“الرَّدُّ الْعِلْمِيُّ الْمُخْتَصَرُ”
رُدُوْدٌ عِلْمِيَّةٌ مُخْتَصَرَةٌ ، أَتَنَاوَلُ فِيْهَا -أُسْبُوْعِيًّا- كِتَابًا ، أَوْ مَقَالًا ، أَوْ مُحْتَوًى مِنْ مُحْتَوَيَاتِ شَبَكَاتِ التَّوَاصُلِ ؛ مِمَّا يُنْتِجُهُ الْمُخَالِفُوْنَ ؛ سَوَاءً كَانُوْا مُبْتَدِعَةً مُحْدِثِيْنَ ، أَوْ لِيِبْرَالِيِّيْنَ ضَالِّيْنَ ، أَوْ مَنْ جَانَبَهُ الصَّوَابُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُوَحِّدِيْنَ .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
نسخة رقمية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ ، وَعَلَى آلِهِ ، وَصَحَابَتِهِ ، وَالتَّابِعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
الرَّدُّ الْخَامِسُ :
عَلَى نَقْلٍ مُجْمَلٍ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ ، وَتَفْصِيْلٍ .
النَّاقِلُ : الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ نَاصِرٍ الْقُعَيْمِيُّ وَفَّقَهُ اللهُ[1].
(1)
وَسَأَعْرِضُ النَّقْلَ -هُنَا- ثُمَّ مُقَدِّمَةَ الشَّيْخِ النَّاقِلِ ، ثُمَّ سأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِمَا بِمَا يُيَسِّرُ اللهُ تَعَالَى :
– قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ -كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ مَرْعِيُّ الْكَرْمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ ؛ بِمَعْنَاهُ- : “كَمَا أَنَّ الْفَاعِلِيْنَ لِهَذِهِ الْبِدَعِ مَعِيْبُوْنَ قَدْ أَتَوْا مَكْرُوْهًا ؛ فَالتَّارِكُوْنَ لِلسُّنَنِ أَيْضًا مَذْمُوْمُوْنَ ؛ فَإِنَّ كَثِيْرًا مِنَ الْمُنْكِرِيْنَ لِبِدَعِ الْعِبَادَاتِ ، وَالْعَادَاتِ تَجِدُهُمْ مُقَصِّرِيْنَ فِيْ فِعْلِ السُّنَنِ ، أَوِ الْأَمْرِ بِهِ ، وَلَعَلَّ حَالَ كَثِيْرٍ مِنْهُمْ يَكُوْنُ أَسْوَأَ مِنْ حَالِ مَنْ يَأْتِي بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْكَرَاهَةِ” ،
وَقَالَ -أَيْضًا- : “فَمَنْ تَعَبَّدَ بِبَعْضِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَرَاهَةِ ؛ كَالْوِصَالِ فِيْ الصِّيَامِ ، … ، أَوْ قَصْدِ إِحْيَاءِ لَيَالٍ لَا خُصُوْصَ لَهَا ؛ كَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ ، وَلَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ يَكُوْنُ حَالُهُ خَيْرًا مِنَ الْبَطَّالِ الَّذِي لَيْسَ فِيْهِ حِرْصٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ ، وَعِبَادَتِهِ ، بَلْ كَثِيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ يُنْكِرُوْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ زَاهِدُوْنَ فِيْ جِنْسِ عِبَادَةِ اللهِ ؛ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ”.
– وَفِيْ مُقَدِّمَةِ هَذَا النَّقْلِ قَالَ الشَّيْخُ الْقُعَيْمِيُّ وَفَّقَهُ اللهُ : ” كَوْنُ الْعَبْدِ عَلَى السُّنَّةِ لَا يَعْنِي دَائِمًا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ السُّنِّيِّ ؛ إِلَّا إِذَا اِقْتَرَنَ عِلْمُهُ بِالْعَمَلِ ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُوْنُ الْعَامِلُ غَيْرُ السُّنِّيِّ أَفْضَلُ مِنَ السُّنِّيِّ ؛ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِالسُّنَنِ” .
