عِبَرٌ وَتَأَمُّلَاتٌ … فِيْ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ ، وَالْفِتَنِ النَّازِلَاتِ الَّتِيْ تُمْتَحَنُ بِهَا أُمَّةُ الْإِسْلَامِ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .
تَعْلِيْقٌ عَلَى أَحْدَاثٍ مُؤْلِمَةٍ ، وَأُخْرَى مُفْرِحَةٍ ، فِيْهَا وَبِهَا : نُبْشِّرُ ، وَنُحَذِّرُ ، وَنُثَبِّتُ ، وَنُصَبِّرُ …
الحلقة (84)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمِيْنِ ، وَعَلَى آلِهِ ، وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
فَتَاوَى ، وَوَصَايَا الْأَئِمَّةِ فِيْ النَّوَازِلِ ، وَالْفِتَنِ الْمُدْلَهِمَّةِ .
(-)
-“عُقُوْبَةُ الْإِعْرَاضِ عَنْ تَحْكِيْمِ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ”-
قَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ :
“لَمَّا أَعْرَضَ النَّاسُ عَنْ تَحْكِيْمِ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْمُحَاكَمِةِ إِلَيْهِمَا ، وَاعْتَقَدُوْا عَدَمَ الِاكْتِفَاءِ بِهِمَا ، وَعَدَلُوْا إِلَى الْآرَاءِ ، وَالْقِيَاسِ ، وَالِاسْتِحْسَانِ ، وَأَقْوَالِ الشُّيُوْخِ عَرَضَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ :
فَسَادٌ فِيْ فِطَرِهِمْ ، وَظُلْمَةٌ فِيْ قُلُوْبِهِمْ ، وَكَدَرٌ فِيْ أَفْهَامِهِمْ ، وَمَحْقٌ فِيْ عُقُوْلِهِمْ ، وَعَمَّتْهُمْ هَذِهِ الْأُمُوْرُ ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ ؛ حَتَّى رُبِّيَ فِيْهَا الصَّغِيْرُ ، وَهَرَمَ عَلَيْهَا الْكَبِيْرُ فَلَمْ يَرَوْهَا مَكْرًا ،
فَجَاءَتْهُمْ دَوْلَةٌ أُخْرَى قَامَتْ فِيْهَا الْبِـدَعُ مَـقَامَ السُّنَـنِ ، وَالنَّفْـسُ مَـقَامَ الْعَـقْلِ ، وَالْهَوَى مَقَامَ الرُّشْدِ ، وَالضَلَالُ مَقَامَ الْهُدَى ، وَالْمُنْكَرُ مَقَامَ الْمَعْرُوْفِ ، وَالْجَهْلُ مَقَامَ الْعِلْمِ ، وَالرِّيَاءُ مَقَامَ الْإِخْلَاصِ ، وَالْبَاطِلُ مَقَـامَ الْحَقِّ ، وَالْكَـــذِبُ مَقَــامَ الصِّدْقِ ، وَالْمُدَاهَنَةُ مَقَامَ النَّصِيْحَةِ ، وَالظُّلْمُ مَقَامَ الْعَدْلِ ؛ فَصَارَتِ الدَّوْلَةُ ، وَالْغَلَبَةُ لِهَذِهِ الْأُمُوْرِ ، وَأَهْلُهَا هُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَضْدَادِهَا ، وَكَانَ أَهْلُهَا هُـمُ الْمُشَــارُ إِلَيْـهِمْ .
فَإِذَا رَأَيْتَ دَوْلَةَ هَذِهِ الْأُمُوْرِ قَدْ أَقْبَلَتْ ، وَرَايَاتُهَا قَدْ نُصِبَتْ ، وَجُيُوْشُهَا قَدْ رَكِبَتْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ -وَاللهِ- خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا ، وَقُلَلُ الْجِبَالِ خَيْرٌ مِنَ السُّهُوْلِ ، وَمُخَالَطَةُ الْوَحْشِ أَسْلَمُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ .
اِقْشَعَرَّتِ الْأَرْضُ ، وَأَظْلَمَتِ السَّمَاءُ ، وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِيْ الْبَرِّ ، وَالْبَحْرِ مِنْ ظُلْمِ الْفَجَرَةِ ، وَذَهَبَتِ الْبَرَكَاتُ ، وَقَلَّتِ الْخَيْرَاتُ ، وَهُزِلَتِ الْوُحُوْشُ ، وَتَكَدَّرَتِ الْحَيَاةُ مِنْ فِسْقِ الظَّلَمَةِ ، وَبَكَى ضَوْءُ النَّهَارِ ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْخَبِيْثَةِ ، وَالْأَفْعَالِ الْفَظِيْعَةِ ، وَشَكَا الْكِرَامُ الْكَاتِبُوْنَ ، وَالْمُعَقِّبَاتُ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ كَثْرَةِ الْفَوَاحِشِ ، وَغَلَبَةِ الْمُنْكَرَاتِ ، وَالْقَبَايِحِ ،
وَهَذَا -وَاللهُ- مُنْذِرٌ بِسَيْلِ عَذَابٍ قَدْ اِنْعَقَدَ غَمَامُهُ ، وَمُؤْذِنٌ بِلَيْلِ بَلَاءٍ قَدِ اِدْلَهَمَّ ظَلَامُهُ ، فَاعْزِلُوْا عَنْ طَرِيْقِ هَذَا السَّبِيْلِ بِتَوْبَةٍ نَصُوْحٍ مَا دَامَتِ التَّوْبَةُ مُمْكِنَةً ، وَبَابُهَا مَفْتُوْحٌ[1]، وَكَأَنَّكُمْ بِالْبَابِ وَقَدْ أُغْلِقَ ، وَبِالرَّهْنِ وَقَدْ غُلِّقَ ، وَبِالْجَنَاحِ وَقَدْ عُلِّقَ ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون}[الشعراء:227]([2])،
اِنْتَهَى .
وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ -وَهُوَ أَمْرٌ نُشَاهِدُهُ فِيْ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ- مِنْ :
قَوْلِ اللهِ تَعَالَى : {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}[النحل:112] ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7] ،
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : “يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ ، وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ، وَشِدَّةِ الْمَؤُوْنَةِ ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ”[3].
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَقِيَنَا شَرَّ السِّفْلَةِ الْأَشْرَارِ ؛ سُفَهَاءِ الْأَحْلَامِ ، نَاقِضِي الْعُهُوْدِ ، أَوْلِيَاءِ النَّصَارَى ، وَالْيَهُوْدِ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكِ بِهِمْ ، وَأَخْرِجْنَا مُسَلَّمِيْنَ مِنْ بَيْنِهِمْ ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ ، وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيْرٌ .
وَصَلِّ اللَّهُمَ ، وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِهِ ، وَصَحْبِهِ ، وَسَلِّمْ .