطلبوا منه أن يدعو لهم ربهم أن يسقوا المطر ،

وكما فعل الأعمى -كما في حديث عثمان بن حنيف آنف الذكر- فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ، ثم سأل الله تعالى أن يقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، فقال : “اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ” ؛ أي : اللهم اقبل دعاءه في ، ورد علي بصري . 

فأين هذا من فعل عباد القبور -الآن-عند قبره صلى الله عليه وسلم ،

وكذلك المسؤول -نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن ذكر معه من الأنبياء عليهم السلام ؛ كما في حديث الشفاعة- سيطلب منه في ذلك الموقف أن يدعو ربه بأن يريحهم مما أصابهم في ذلك ؛ من عناء ، وتعب -فقط- لن يطلبوا منه أن يشفع لهم بدخول الجنة ، أو بمغفرة الذنوب ، فطلب هذا -وقبيله- إنما يكون من الله وحده ؛ لأن الشفاعة -بهذا المعنى- لا تطلب إلا من الله ، فمن طلبها من غيره فقد وقع في الشرك الأكبر ؛ لأنه دعاء لغير الله ، فيما لا يقدر عليه إلا الله ، سواء كان المطلوب منه النبي صلى الله عليه وسلم ، أو غيره ، كما قال تعالى : {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}[طه:109] ،

وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف لن يدعو إلا بعد أن يستأذن ربه ؛ لأن الشفاعة كلها لله ، ولا أحد يشفع في ذلك الموقف إلا من بعد أن يأذن له ربه ، ويرضى عنه ، وهو لا يرضى إلا لأهل التوحيد الخالص ، كحال نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومن سار على نهجه ، والتزم سنته ، وكذلك لن يشفع صلى الله عليه وسلم قي ذلك الموقف -بعد إذن الله له- إلا لمن رضي الله عنه ؛ بأن كان من أهل التوحيد ، أما المشركون ، فلن تنالهم شفاعته صلى الله عليه وسلم .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “فلو شرع أن يطلب من الميت الدعاء ، والشفاعة ، كما كان يطلب منه في حياته ؛ كان ذلك مشروعًا في حق الأنبياء ، والصالحين ، فكان يسن أن يأتي الرجل قبر الرجل الصالح ؛ نبيًّا كان ، أو غيره ، فيقول ادع لي بالمغفرة ، والنصر ، والهدى ، والرزق ، اشفع لي إلى ربك ، فيتخذ الرجل الصالح شفيعًا بعد الموت ، كما يفعل ذلك النصارى ، وكما تفعل كثير من مبتدعة المسلمين ، وإذا جاز طلب هذا منه ، جاز أن يطلب ذلك من الملائكة ، فيقال : يا جبريل ، يا ميكائيل ، اشفع لنا إلى ربك ، ادع لنا ، ومعلوم أن هذا ليس من دين المسلمين ، ولا دين أحد من الرسل ، لم يسنّ أحد من الأنبياء للخلق أن يطلبوا من الصالحين الموتى ، والغائبين ، والملائكة ، دعاء ، ولا شفاعة ، بل هذا أصل الشرك ، فإن المشركين إنما اتخذوهم شفعاء ، قال تعالى : «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ»[يونس: 18]”[12]،

 

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ : “فإن قال : أتنكر شفاعة النبي  صلى الله عليه وسلم ، وتتبرأ منها ؟ فقل : لا أنكرها ، ولا أتبرأ منها ، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع ، وأرجو شفاعته ، ولكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى : {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزمر: 44] ، ولا تكون إلا من بعد إذن الله ، كما قال عز وجل : {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}[البقرة: 255] ، ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال عز وجل : {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}[الأنبياء: 28] ، وهو لا يرضى إلا التوحيد كما قال عز وجل : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}[آل عمران: 85] ، فإذا كانت الشفاعة كلها لله ، ولا تكون إلا من بعد إذنه ، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه ، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد ، تبين لك أن الشفاعة كلها لله ، فأطلبها منه ، فأقول : اللهم لا تحرمني شفاعته ، اللهم شفعه في ، وأمثال هذا.