الْجَوَابُ ، وَالرَّدُّ :
وَيَظْهَرُ مِنَ النَّقْلِ السَّابِقِ -لِمَنْ يَقْرَأَهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ- أَمْرَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْبِدَعَ لَيْسَتْ كُلُّهَا مُحَرَّمَةً ، بَلْ فِيْهَا شَيْءٌ مَكْرُوْهٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُبْتَدِعَةَ قَدْ يَكُوْنُوْنَ فِيْ بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَفْضَلَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ .
وَلِلْجَوَابِ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، أَقُوْلُ ، وَبِاللهِ التَّوْفِيْقُ :
أَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ : فَهَذَا النَّقْلُ -وَأَمْثَالُهُ– قَدْ يَكُوْنُ مَسْتَمْسَكًا لِبَعْضِ الْمُخَالِفِيْنَ ؛ الْقَائِلِيْنَ بِتَقْسِيْمِ الْبِدَعِ ؛ إِلَى حَسَنَةٍ ، وَقَبِيْحَةٍ ، أوَ مَكْرُوْهَةٍ ، وَمُحَرَّمَةٍ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّقْسِيْمَاتِ ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ ، وَلَا رَيْبَ ؛ لِأَنَّهُ تَـمَسُّكٌ بِمُتَشَابِهٍ مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الِإْسْلَامِ ، غَيْرِ مَقْصُوْدٍ لَهُ رَحِمَهُ اللهُ ، أَمَّا الْمُحْكَمُ الصَّرِيْحُ ، الْمَقْصُوْدُ لَهُ ؛ فَهُوَ :
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ : “وَقَدْ كَتَبْتُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» مُتَعَيِّنٌ ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ ، وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ يُصَنِّفُ الْبِدَعَ إلَى حَسَنٍ ، وَقَبِيحٍ ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى أَلَا يُحْتَجَّ بِالْبِدْعَةِ عَلَى النَّهْيِ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ كَمَا يَفْعَلُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ ، وَالْمُتَكَلِّمَةِ ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ ، وَالْمُتَعَبِّدَةِ … ،
وَمَا سُمِّيَ بِدْعَةً ، وَثَبَتَ حُسْنُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ ؛ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ لَازِمٌ :
إمَّا أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ بِبِدْعَةِ فِي الدِّينِ ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ : «نِعْمَت الْبِدْعَةُ هَذِهِ» ،
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هَذَا عَامٌّ ، خُصَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ ؛ لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ ؛ كَمَا يَبْقَى فِيمَا عَدَاهَا عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ ؛ كَسَائِرِ عمومات الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ”،
وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “وَهَؤُلَاءِ الْمُعَارِضُوْنَ يَقُوْلُوْنَ : لَيْسَتْ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ !!
وَالْجَوَابُ :
أَمَّا الْقَوْلُ : «أَنَّ شَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ»، وَالتَّحْذِيْرُ مِنَ الْأُمُوْرِ الْمُحْدَثَاتِ ؛ فَهَذَا نَصُّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَا يَـحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْفَعَ دَلَالَتَهُ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ ، وَمَنْ نَازَعَ فِيْ دَلَالَتِهِ فَهُوَ مُرَاغِمٌ ، وَأَمَّا الْمُعَارَضَاتُ ؛ فَالْجَوَابُ عَنْهَا بِأَحَدِ جَوَابَيْنِ :
إِمَّا بِأَنْ يُقَالَ : مَا ثَبَتَ حُسْنُهُ فَلَيْسَ مِنَ الْبِدَعِ ، فَيَبْقَى الْعُمُوْمُ مَحْفُوْظًا ؛ لَا خُصُوْصَ فِيْهِ ،
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : مَا ثَبَتَ حُسْنُهُ فَهُوَ مَخْصُوْصٌ مِنَ الْعُمُوْمِ ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوْصُ دَلِيْلٌ فِيْمَا عَدَا صُوْرَةِ التَّخْصِيْصِ ؛ فَمَنِ اِعْتَقَدَ أَنَّ بَعْضَ الْبِدَعِ مَخْصُوْصٌ مِنْ هَذَا الْعُمُوْمِ اِحْتَاجَ إِلَى دَلِيْلٍ يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيْصِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعُمُوْمُ اللَّفْظِيُّ الْمَعْنَوِيُّ مُوْجِبًا لِلنَّهْيِ ، ثُمَّ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ ؛ مِنَ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ ؛ نَصًّا ، وَاسْتِنْبَاطًا ، … ، وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْجَوَابَ عَنِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ بِأَحَدِ الْجَوَابَيْنِ ؛ فَعَلَى التَّقْدِيْرَيْنِ : الدَّلَالَةُ مِنَ الْحَدِيْثِ بَاقِيَةٌ ، لَا تُرَدُّ بِمَـا ذَكَرُوْا ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَابِلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَامِعَةَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُلِّيَةَ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» بِسَلْبِ عُمُوْمِهَا ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَتْ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، فَإِنَّ هَذَا إِلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُوْلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى التَّأْوِيْلِ”.
