القائمة إغلاق

“بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَصْفُهَا الْمُبِيْنُ ، وَحِفْظُهَا الْأَمِيْنُ” .

حَلَقَاتٌ عِلْمِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ ، أَصِفُ فِيْهَا الْبُيُوْتَ الْمُؤْمِنَةَ ؛ عَقِيْدَتَهَا وَأَخْلَاقَهَا ، ثم أُذَكِّرُ بَعْدَهَا بِالتَّرَاتِيْبِ السَّلَفِيَّةِ الضَّرُوْرِيَّةِ فِيْ طُرُقِ وَأَسَالِيْبِ ِحِفْظِهَا مِنْ عُدْوَانِ الْفِرَقِ الْمُعْتَدِيَةِ .

حَلَقَاتٌ مُهِمَّةٌ ، وَبِخَاصَّةٍ فِيْ أَزِمِنَةِ الْغُرْبَةِ ، مُوَجَّهَةٌ لِجَمِيْعِ أَفْرَادِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ ، صَانَهَا اللهُ مِنْ خُطَطِ وَتَدَابِيْرِ ذَوِيْ الشُّرُوْرِ الْكَائِدَةِ .

الحلقة (الثانية عشرة) :

-(بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْإِسْلَامِ)-

“وَصْفُ عَقِيْدَةِ أَهْلِهَا الْمُوَحِّدِيْنَ ، وَأَخْلَاقِهِمْ” .

نسخة رقمية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :

(مقدمة)

قد شرعنا في الحلقة السابقة في ذكر أبواب مهمة في عقيدة التوحيد ، مما لا يسع المسلم ، أو المسلمة جهلها ، واستهللنا بـ”عبادة الدعاء” ، فذكرنا التعريفات المهمة في هذه العبادة ، والتقسيمات المصاحبة لها ، ثم ثنينا بالأدلة من الكتاب والسنة عليها ، وفي هذه الحلقة سوف نتممها -إن شاء الله تعالى- بذكر أقول العلماء في فضل هذه العبادة ، وأهميتها ، فنقول وبالله التوفيق ،

ومن أقوال العلماء في فضل هذه العبادة ،

يَقُوْلُ أَبُوْ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : “من يُكثر قرع الباب يُوشك أن يُفتح له ، ومن يُكثر الدعاء يُوشك أن يستجاب له[1].

يَقُوْلُ مُطَّرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيْرِ رَحِمَهُ اللهُ : “تذاكرت ما جماع الخير ، فإذا الخير كثير ؛ الصيام ، والصلاة ، وإذا هو في يد الله تعالى ، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك ؛ فإذا جماع الخير : الدعاء”[2]،

ويَقُوْلُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٌ رَحِمَهُ اللهُ لرجل كان يأتي الملوك : “تأتي من يغلق عنك بابه ، ويظهر لك فقره ، ويواري عنك غناه ، وتدع من يفتح لك بابه ، … ، ويظهر لك غناه ، ويقول ادعني استجب لك ؟”[3].

وَيَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللهُ : “والمسلمون في مشارق الأرض ، ومغاربها قلوبهم واحدة ، موالية لله ، ولرسوله ، ولعباده المؤمنين ، معادية لأعداء الله ، ورسوله ، وأعداء عباده المؤمنين ، وقلوبهم الصادقة ، وأدعيتهم الصالحة هي العسكر الذي لا يغلب ، والجند الذي لا يخذل ؛ فإنهم هم الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة”[4].

وَيَقُوْلُ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “إذا أراد الله بعبد خيراً ألهمه دعاءه ، والاستعانة به ، وجعل استعانته ، ودعاءه سبباً للخير الذي قضاه له ؛ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «إني لا أحمل هم الإجابة ، وإنما أحمل هم الدعاء ، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه» ؛ كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبدًا ، أو يرويه ألهمه أن يأكل ، أو يشرب ، وإذا أراد الله أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب فيتوب عليه ، وإذا أراد أن يرحمه ، ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة ، والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها ، كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح ، ووجود الولد بالوطء ، والعلم بالتعليم ، فمبدأ الأمور من الله ، وتمامها على الله”[5]،