فإن قال : النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة ، وأنا أطلبه مما أعطاه الله ،

فالجواب : إن الله أعطاه الشفاعة ، ونهاك عن هذا ، فقال : {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] ، فإذا كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك فأطعه في قوله : {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن: 18] ، وأيضًا : فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فصح أن الملائكة يشفعون ، والأولياء يشفعون ، والأفراط يشفعون ، أتقول : إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم ؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين ؛ التي ذكر الله في كتابه ، وإن قلت : لا ، بطل قولك : أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله”[13].

·      وَقَالَ سَمَاحَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيْزِ بْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ : “طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من غيره من الأموات لا يجوز ، وهو شرك أكبر عند أهل العلم ؛ لأنه لا يملك شيئاً بعدما مات عليه الصلاة والسلام ، والله يقول : {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزمر: 44] ، الشفاعة ملكه سبحانه وتعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات لا يملكون التصرف بعد الموت في شفاعة ولا في دعاء ولا في غير ذلك”[14].

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من غيره من الأموات أمر لا يجوز ، وهو على القاعدة الشرعية ، من الشرك الأكبر ، لأنه طلب من الميت شيئًا لا يقدر عليه ، كما لو طلب منه شفاء المريض ، أو النصر على الأعداء ، أو غوث المكروبين ، وما أشبه ذلك ، فكل هذا من أنواع الشرك الأكبر ، ولا فرق بين طلب هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من الشيخ عبد القادر أو فلان أو فلان ، أو من البدوي ، أو من الحسين ، أو من غير ذلك ، طلب هذا من الموتى أمر لا يجوز ، وهو من أقسام الشرك ، وإنما الميت يترحم عليه إذا كان مسلمًا ، ويدعى له بالمغفرة ، والرحمة”[15]،

نُكْمِلُ فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ .



([1]) رواه البخاري (1010) .

([2]) كحديث مَالِكِ الدَّارِ ، والذي يقول فيه:  “أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا ، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ : ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مسْقِيُّونَ ، وَقُلْ لَهُ : عَلَيْكَ الْكَيْسُ ، عَلَيْكَ الْكَيْسُ “، فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى عُمَرُ ، ثُمَّ قَالَ : يَا رَبِّ لَا آلُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ”[رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه” (6/ 356) ، والبيهقي في “دلائل النبوة” (7/47)] ، من طريق أبي صالح ، عَنْ مالك الدار ، وهذا إسناد ضعيف لا يحتج به ، ومالك الدار مجهول ، وفي سنده -أيضًا- رجل لم يسم -وهو قوله في الرواية : فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وسمي في غير هذا الأثر ، لكن بأسانيد ضعيفة جدًا ، لا تغني شيئًا ، ولم يصب من صحح هذا الأثر ، لما وجد فيه من ضعف ، وأيضًا لما فيه من مخالفة لمنهج السلف الصالح في تحريمهم الدعاء ، والاستسقاء ، والاستشفاع من الموتى .

([3]) مجموع الفتاوى (1/201-202) .

([4]) مجموع الفتاوى (1/201-202) .

([5]) رواه مسلم (4513) .

([6]) فتاوى اللجنة الدائمة (1/502-503) .

([7]) قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق ، ص : (120) .

([8]) وسيأتي الكلام على حديث الأعمى في الفقرة التالية إن شاء الله .

([9]) مجموع الفتاوى (5/322) .

([10]) رواه البخاري (7410) ، ومسلم (394) .

([11]) رواه الترمذي (3578) ، وابن ماجه (1385) .

([12]) قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق ، ص : (120) .

([13]) كشف الشبهات ، ص : (24-26) .

([14]) فتاوى نور على الدرب (2/105) .

([15]) فتاوى نور على الدرب (2/106) .

%d مدونون معجبون بهذه: