القائمة إغلاق

الْبَحْثُ ، وَالْمُدَارَسَةُ حَوْلَ مَسْأَلَةِ : “الصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَازَةِ فِيْ الْمَقْبَرَةِ”

مُنَاقَشَةٌ عِلْمِيَّةٌ هَادِئَةٌ لِمَقَالٍ مُتَدَاوَلٍ فِيْ الْمَجْمُوْعَاتِ الْهَاتِفِيَّةِ ، حَوْلَ هِذِهِ الْمَسْأَلَةِ -الْمُعَنْوَنِ لِهَا- وَهِيَ مَسْأَلَةٌ طَالَ خِلَافُ بَعْضِ طُلَّابِ الْعِلْمِ فِيْهَا ، أَصْلَحَنَا اللهُ وَإِيَّاهُمْ .

بسم الله الرحمن الرحيم

نسخة رقمية

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة ، والسلام على أشرف الأنبياء ، والمرسلين … أما بعد :

(مُقَدِّمَةٌ)

وصلني مقال يتداوله بينهم بعض طلاب العلم في المجموعات الهاتفية ، وطلب مني بعض المشايخ الفضلاء إبداء الرأي فيه ، فأقول ، وبالله التوفيق :

(أَوَّلًا) :

نَصُّ الْمَقَالِ” .

نص المقال المنشور -كما وصلني- هو الآتي :

“السنة أن يصلى على الجنائز بالمصلى ، أو بالمسجد ، فـ:

عن أبي هريرة : “أن رسول الله نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، خرج إلى المصلى ، فصلى بهم وكبر أربعا” ،

وعن عائشة قالت : “والله ما صلى رسول الله على سهيل بن بيضاء ، وأخيه إلا في جوف المسجد” ،

وبوب البخاري بابا سماه “باب الصلاة على الجنائز بالمصلى ، والمسجد” ،

ولم يثبت عنه أنه صلى على جنازة بين القبور ، ولو فعل ذلك مرة واحدة لنقل إلينا ، وهو القدوة كما قال تعالى {لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة} ، وقال {وان تطيعوه تهتدوا} ،

بل ثبت عنه أنه نهى عن ذلك ، فعن أنس رضي الله عنه قال : “نهى أن يصلي على الجنائز بين القبور” . صحيح  ، صحيح الجامع (6834).

إضافة إلى أن الصلاة على الجنائز بين القبور مخالف في الإسراع بدفنها لقوله  : “أسرعوا بالجنازة” متفق عليه .

ولقوله : “ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك” ،

واتخاذ المكان مسجدًا معناه الصلاة فيه ، قال ابن تيمية في ( الاقتضاء 159 ) : وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا ، بل كل موضع يصلي فيه فإنه يسمى مسجدًا ، وإن لم يكن هناك بناء كما قال صلى الله عليه وسلم : “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا” . 

وهذه أقوال الأئمة في الصلاة على الجنازة بين القبور : 

الحنابلة :

جاء في (الإنصاف 490 / 1 دار إحياء التراث العربي تحقيق الفقي) : تنبيه : عموم قوله : “ولا تصح الصلاة في المقبرة” ، يدل على أن صلاة الجنازة لا تصح فيها ، وهو ظاهر كلامه في المستوعب ، والوجيز ، والمنور ، وغيرهم ، وهو إحدى الروايات عن أحمد ، وصححها الناظم ، وقدمه في الرعاية ، والحاوي الصغير ، قال في الفصول في آخر الجنائر : إصح الروايتين لا تجوز .

قال ابن قدامة في (المغني 354 / 2 دار الكتب العلمية) : واذا صلي على الجنازة لم توضع لأحد يصلي عليها ويبادر بدفنها .

قال ابن مفلح في ( الفروع 351 / 3 مؤسسة الرسالة ، دار المؤيد تحقيق التركي ) : ومتى رفعت لم توضع لأحد ، فظاهره يكره.

المالكية :

جاء في في (المدونة 257 / 1 دار الكتب العلمية) : وقال مالك في الصلاة على الجنازة إذا صلوا عليها ثم جاء قوم بعدما صلوا عليها ؟ قال : لا تعاد ، ولا يصلي عليها بعد ذلك .

الاحناف :

جاء في المجموع ( 192 / 5 دار للفكر ) : نقلا عن أبو حنيفة وفيه : وخالف أبو حنيفة أما قبل الدفن فلأن عنده لا يصلى على الجنازة مرتين ، وأما بعده فلأن عنده لا يصلى على القبر إلا إذا دفن .

الشافعية :

جاء في (المجموع 244 / 5 دار الفكر) : إذا صلي على الميت بودر بدفنه ، ولا ينتظر حضور من يصلي عليه إلا الولي فإنه ينتظر إذا لم يخش على الميت التغير ، فإن خير عليه التغير لم ينتظر .

 المعاصرين :

قال الألباني في (أحكام الجنائز وبدعها ص 138) : ولا يجوز الصلاة عليها بين القبور ، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه : “أن النبي  نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور” إسناده حسن ، انظر تخريجه في أحكام الجنائز ص 138 . 

قد يقال :

ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا على عائشة ، وأم سلمة وسط البقيع ؟

فيقال :

لو خالف فعل الصحابة رضي الله عنهم فعله أو نهيه لقدمنا قوله عليهم ، كما أن الاثر فيه الجواز وحديث أنس فيه نهي ، وعند التعارض يقدم النهي على الجواز ، وينتهى منه لقوله : “اذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم ، واذا نهيتكم عن أمر فانتهوا” ، كما أن النهي يقتضي التحريم كما قال أهل العلم”.  

(ثانيًا) :

الْبَحْثُ ، وَالْمُدَارَسَةُ حَوْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ” .

وقبل أن نشرع في المراد نريد أن نحرر موطن النزاع -والذي هو مقصد صاحب المقال في مقاله- وذلك فيما يلي من الفقرات :

1] خلص صاحب المقال في مقاله إلى :

     أن السنة في مكان الصلاة على الجنائز هو : المسجد ، أو المصلى ، وأن من خالف ، وصلى عليها في المقبرة فقد خالف السنة ، وقد استدل على ذلك بأدلة ؛ منها : ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه  : “أن رسول الله نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، خرج إلى المصلى ، فصلى بهم ، وكبر أربعًا” ،

     وأن الصلاة على الجنائز بين القبور محرم ، وقد استدل على ذلك بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : “نهى أن يصلي على الجنائز بين القبور” ، صحيح الجامع ؛ للألباني (6834) ،

وقول النبي صلى الله عليه وسلم : “ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك” ، متفق عليه .

      وأن الصلاة على الجنائز بين القبور مخالف -أيضًا- لسنة الإسراع بدفنها لقوله  : “أسرعوا بالجنازة” ، متفق عليه .

2] ثم استدل بأقول جملة من الفقهاء ، والعلماء المتقدمين ، والمعاصرين تؤيد ما ذهب إليه .

3] ثم رد على ما ورد عن بعض الصحابة من أنه قد جرى العمل عندهم على جواز الصلاة على الجنائز بين القبور ، ومما قال في ذلك : “لو خالف فعل الصحابة رضي الله عنهم فعله ، أو نهيه لقدمنا قوله عليهم ، …” .

التَّعْلِيْقُ :

أَقُوْلُ جَوَابًا عَلَى هَذِهِ الْفِقَرَاتِ بِمَا يَلِي :

أَمَّا عَنِ الْفِقْرَةِ الْأُوْلَى ؛ فنعم ، السنة الصلاة على الجنائز في المصليات ، أو المساجد ، وينبغي التنبيه إلى ما يلي :

1] من تعمد -بلا ضرورة ، ولا حاجة- ترك الصلاة على الجنازة في المسجد ، أو المصلى وذهب ليصلي عليها في المقبرة فقد خالف السنة .

