القائمة إغلاق

“بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَصْفُهَا الْمُبِيْنُ ، وَحِفْظُهَا الْأَمِيْنُ” .

حَلَقَاتٌ عِلْمِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ ، أَصِفُ فِيْهَا الْبُيُوْتَ الْمُؤْمِنَةَ ؛ عَقِيْدَتَهَا وَأَخْلَاقَهَا ، ثم أُذَكِّرُ بَعْدَهَا بِالتَّرَاتِيْبِ السَّلَفِيَّةِ الضَّرُوْرِيَّةِ فِيْ طُرُقِ وَأَسَالِيْبِ ِحِفْظِهَا مِنْ عُدْوَانِ الْفِرَقِ الْمُعْتَدِيَةِ .

حَلَقَاتٌ مُهِمَّةٌ ، وَبِخَاصَّةٍ فِيْ أَزِمِنَةِ الْغُرْبَةِ ، مُوَجَّهَةٌ لِجَمِيْعِ أَفْرَادِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ ، صَانَهَا اللهُ مِنْ خُطَطِ وَتَدَابِيْرِ ذَوِيْ الشُّرُوْرِ الْكَائِدَةِ .

الحلقة (الثالثة عشرة) :

-(بُيُوْتُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْإِسْلَامِ)-

“وَصْفُ عَقِيْدَةِ أَهْلِهَا الْمُوَحِّدِيْنَ ، وَأَخْلَاقِهِمْ” .

نسخة رقمية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته والتابعين … أما بعد :

(مقدمة)

نكمل في هذه الحلقة -إن شاء الله- المسائل العقدية المتعلقة بـ”عبادة الدعاء” ، فنقول وبالله التوفيق :

ومن تقسيمات العلماء لدعاء العبادة ، المستنبطة من القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة أن الدعاء ينقسم إلى قسمين :

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : دعاء المسألة ؛ وهو : دعاء الله بجلب ما ينفع الداعي ، أو دفع ما يضره ، في الدنيا ، والآخرة ، كدعاء الله أن يغفر الذنوب ، ويتجاوز عن الخطايا والعيوب ، أو سؤال الله الرزق الطيب ، والعيش الرغيد ،

الْقِسْمُ الثَّانِي : دعاء العبادة ؛ وهو : ما يقوم به العبد من أداء لعبادات يتعبد بها الله ، من صلاة ، وصوم ، وخوف ، ورجاء ، وذكر ، وتلاوة للقرآن ،

والقسمان متلازمان ، متداخلان ؛ فكل داع لله دعاء مسألة فهو متعبد الله ؛ لأن الدعاء في أصله -كما هو معلوم- عبادة يتعبد بها الله ، وكل متعبد لله بأنواع العبادات فهو سائل لله ، وقد سمي هذا النوع دعاء باعتبار الغاية المقصودة ؛ فإن غاية العبد من أدائه العبادات : هو رغبته أن يغفر له ربه الخطايا ، والسيئات ، والدخول في مراضي الله ، والجنات ، وهذا هو المقصود من دعاء المسألة .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : – في قول الله عزّ وجلّ : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:55-56]- :”هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعَيِ الدُّعاء : دعاء العبادة ، ودعاء المسألة  ؛ فإنّ الدُّعاء في القرآن يراد به هذا تارةً ، وهذا تارةً ، ويراد به مجموعهما ؛ وهما متلازمان ؛ فإنّ دعاء المسألة : هو طلب ما ينفع الدّاعي ، وطلب كشف ما يضره ، ودفعِه ، وكل من يملك الضر ، والنفع فإنه هو المعبود ؛ لا بد أن يكون مالكا للنفع ، والضر ، … فهو يدعو للنفع ، والضرِّ دعاءَ المسألة ، ويدعو خوفاً ، ورجاءً دعاءَ العبادة ؛ فعُلم أنَّ النَّوعين متلازمان ؛ فكل دعاءِ عبادةٍ مستلزمٌ لدعاءِ المسألة ، وكل دعاءِ مسألةٍ متضمنٌ لدعاءِ العبادة .

وعلى هذا فقوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ} يتناول نوعي الدُّعاء ، وبكل منهما فُسِّرت الآية ، قيل : أُعطيه إذا سألني ، وقيل : أُثيبه إذا عبدني ، والقولان متلازمان ، وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما ، أو استعمال اللفظ في حقيقته ، ومجازه ؛ بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعاً ، فتأمَّله ؛ فإنّه موضوعٌ عظيمُ النّفع ، وقلَّ ما يُفطن له ، وأكثر آيات القرآن دالَّةٌ على معنيين فصاعداً ، فهي من هذا القبيل .

ومن ذلك قوله تعالى : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ}[الفرقان:77] ؛ أي : دعاؤكم إياه ، وقيل : دعاؤه إياكم إلى عبادته ، فيكون المصدر مضافاً إلى المفعول ، ومحل الأول مضافاً إلى الفاعل ، وهو الأرجح من القولين  ، وعلى هذا ؛ فالمراد به نوعا الدُّعاء ؛ وهو في دعاء العبادة أَظهر ؛ أَي : ما يعبأُ بكم لولا أَنّكم تَرْجُونَه ، وعبادته تستلزم مسأَلَته ؛ فالنّوعان داخلان فيه .

ومن ذلك قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60] ، فالدُّعاء يتضمن النّوعين ، وهو في دعاء العبادة أظهر ؛ ولهذا أعقبه : {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية ، ويفسَّر الدُّعاء في الآية بهذا ، وهذا ، وروى الترمذي عن النّعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول على المنبر : إنَّ الدُّعاء هو العبادة ، ثمّ قرأ قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية ، قال الترمذي : حديث حسنٌ صحيحٌ .