وَيَقُوْلُ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “فمن تمـام نعـمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة ، والضر ، وما يلجئهم إلى توحيده ، فيدعونه مخلصين له الدين ، ويرجونه ؛ لا يرجون أحدًا سواه ، وتتعلق قلوبهم به ، لا بغيره ، فيحصل لهم من التوكل عليه ، والإنابة إليه ، وحلاوة الإيمان ، وذوق طعمه ، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض ، والخوف ، أو الجدب ، أو حصول اليسر ، وزوال العسر في المعيشة ؛ فإن ذلك لذات بدنية ، ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن ، وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال ، أو يستحضر تفصيله بال ، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه ، ولهذا قال بعض السلف: «يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك» ، وقال بعض الشيوخ : «إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته ، وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي ؛ خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك ؛ لأن النفس لا تريد إلا حظها فإذا قضي انصرفت»[6].
وَيَقُوْلُ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “الاستغاثة بالله تعالى ، وهي الاستغاثة المأمور ما في الشرع ؛ فلا غياث ، ولا مغيث على الإطلاق إلا الله تعالى ، وكل غوث فهو من عنده، قال تعالى إخباراً عن المؤمنين في استغاثتهم إياه ليلة بدر : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] ، وقد أمر تعالى عباده أن يدعوه ، ويستغيثوه ، فهو تعالى غياث المستغيثين ، ومعناه : المدرك لعباده في الشدائد ، قال تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ، عبادتي : أي دعائي”[7].

وَيَقُوْلُ  اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “فإذا كان كل خير فأصله التوفيق ، وهو بيد الله لا بيد العبد ، فمفتاحه الدعاء ، والافتقار ، وصدق اللجأ ، والرغبة ، والرهبة إليه ، فمتى أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له ، ومتى أضلّه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجًا دونه”[8]،

وَيَقُوْلُ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب ، ولكن قد يختلف عنه أثره ؛ إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاءً لا يحبه الله لما فيه من العدوان ، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًا ؛ فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا ، وإما لحصول المانع من الإجابة ؛ من أكل الحرام ، والظلم ، ورين الذنوب على القلوب ، واستيلاء الغفلة ، والشهوة ، واللهو ، وغلبتها عليه ؛ كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  «ادعو الله، وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلب لاهٍ « ، فهذا دواء نافع مزيل للداء ، ولكنْ غفلةُ القلب عن الله تبطل قوته ، وكذلك أكل الحرام يبطل قوتها ، ويضعفها”[9]،

وَيَقُوْلُ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب ، الذي يراد وجهه ، ويبتغى قربه ، ويطلب رضاه ، وهو المعين على حصول ذلك ، وعبودية ما سواه والالتفات إليه ، والتعلق به هو المكروه الضار ، والله هو المعين على دفعه ، فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه ، فهو المعبود المحبوب المراد ، وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له ، والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدرته ، وهو المعين لعبده على دفعه عنه ، كما قال أعرف الخلق به صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : «أَعُوذ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» ، وقال : «اللهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْكَ ، وَأَلْجأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ ، لَا مَلْجَأَ ، وَلا مَنْجَى مِنْكَ إلا إلَيْكَ» ، فمنه المنجى، وإليه الملجأ ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته ، وقدرته ، فالإعاذة فعله ، والمستعاذ منه فعله ، أو مفعوله الذي خلقه بمشيئته،

فالأمر كله له ، والحمد كله له ، والملك كله له ، والخير كله في يديه ، لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه كل أحد من خلقه ، ولهذا كان صلاح العبد ، وسعادته في تحقيق معنى قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب ، لكن على أكمل الوجوه ، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب ؛ فـ: الأول : من معنى ألوهيته ، والثاني : من معنى ربوبيته ، فإن الإله : هو الذي تألهه القلوب ؛ محبة ، وإنابة ، وإجلالًا ، وإكرامًا ، وتعظيمًا ، وذلًا ، وخضوعًا ، وخوفًا ، ورجاء ، وتوكلًا .

 والرب تعالى هو الذي يربي عبده ، فيعطيه خلقه ، ثم يهديه إلى مصالحه ؛ فلا إله إلا هو ، ولا رب إلا هو ، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل ، فكذلك إلهية ما سواه،

وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه كقوله : {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] ، وقوله عن نبيه شعيب : {وَمَا تَوْفِيقِى إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ، وقوله : {وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بحمدِهِ} [الفرقان: 58] ، وقوله : {وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتيلاً رَبُّ المشْرِقِ والمغْرِبِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل: 8-9] ، وقوله : {قُلْ هُوَ رَبّى لاَ إِلهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] ، وقوله عن الحنفاءِ أتباع إبراهيم عليه لسلام : {رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإلَيْكَ أنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصِيُر} [الممتحنة: 4]…”[10].

نكمل في الحلقة التالية -إن شاء الله- .

 



([1]) رواه البيهقي في شعب الإيمان (1102) .

([2]) الوهد للإمام أحمد (1334) .

([3]) القتاعة والتعفف ؛ لابن أبي الدنيا ، ص : (67) .

([4]) مجموع الفتاوى (28/644) .

([5]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/229) .

([6]) مجموع الفتاوى (10/333-334) .

([7]) الاستغاثة في الرد على البكري ، ص : (42) .

([8]) الفوائد ، ص : (97) .

([9]) الجواب الكافي ، ص : (9) .

([10]) إغاثة اللهفان (2/26-27) .

%d