2] من جاء متأخرًا ولم يدرك الصلاة على الجنازة في المسجد ، أو المصلى ، ثم صلى عليها في المقبرة قبل أن تدفن ففعله مشروع ، ولا مخالفة في ذلك ، ويستدل له بما روي :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ -أَوْ شَابًّا- فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَ عَنْهَا -أَوْ : عَنْهُ- فَقَالُوا : مَاتَ ، قَالَ : “أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي ؟” ، قَالَ : فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا -أَوْ : أَمْرَهُ- فَقَالَ : “دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ” ، فَدَلُّوهُ ، فَصَلَّى عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَ : “إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ”[1]. فإنه صلى الله عليه وسلم -كما في ظاهر هذا الحديث- لما لم يدرك الصلاة عليها في المصلى صـلى علــيها فـي الـمـقبرة .

3] الأحاديث المبينة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنائز في المسجد ، أو المصلى لا يصح أن يستدل بها -كما صنع صاحب المقال- على منع الصلاة عليها في المقبرة قبل الدفن ؛ وذلك للحالة التي ذكرناها قبل ، وهي حالة من جاء متأخرًا ، أو لم يعلم بالصلاة عليها في المسجد ؛ كما هو ظاهر السنة .

4] يستوي في ذلك -أي في مشروعية الصلاة على الجنازة في المقبرة- ما إذا كانت الجنازة قد دفنت ، أو لم تدفن ، فـ :

لَوْ قَالَ قَائِلٌ : ما دليلكم على هذا ؟

نَقُوْلُ : دليلنا على هذا هو : السنة الصحيحة ، وقد قدمنا الحديث الوارد في ذلك ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى على من لم يعلم بوفاته في المقبرة ، ولا فرق بين ما إذا كانت الجنازة دفنت ، أو لم تدفن ، ومن فرَّق فعليه الدليل !!

فَإِنْ قَالَ : دليلنا -في التفريق- هو : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على من لم يعلم بوفاته لما دفن !!

نَقُوْلُ : يصح استدلالكم بهذا لو أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك جنازة من لم يعلم بوفاته قبل أن تدفن فتركها ولم يصل عليها حتى يتم دفنها ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جاء -كما في قصة الأمة السوداء التي كانت تقم المسجد- وقد دفنت الجنازة ، فاستدلالكم بهذا الدليل على صورة لم تقع للنبي صلى الله عليه وسلم تَحَكُّمٌ ، لا يصح الاستدلال به .

فَلَوْ قَالَ : دليلنا : نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على الجنائز بين القبور ، فقد : “نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلَّى بَيْنَ الْقُبُورِ عَلَى الْجَنَائِزِ”[2].

نَقُوْلُ : نعم ، يصح احتجاجكم بهذا الحديث لو كان صحيحًا ، لكن الحديث ضعيف ، ولنبين تخريجه مفصلاً -هنا- ؛ فنقول : الحديث المستدل به :

رَوَاهُ اِبْنُ الْأَعْرَابِيُّ فِيْ “مُعْجَمِهِ” ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّـــانُ ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، فَذَكَرَهُ .

وَرَوَاهُ -أَيْضًا- الطَّبَرَانِيُّ فِيْ “الْأَوْسَطِ” ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّانُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، فَذَكَرَهُ ، وَقَالَ : “لَمْ يَـرْوِ هَـذَا الْحَـدِيْـثَ عَـنْ عَاصِـمٍ الْأَحْـوَلَ إِلَّا حَـفْـصُ ، تَفَرَّدَ بِهِ حُسَيْنُ بْنُ يَزِيْدٍ” ،

وَرَوَاهُ -أَيْضًا- الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِيْ “الْمُخْتَارَةِ” ، مِنْ طَرِيْقٍ الطَّبَرَانِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَقَالَ : “إِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ” ،

وقد حسنه الهيثمي في : “مجمع الزوائد”[3]،

وصححه الألباني في : “آداب الجنائز”[4]،

وضعفه السيوطي في : “الجامع الصغير”[5].

أَقُوْلُ :

     هذا الحديث مداره على الحسين بن يزيد الجعفي ، وهو ضعيف ، لين الحديث[6] ؛ ولين الحديث لا تقبل مروياته إلا إذا اِعْتُضِدَ ، فالحسين بن يزيد -هذا- ممن تفرد برواية هذا الحديث ، ولم يتابع عليه ؛ كما قال الطبراني رحمه الله .

     وأصحاب حفــص بن غــياث -والحســين معهم- رووا عنه حديثًا بلفـظ آخر ، وبسند آخر[7]، فقد :

رَوَاهُ اِبْنُ الْأَعْرَابِيُّ فِيْ مُعْجَمِهِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّانُ ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ ، عَنْ أَشْعَثَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَنَسٍ ، “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُصَلَّى بَيْنَ الْقُبُوْرِ” .

وَرَوَاهُ اِبْنُ حِبَّانَ فِيْ صَحِيْحِهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى ؛ عَبْدَانُ ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ ، وَأَبُو مُوسَى الزَّمِنُ ، قَالَا : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنِ أَشْعَثَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، فَذَكَرَهُ ،

وَمِنْ طَرِيْقِ اِبْنِ حِبَّانَ رَوَاهُ الضِّيَاءُ فِيْ الْمُخْتَارَةِ .

وبهذا يتبين أن تفرد الحســين بن يــزيد الجــعفي بما تفرد به من بين أصحابه مردود ، ولو كان ثقة ، فكيف وهو لين الحديث ، فقد يكون قد أخطأ فيه .

     ولا يعتبر حديث أنس رضي الله عنه -المتقدم- في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بين القبور -إن صح- شاهدًا نافعًا للحـديث المستدل به ؛ لاختلاف الصورة والحكم ، فالنهي فيه واقع على الصلاة النافلة ، والفريضة فقط ؛ إذا فُعلتا في المقبرة ، وتبقى شرعية الصلاة على الجنازة في المقبرة على أصله ، ولا ينقل عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح ، خاصة إذا علمنا أنه قد ورد في ظاهر السنة ما يجيز الصلاة على الجنائز في المقبرة ؛ حتى لو لم تدفن -كما قدمنا- وهو الذي قد جرى عليه عمل جمع من الصحابة[8].   

5] أما استدلال صاحب المقال بقوله صلى الله عليه وسلم : “أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ”[9] على تحريم الصلاة على الجنائز في المقبرة فهو استدلال في غير محله ؛ لأن النهي فيه لا يشمل الصلاة على الجنائز في المقبرة – دفنت الجنازة ، أو لم تدفن- وذلك لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد صلى -كما تقدم- على المرأة السوداء في المقبرة بعد الدفن ، وهو ظاهر السنة في الصلاة على الجنائز بعد الدفن ، وإنما النهي واقع على صلاة الفريضة ، أو النافلة ، إذا أديتا في المقبرة ، وعليه يحمل قول شيخ الإسلام رحمه الله ، الذي أتى به صاحب المقال .

6]  أما استدلال صاحب المقال بقوله صلى الله عليه وسلم : “أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ”[10]في سنية التعجيل في دفن الجنازة ، وعدم تأخيرها بالصلاة عليها قبل الدفن ، فأقول -أيضًا- :

هذا استدلال في غير محله ، لأن التأخير الحادث تأخير يسير جدًا ، وقد ذكر العلماء أن “التأخير إذا كان لمصلحة فلا بأس ؛ كما أُخِّرَ النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث إنه مات يوم الإثنين ، وما دفن إلا ليلة الأربعاء ، فإذا كان هناك مصلحة كقدوم أقاربه ، أو غير ذلك فلا بأس”[11]. 