وأمَّا قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الآية ، [الحج/73] ، وقوله : {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا} الآية ، [النساء:117]، وقوله : {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} الآية ، [فصلت:48] ، وكل موضعٍ ذكر فيه دعاءُ المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاءُ العبادة المتضمن دعاءَ المسألة ، فهو في دعاء العبادة أظهر

وقوله تعالى : {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ}[غافر:65] ، هو دعاء العبادة ، والمعنى: اعبدوه وحده ، وأخلصوا عبادته ، لا تعبدوا معه غيره .

أمَّا قول إبراهيم عليه السّلام : {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاء}[إبراهيم:39] ، فالمراد بالسمع هنا السمع الخاص ، وهو سمع الإجابة ، والقبول ، لا السمع العام ؛ لأنه سميع لكل مسموع ، وإذا كان كذلك ؛ فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ، ودعاء الطلب ، وسمع الرب تبارك ، وتعالى له إثابته على الثناء ، وأجابته للطلب فهو سميع لهذا ، وهذا. وأمَّا قولُ زكريا عليه السّلام : {ولم أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مريم:4] ، فقد قيل : إنَّه دعاءُ لسّمع الخاص ، وهو سمعُ الإجابة ، والقبول ، لا السّمع العام ؛ لأنَّه سميعٌ لكل مسموعٍ ، وإذا كان كذلك ؛ فالدُّعاء : دعاء العبادة ، ودعاء المسألة ، والمعنى : أنَّك عودتَّني إجابتَك ، ولم تشقني بالرد ، والحرمان ، فهو توسلٌ إليه سبحانه ، وتعالى بما سلف من إجابته ، وإحسانه ، وهذا ظاهرٌ ههنا .

وأمَّا قوله تعالى : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} الآية ، [الإسراء/110] ؛ فهذا الدُّعاء : المشهور أنَّه دعاءُ المسألة ، وهو سببُ النّزول ، قالوا : كان النّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو ربه فيقول مرَّةً : يا الله ، ومرَّةً : يا رحمن ، فظنَّ المشركون أنَّه يدعو إلهين ، فأنزل اللهُ هذه الآيةَ .

وأمَّا قوله : {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور:28] ، فهذا دعاءُ العبادة المتضمن للسؤال ؛ رغبةً ، ورهبةً ، والمعنى : إنَّا كنَّا نخلص له العبادة ؛ وبهذا استحقُّوا أنْ وقاهم الله عذابَ السّموم ، لا بمجرد السّؤال المشترك بين النّاجي ، وغيره ؛ فإنّه سبحانه يسأله من في السّموات ، والأرض ، {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}[الكهف:14] ، أي : لن نعبد غيره ، وكذا قوله : {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} الآية ، [الصّافات/125]  .

وأمَّا قوله : {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ}[القصص:64] ، فهذا دعاءُ المسألة ، يبكتهم الله ، ويخزيهم يوم القيامة بآرائهم ؛ أنَّ شركاءَهم لا يستجيبون لهم دعوتَهم ، وليس المراد : اعبدوهم ، وهو نظير قوله تعالى : {وَيَوْمَ يَقولُ نَادُوا شُرَكائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فلمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}[الكهف:52] …”[1].

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “فصل : دعاء العبادة ، ودعاء المسألة :

قوله عز وجل : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:55-56] : هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء؛ دعاء العبادة ، ودعاء المسألة ؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة ، وهذا تارة ، ويراد به مجموعهما ؛ وهما متلازمان ؛ فإن دعاء المسألة هو : طلب ما ينفع الداعي ، وطلب كشف ما يضره ، أو دفعه ، وكل من يملك الضر ، والنفع فإنه هو المعبود حقًا، والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع ، والضرر ، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًا ، ولا نفعا ، وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى : {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}[يونس:18] ، وقوله تعالى : {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}[يونس:106] ، وقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[المائدة:176] ، وقوله تعالى : {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[الأنبياء:66-67] ، وقوله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أو يَنْفَعُونَكُمْ أو يَضُرُّونَ}[الشعراء:69-73] ، وقوله تعالى : {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً}[الفرقان:3] ، وقال تعالى : {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}[الفرقان:55] ؛ فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع ، والضر القاصر ، والمتعدي ؛ فلا يملكونه لأنفسهم ، ولا لعابديهم ، وهذا في القرآن كثير ؛ بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع ، والضر ؛ فهو يدعى للنفع ، والضر دعاء المسألة ، ويدعى خوفًا ، ورجاء دعاء العبادة؛ فعلم أن النوعين متلازمان؛ فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة ، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة ، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ}[البقرة:186] يتناول نوعي الدعاء ، … ،

ومثال ذلك قوله : {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء:79] ؛ فسر بالزوال ، وفسر الدلوك بالغروب ، وحكيا قولين في كتب التفسير ، وليسا بقولين؛ بل اللفظ يتناولهما معا ؛ فإن الدلوك : هو الميل ، ودلوك الشمس : ميلها ، ولهذا الميل مبدأ ، ومنتهي ؛ فمبدأه الزوال ، ومنتهاه الغروب ؛ فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار ، لا يتناول المشترك لمعنييه ، ولا اللفظ لحقيقته ، ومجازه .

ومثاله -أيضا- : ما تقدم من تفسير الغاسق بالليل ، والقمر ، وإن ذلك ليس باختلاف ، بل يتناولهما لتلازمهما ؛ فإن القمر آية الليل ، ونظائره كثيرة …”[2].  

نكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله .



([1]) مجموع الفتاوى (15/10-15) .

([2]) بدائع الفوائد (2/3-5) .

%d