وَعَلَيْهِ أَقُوْلُ :
مَا وَرَدَ فِيْ النَّقْلِ السَّابِقِ مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ لَفْظِ الْكَرَاهَةِ فِيْ مَوْضُوْعِ الْبِدْعَةِ ؛ فَإِنَّهُ يَقْصَدُ بِهَا الْكَرَاهَةَ التَّحْرِيْمِيَّةَ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا هُوَ مُتَقَرَّرٌ مَعْلُوْمٌ -وَهُوَ مَنْصُوْصُ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِيْ نُقُوْلَاتِهِ السَّابِقَةِ- أَنَّ الْبِدْعَةَ كُلَّهَا ضَلَالَةٌ ، “وَلَكِنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ ، وَلَا شَكَّ ، فَبَعْضُهَا أَشَدُّ ، وَأَسْوَأُ ، وَلَكِنْ كُلُّهَا مَوْصُوْفَةٌ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَأَنَّهَا ضَلَالَةٌ ، فَلَيْسَ هُنَاكَ بِدْعَةٌ يُقَالُ فِيْهَا : إِنَّهَا مَكْرُوْهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيْهٍ! بَلْ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ مُحَرَّمَةٌ”،
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي : وَهُوَ : أَنَّ الْمُبْتَدِعَةَ قَدْ يَكُوْنُوْنَ فِيْ بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَفْضَلَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ؛ فَهَذَا -أَيْضًا- يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيْرٍ ، فَشَيْخُ الْإِسْلَامِ لَهُ كَلَامٌ صَرِيْحٌ فِيْ أَنَّ أَهْلَ الْاِبْتِدَاعِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ فُسَّاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَمِنْ ذَلِكَ :
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ : “إنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي الشَّهْوَانِيَّةِ ؛ بِالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ ، وَنَهَى عَنْ قِتَالِ أَئِمَّةِ الظُّلْمِ ، وَقَالَ فِي الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ : «لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ ، وَرَسُولَهُ»، وَقَالَ فِيْ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ : «يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئْ هَذَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ -وَفِي رِوَايَةٍ : مِنْ الْإِسْلَامِ-كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ» … ، وَقَدْ قُرِّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ ؛ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ ، ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْمَعَاصِي ذُنُوبُهُمْ فِعْلُ بَعْضِ مَا نُهُوا عَنْهُ ؛ مِنْ سَرِقَةٍ ، أَوْ زِنًا ، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ ، أَوْ أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ ذُنُوبُهُمْ تَرْكُ مَا أُمِرُوا بِهِ ؛ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ ، وَجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ”،
لَكِنْ يُوَجَّهُ كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِيْ هَذَا النَّقْلِ -الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخُ الْقُعَيْمِيُّ- إِلَى مَسْأَلَةِ التَّفْضِيْلِ ؛ فَشَيْخُ الْإِسْلَامِ -هُنَا- لَا يُؤَصِّلُ ؛ كَتَأْصِيْلِهِ لَمَّا قَالَ : “إنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي الشَّهْوَانِيَّةِ” ، بَلْ هُوَ -رَحِمَهُ اللُه- يُقَارِنُ بَيْنَ أَنْوَاعٍ مِنَ النَّاسِ ؛ فَتَوَصَّلَتْ مُقَارَنَتُهُ إِلَى مَا يَلِيْ :
أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِيْ الْعَمَلِ -إِذَا كَانَ عَمَلُهُ مِنْ نَوْعِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَةِ ؛ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْمَشْرُوْعِ ؛ كَوِصَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَصَلَاةِ الرَّغَائِبِ- مَعَ مَا يَتْبَعُها مِنْ لَوَازِمٍ أَعْمَالِ الْقُلُوْبِ ؛ كَالْـمَحَبَّةِ ، وَالتَّعْظِيْمِ قَدْ يَكُوْنُ خَيْرًا مِنْ رَجُلٍ بَطَّالٍ ، لَا عَمَلَ لَهُ ؛ لَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ ، وَلَا مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوْبِ ؛ يَعْنِي : أَنَّ حُسْنَ نِيَّةِ هَذَا الْعَامِلِ -صَاحِبِ الْبِدْعَةِ الْإِضَافِيَّةِ ، لَا الْبِدْعَةِ الْحَقِيْقِيَّةِ- قَدْ يَكُوْنُ -بِنِيِّتِهِ هَذِهِ- خَيْرًا مِنَ الْمُعْرِضِ عَنِ الْعَمَلِ ، وَمِمَّا يُبِيِّنُ ذَلِكَ :
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ -فِيْ كَلَامِهِ عَنْ مُبْتَدِعَةِ الْمَوَالِدِ النَّبَوِيَّةِ- : “وَاللهُ قَدْ يُثِيْبُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ ، وَالْاِجْتِهَادِ ، لَا عَلَى الْبِدَعِ ، مِنِ اِتِّخَاذِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيْدًا ، مَعَ اِخْتِلَافِ النَّاسِ فِيْ مَوْلِدِهِ ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلُهُ السَّلَفُ ، مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهُ ، وَعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْهُ لَوْ كَانَ خِيْرًا ، وَلَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا مَحْضًا ، أَوْ رَاجِحًا لَكَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَحَقُّ بِهِ مِنَّا ، …
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَكُوْنُ فِيْهِ خَيْرٌ ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَشْرُوْعِ ، وَفِيْهِ أَيْضًا شَرٌّ ، مِنْ بِدْعَةٍ ، وَغَيْرِهَا ، فَيَكُوْنُ ذَلِكَ الْعَمَلُ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشْرُوْعِ ، وَشَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدِّيْنِ بِالْكُلِيَّةِ ؛ كَحَالِ الْمُنَافِقِيْنَ ، وَالْفَاسِقِيْنَ”،
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ -أَيْضًا- : “فَتَفَطَّنْ لِحَقِيْقَةِ الدِّيْنِ ، وَانْظُرْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَفْعَالُ مِنَ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْمَفَاسِدِ ، بِحَيْثُ تَعْرِفُ مَا مَرَاتِبُ الْمَعْرُوْفِ ، وَمَرَاتِبَ الْمُنْكَرِ ، حَتَّى تُقَدِّمَ أَهَمَّهَا عِنْدَ الْاِزْدِحَامِ ؛ فَإِنَّ هَذَا حِقِيْقَةُ الْعِلْمِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ، … ، فَأَمَّا مَرَاتِبُ الْمَعْرُوْفِ ، وَالْمُنْكَرِ ، وَمَرَاتِبَ الدَّلِيْلِ ؛ بِحَيْثُ يُقَدَّمُ عِنْدَ التَّزَاحُمِ أَعْرَفُ الْمَعْرُوْفَيْنِ ، وَيُنْكَرُ أَنْكَرُ الْمُنْكَرَيْنِ ، وَيُرَجَّحُ أَقْوَى الدَّلِيْلَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ هُوَ خَاصَّةُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الدِّيْنِ ؛ فَالْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ : أَحَدُهَا : الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمَشْرُوْعُ الَّذِي لَا كَرَاهَةَ فِيْهِ ، وَالثَّانِيَةُ : الْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنْ بَعْضِ وُجُوْهِهِ ، أَوْ أَكْثَرِهَا ؛ إِمَّا لِحُسْنِ الْقَصْدِ ، أَوْ لِاشْتِمَالِهِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَشْرُوْعِ ، وَالثَّالِثَةُ : مَا لَيْسَ فِيْهِ صَلَاحٌ أَصْلًا : إِمَّا لِكَوْنِهِ تَرْكًا لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ مُطْلَقًا ، أَوْ لِكَوْنِهِ عَمَلًا فَاسِدًا مَحْضًا ؛ … ، وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَة : فَهِيَ كَثِيْرَةٌ جِدًّا فِيْ طُرُقِ الْمُتَأَخِّرِيْنَ ؛ مِنَ الْمُنْتَسِبِيْنَ إِلَى عِلْمٍ ، أَوْ عِبَادَةٍ ، وَمِنَ الْعَامَّةِ أَيْضًا ، وَهَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِمَّنْ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا مَشْرُوْعًا ، وَلَا غَيْرَ مَشْرُوْعٍ ، أَوْ مَنْ يَكُوْنُ عَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ الْمُحَرَّمِ ؛ كَالْكُفْرِ ، وَالْكَذِبِ ، وَالْخِيَانَةِ ، وَالْجَهْلِ”.
إِذَا -وَبَعْدَ هَذَا التَّفْصِيْلِ- نَخْلُصُ إِلَى أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخِ الْقُعَيْمِيِّ وَفَقَهُ اللهُ : ” كَوْنُ الْعَبْدِ عَلَى السُّنَّةِ لَا يَعْنِي دَائِمًا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ السُّنِّيِّ إِلَّا إِذَا اِقْتَرَنَ عِلْمُهُ بِالْعَمَلِ …” ؛ فِيْهِ إِجْمَالٌ غَيْرُ مَحْمُوْدٍ ، خَاصَّةً فِيْ أَزِمِنَةٍ يَكْثُرُ فِيْهَا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ الْمُبْتَدِعُوْنَ ، وَيَقِلُّ فِيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُنْكِرُوْنَ ، فَالْبَسْطُ ، وَالتَّفْصِيْلُ -هُنَا- ضَرُوْرِيٌّ ؛ لِأَنُّهُ يُزِيْلُ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي يُوْرِدُهَا الزَّائِغُوْنَ الْمُبْتَدِعَةُ ؛ الَّذِيْنَ يَتَّبِعُوْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ ؛ اِبْتِغَاءَ الشَّغَبِ ، وَالْفِتْنَةِ ، وَقَانَا اللهُ ، وَالْمُسْلِمِيْنَ شَرَّهُمْ ، وَكَيْدَهُمْ .
(2)
وَفِيْ الْخِتَامِ :
أُوْصِي نَفْسِي -وَإِخْوَانِي مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ- بِوَاحِدَةٍ ؛ وَهِيَ : تَمْيِيْزِ صَفِّ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الدُّخَلَاءِ ، فَإِفْسَادُهُمْ فِيْ صَفِّنَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الْعَقْلَ ، وَالذَّكَاءَ ؛ وَأَرَى أَنَّ مِنْ أَفْضَلِ الطُّرُقِ لِتَمْيِيْزِ الصَّفِّ مِنْ أُوْلَئِكَ الدُّخَلَاءِ الْبُغَضَاءِ -خَاصَّةً فِيْ أَزْمِنَتِنَا هَذِهِ- هِيَ الصَّدْعُ بِالْحَقِّ عَلَى الْمَلَأِ ، وَتَبْيِيْنُ ضَلَالِ الْمُضِلِّيْنَ بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ ، ثُمَّ لْنَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنَ الْمُجَامَلَةِ فِيْ دِيْنِ اللهِ ، فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ النِّفَاقِ ، أَعَاذَنَا اللهُ ، وَإِيَّاكُمْ مِنْهُ ، وَلْنَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى : {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}[الإسراء:73-75] .
أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُبَصِّرَنَا بِالْحَقِّ ، وَأَنْ نَعْمَلَ بِهِ ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا الْبَاطِلَ ، وَالدَّاعِيْنَ إِلَيْهِ ،
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ،
وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَمَنِ اِتَّبَعَ سُنَّتَهُ ، وَاقْتَفَى هُدَاهُ .