 أَمَّا الْكَلَامُ عَنِ الْفِقْرَةِ الثَّانِيَةِ ؛ وهو استدلال صاحب المقال بأقول جملة من الفقهاء ؛ فهو فعل غريب منه ؛ لأنه كما ورد عن بعض العلماء في المنع ورد -أيضًا- عن غيرهم بالجواز ، فالمسألة خلافية بين العلماء ؛ كما هو معلوم عنهم ، فقد :

رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ رَحِمَهُ اللهُ ، عن ابنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِنافِعٍ : أكانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أنْ يُصَلِّيَ وسَطَ القُبُورِ ؟ قالَ : لَقَدْ صَلَّيْنا عَلى عائِشَةَ ، وأُمِّ سَلَمَةَ وسَطَ البَقِيعِ ، قالَ : والإمامُ يَوْمَ صَلَّيْنا عَلى عائِشَةَ رضي الله عنها أبُو هُرَيْرَةَ ، وحَضَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ”[12].

وَقَالَ أَبُوْ بَكْرٍ الْأَثْرَمُ رَحِمَهُ اللهُ : سمعت أبا عبد الله -يعني : أحمد بن حنبل رحمه الله- يُسأل عن الصلاة في المقبرة ؟ فكره الصلاة في المقبرة ، قيل له : المسجد يكون بين القبور أيصلى فيه ؟ فكره أن يصلى فيه الفرض ، ورخص أن يصلى فيه على الجنائز[13].

 وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “فإنَّ الصَّلاةَ المنهيَّ عنها إلى القبرِ غيرُ الصَّلاةِ التي على القَبرِ ؛ فهذه صلاةُ الجِنازةِ على الميِّتِ التي لا تختَصُّ بمكانٍ ، بل فِعْلُها في غيرِ المسجِدِ أفضَلُ مِن فِعْلِها فيه ؛ فالصَّلاةُ عليه على قَبرِه مِن جِنسِ الصَّلاةِ عليه على نَعْشِه ؛ فإنَّه المقصودُ بالصَّلاةِ في الموضِعَينِ ، ولا فَرْقَ بين كونِه على النَّعشِ ، وعلى الأرضِ ، وبيْن كونِه في بَطنِها ، بخلافِ سائِرِ الصَّلَواتِ ؛ فإنَّها لم تُشرَعْ في القُبورِ ، ولا إليها ؛ لأنَّها ذريعةٌ إلى اتِّخاذِها مساجِدَ”[14].

وَأَفْتَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ  لِلْإِفْتَاءِ ، بِرِئَاسَةِ سَمَاحَةِ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيْزِ اِبْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ -فِيْ حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ- ، فـَقَالَتْ :

“تجوز الصلاة على الجنازة في المقبرة قبل الدفن ، فإن دفنت صلى على القبر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر ، والمنهي عنه في المقبرة من الصلوات غير صلاة الجنازة ، وأما صلاة الجنازة فهي مستثناة من النهي ، وسواء كانت القبور خلف المصلين ، أو أمامهم ، أو إلى جانبهم”[15].

وَقَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيْزِ اِبْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ -وقد سئل : هل تجوز صلاة الجنازة في وسط المقابر؟- 

فأجاب :

“لا حرج في ذلك ، صلاة الجنازة تصلى ؛  تفعل في المقبرة ، وهكذا على الميت بعد الدفن ، النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الميت بعد الدفن في المقبرة ، والصلاة عليها في المقبرة مثل الصلاة على القبر سواء ، فإذا وضعت هناك ، وصلى عليها الناس فلا حرج في ذلك ، نعم ، الممنوع الصلوات الأخرى”[16]،

وَقَال فَضِيْلَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدُ ابْنُ عُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “فلو أن أحداً من الناس صلى صلاة فريضة ، أو صلاة تطوع في مقبرة ، أو على قبر فصلاته غير صحيحه ، أما الصلاة على الجنازة فلا بأس بها ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على القبر في قصة المرأة أو الرجل الذي كان يقم المسجد فمات ليلاً فلم يخبر الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم بموته ، فلما أصبح الصبح قال صلى الله عليه وسلم : «دلوني على قبره -أو قبرها- فصلى عليه»[17]، صلوات الله وسلامه عليه ، فيستثنى من الصلاة في المقبرة الصلاة على القبر ، وكذلك الصلاة على الجنازة قبل دفنها ، لأن هذه صلاة خاصة تتعلق بالميت ، فكما جازت الصلاة على القبر على الميت فإنها تجوز الصلاة عليه قبل الدفن”[18]،

فتبين من هذه النقول -مع النقول التي أوردها صاحب المقال في مقاله- أن المسألة متنازع فيها بين العلماء ، والعلماء يستدل لهم ، لا يستدل بهم ؛ والحجة الدليل الصحيح ؛ شريطة أن يصح به الاستدلال ، ولا دليل صحيح يؤيد ما ذهب إليه صاحب المقال من المنع من الصلاة على الجنائز في المقبرة قبل الدفن ، والراجح الجواز ، لظاهر السنة -كما قدمنا- ؛ ولأنه قد جرى عليه عمل السلف رحمهم الله .

 أَمَّا الْكَلَامُ عَنِ الْفِقْرَةِ الثالثة ؛ وهي قوله : “لو خالف فعل الصحابة رضي الله عنهم فعله ، أو نهيه لقدمنا قوله عليهم ، …” ؛ فنقول : نعم ، هذا القول متجه لوصح دليل صريح في المسألة ، أما وقد علمت -فيما تقدم- أن الحديث ضعيف ، فعمل السلف هو المقدم ، والله أعلم .

(خَاتِمَةٌ) :

ومما يناسب ذكره في هذه الخاتمة -وصية لإخواننا طلاب العلم- ما يلي :

1] لا ينبغي التباغض ، والتدابر بين أهل الخير ، والفضل في مسائل قد جرى خلاف العلماء فيها ؛ خاصة إذا كان من نوع الخلاف العالي ؛ الذي يكون فيه لكل قول دليل ، وحجة ؛ فينبغي التزام الأدب ، ومراعاة حق الأخوة ، والرجوع إلى كلام العلماء أهل الفتوى ؛ والذي خولهم ولي الأمر لهذا ، والاكتفاء بذلك لرفع الخلاف ، واستتباب الوئام . 

2] الحذر من التعصب المذهبي ؛ سواء كان لشيخ معين ، أو لمذهب متبع ، ؛ فالحجة الدليل الصحيح فقط .

3] لا بأس بالمباحثة ، والمدارسة العلمية بين طلاب العلم في المسائل الخلافية بهدوء بالغ ، شريطة أن تكون بعيدة عن العوام ؛ اتقاء حدوث فتنة لبعضهم .

وَفَّقَ اللهُ الْجَمِيْعَ لِمَا يُحِبُّهُ اللهُ ، وَيَرْضَاهُ ،

وَصَلِّ اللَّهُمَّ ، وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ، وَسَلِّمْ .

 

 

 

 

      

  



([1]) رواه البخاري (458) ، ومسلم (2174) .

([2]) رواه ابن الأعرابي في معجمه (2330) ، والطبراني في الأوسط (5631) ، والضياء المقدسي في المختارة (2594) .

([3]) انظر : مجمع الزائد (4187) .

([4]) انظر : أحكام الجنائز ، ص : (108) .

([5]) الجامع الصغير (9491) .

([6]) انظر : تهذيب التهذيب ؛ لابن حجر (645) .

([7]) رواه ابن الأعرابي في معجمه (2334) ، وابن حبان في صحيحه (1698) ، والضياء المقدسي في المختارة (1872) .

([8]) انظر ما قاله محققو المطالب العالية (3/422-423) .

([9]) رواه البخاري (23) ، ومسلم (1125) .

([10]) رواه البخاري (1315) ، ومسلم (2142) .

([11]) انظر : مجموع الفتاوى ؛ لسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله (13/183) .

([12]) أخرجه عبد الرزاق في “مصنفه” (1593) .

([13]) فتح الباري ؛ لابن رجب (٢ /٤٠٠) .

([14]) إعلام الموقعين (2/428) .

([15]) فتاوى اللجنة الدائمة -المجموعة الثانية- (7/253-254) .

([16]) فتاوى نور على الدرب (على موقع سماحته على الشبكة) .

([17]) تقدم تخريجه .

([18]) مجموع الفتاوى (12/376) .

%d مدونون معجبون بهذه: