القائمة إغلاق

“الدِّفَاعُ عَنْ عَقِيْدَةِ الْمُوَحِّدِيْنَ مِنْ إِغْوَاءِ الْمُضِلِّيْنَ ، وَدَعَاوَى الْمُشَبِّهِيْنَ” .

دِفَاعٌ سُنِّيٌّ ، وَرَدٌّ عِلْمِيٌّ عَلَى دَاعِيَةٍ مِنْ دُعَاةِ الْبِدَعِ فِيْ بِلَادِنَا -وَخَارِجِ بِلَادِنَا- الصَّوُفِيِّ الْأَشْعَرِيِّ : “عَبْدِ الْإِلَهِ الْعَرْفَجِ” ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ مَقْطَعٍ مَرْئِيٍّ مُنْتَشِرٍ لَهُ ، يُشَارِكُ فِيْهِ -عَنْ بُعْدٍ- طَائِفَتَهُ الْأَشْعَرِيَّةَ فِيْ مُؤْتَمَرٍ مَعْقُوْدٍ لَهُمْ فِيْ دَوْلَةِ “لِيْبِيَا” .

-الحلقة الثانية-

نسخة رقمية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :

(مُقَدِّمَةٌ)

سنواصل في هذه الحلقة -إن شاء الله- الرد على داعية الأشاعرة “العرفج” ، وذلك في مغالطاته ، وافتراءاته التي نفثها في مقطعه الأخير ، وهذا هو الجزء الثاني من ردي عليه ، والذي سيحتوي على عدة أجزاء ، سأنزلها -هنا- تباعًا بإذن الله ، وأقدم عذري لقـرائي الكـــرام ؛ فــإنـي ســـــــوف -لضرورة الحال ، والمقام- أبسط مقالي في هذا الجزء بسطًا آمل ألا يطول ؛ فأرجو ألا تملوا من ذلك ؛ لأنه مما لا يخفى عليكم أن أهل الأهواء يستعملون العبارات المجملة ، والكلمات الحمَّالة ، لخداع الرعاع من الناس ، والسذج منهم ؛ لذا وجب على المدافعـين عـن حمـى التوحيـد ، والسنـة -ليصدوا عدوان المضلين ، والمشبهين- أن يستخدموا معهم سلاح التفصيل ، والتبيين ، كما :

أَوْصَى بِهِ الْإِمَامُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ قَائِلاً :

فَعَلَيْكَ بِالتَّفْصِيْلِ وَالتَّمْيِيْزِ فَالْإِ … طْلَاقُ وَالْإِجْمَالُ دَوْنَ بَيَانِ

قَدْ أَفْسَدَا هَذَا الْوُجُوْدَ وَخَبَّطَا الْـ … أَذْهَانَ وَالْآرَاءَ كُلَّ زَمَانِ[1].

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “إن هؤلاء المعارضين للكتاب ، والسنة بعقلياتهم ، التي هي في الحقيقة جهليات إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة محتملة ، تحتمل معاني متعددة ، ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى ، والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحق ، وباطل ، فبما فيها من الحق يَقْبَلُ -مَن لم يُحِطْ بها علمًا- ما فيها من الباطل ؛ لأجل الاشتباه ، والالتباس ، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء ، وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا ، وهو منشأ البدع كلها ، فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لَمَا قبلت ، ولبادر كل أحد إلى ردها ، وإنكارها ، ولو كانت حقًّا محضًا لم تكن بدعة ، وكانت موافقة للسنة ، ولكنها تشتمل على حق وباطل ، ويلتبس فيها الحق بالباطل ، كما قال تعالى : {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:42] ، فنهى عن لبس الحق بالباطل ، وكتمانه ، ولبسه به : خلطه به ؛ حتى يلتبس أحدهما بالآخر ، ومنه التلبيس ؛ وهو : التدليس ، والغش ؛ الذي يكون باطنه خلاف ظاهره ؛ فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق ، وتكلم بلفظ له معنيان ؛ معنى صحيح ، ومعنى باطل ، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ، ومراده الباطل فهذا من الإجمال في اللفظ”[2].

أسأل الله لي الإعانة ، ولأهل الضلال الهداية ،

والآن أوان الشروع في المقصود ، فأقول ، وبالله التوفيق :

  

الْجُزْءِ الثَّانِي : الرَّدُّ التَّفْصِيْلِيُّ ،

[الْبَابُ الْأَوَّلُ] :

النُّصُوْصُ ، وَالْآثَارُ السَّلَفِيَّةُ الْمُبَيِّنَةُ بِجَلَاءٍ أَنَّ الْحَقَّ فِيْ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ إِنَّمَا يَكُوْنُ لِلَّفْظِ ، وَالْمَعْنَى ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ ، وَغَوَى ، وَأَضَاعَ نَصِيْبَهُ ، وَمَا اِهْتَدَى .

وقبل أن نشرع في المقصود من هذا الباب أريد أن أقدم بين يديه بمقدمات ضرورية ، وهي :

الْمُقَدِّمَةُ الْأُوْلَى : خلق الله الخلق لعبادته ، وأرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ليبلغوها ، وليقيموا عليهم بها حجة بينة واضحة ؛ لا لبس فيها ، ولا إيهام ، فمن شك في هذا ، أو شكك فليراجع دينه من جديد ؛ ومن هذه الكتب القرآن الكريم ، وهو كلام الله تعالى ؛ ألفاظه ، ومعانيه ، أنزله الله بلسان عربي مبين ؛ أنزله على عرب أقحاح ، لم تخالطهم العجمى ، ولم يقعوا في شَرَك المنطق ، والفلسفة ، فلما استمعوا إلى القرآن استطاعوا بلا عناء فهم معاني كلام الله ؛ في آياته الشرعية ، والكونية ، وأسمائه الحسنى ، وصفاته العلية ؛ فلذا بادر من بادر منهم بالإسلام ؛ منشرحة بذلك صدورهم ، مطمئنة أفئدتهم ؛ لذا أقول :

الكلام عند العرب : لفظ ، ومعنى ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، وهو أس البلاغة -عندهم- وأساسها ، فهم يفهمون الكلام بمعانيه -فطرة- وإذا أشكل على أحادهم المعنى سألوا عنه ، فالذي يفصل الكلام عن معناه الملازم له فله نصيب من العجمة ، أو قد أصيب في عقله ، فالذي يقول أن في القرآن -ومثله السنة- لبسًا ، وألفاظاً لا يستطيع أحد فهم معانيها فقد قدح في عدل الله ، وزعم أن الله لم يقم الحجة على الخلق حق القيام ، ولم يبلغ أنبياؤه ، ورسله -عليهم الصلاة والسلام- ما أمروا به ،

وفيه -أيضًا- طعن ظاهر في القرآن الكريم ، ومخالفة لما جاء فيه ، من أنه : برهان ، ونور ، وتبيان ، وشفاء لما في الصدور ، ورحمة ، وهداية ، وموعظة ، وفرقان ، وكتاب يتدبر في معانيه المتدبرون ،

وفيه -أيضًا- طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتجهيل له ، بأنه يتلو آيات ، ويبلغها وهو لا يعرف معناها ، هو ، والمبلغون بعده .

وقد دل على هذه المقدمة أدلة ، وأصول :

قَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}[النساء:174] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة :15] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين}[يونس:57] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَـا أَرْسَلْنَـا مِن قَبْلِـكَ إِلَّا رِجَـالاً نُّـوحِي إِلَيْـهِمْ فَـاسْأَلُواْ أَهْـلَ الـذِّكْرِ إِن كُنـتُمْ لَا تَعْلَمُون * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ َتَفَكَّرُون}[النحل:43-44] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين}[النحل:89] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْـــذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24] ،

وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ رَحِمَهُ اللهُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ ، وَالْعَمَلِ ، قَالُوا : فَعَلِمْنَـا الْعِــلْمَ ، وَالْعَمَــلَ”[3].

وَعَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللهُ ، قَالَ : «عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ ، مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ ، أَوْقَفْتُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ ، وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا»[4]،

قَالَ إِمَامُ الْمُفَسِّرِيْنَ اِبْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت :310ه) -فِيْ تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : {الم}[البقرة:1] : “ وكان الله -جل ثناؤه- إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن بما يعرفون من لغاتهم ، ويستعملون بينهم من منطقهم في جميع آيه ، فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم التي افتتحت بها أوائل السور التي هن لها فواتح سبيل سائر القرآن في أنه لم يعدل بها عن لغاتهم التي كانوا بها عارفين ، ولها بينهم في منطقهم مستعملين ؛ لأن ذلك لو كان معدولًا به عن سبيل لغاتهم ، ومنطقهم كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عز وجل بها القرآن ، فقال تعالى ذكره : {نَزَل بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذَرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193] ، وأنى يكون مبينًا ما لا يعقله ، ولا يفقهه أحد من العالمين في قول قائل هذه المقالة ، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين في قوله ؟ وفي إخبار الله جل ثناؤه عنه أنه عربي مبين ما يكذب هذه المقالة ، وينبئ عنه أن العرب كانوا به عالمين ، وهو لها مستبين”[5].

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ – فِيْ تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْـــذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } : “وإنما ذكر تعالى ذكره أنه نزل هذا القرآن بلسان عربي مبين في هذا الموضع ، إعلامًا منه مشركي قريش أنه أنزله كذلك ، لئلا يقولوا إنه نزل بغير لساننا ، فنحن إنما نعرض عنه ، ولا نسمعه ، لأنا لا نفهمه ، وإنما هذا تقريع لهم ، وذلك أنه تعالى ذكره قال : {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5] ، ثم قال : لم يعرضوا عنه لأنهم لا يفهمون معانيه ، بل يفهمونها ، لأنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين بلسانهم العربي ، ولكنهم أعرضوا عنه تكذيبًا به ، واستكبارًا ، {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] ؛ كما أتى هذه الأمم التي قصصنا نبأها في هذه السورة ، حين كذبت رسلها أنباء ما كانوا به يكذبون”[6].

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “وفي أمر الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم ببلاغ ما أنزل إليه ، وإعلامه إياه ، أنه إنما نزل إليه ما أنزل ، ليبين للناس ما نزل إليهم ، وقيام الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ فأدى ، ما أمره الله ببلاغه ، وأدائه ، على ما أمره به ، وصحة الخبر عن عبد الله بن مسعود لقيله : «كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْلَمَ مَعَانِيَهُنَّ ، وَالْعَمَلَ بِهِنَّ»[7] ما ينبئ عن جهل من ظن ، أو توهم أن معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه لم يفسر من القرآن شيئًا إلا آيا تعد ، هو أنه لم يكن يبين لأمته من تأويله إلا اليسير القليل منه ، هذا مع ما في الخبر ، الذي روي عن عائشة ، من العلة التي في إسناده ، التي لا يجوز معها الاحتجاج به لأحد ممن علم صحيح سند الآثار ، وفاسدها في الدين ، لأن راويه ممن لا يعرف في أهل الآثار ، وهو جعفر بن محمد الزبيري”[8]،

وَيَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:728ه) : “ولا بدَّ في تفسير القرآن ، والحديث مِن أن يعرف ما يدلُّ على مراد الله ، ورسوله مِن الألفاظ وكيف يُفهم كلامه ، فمعرفةُ العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مرادَ الله ، ورسوله بكلامه ، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني ؛ فإنَّ عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب ؛ فإنهم صاروا يحملون كلام الله ، ورسوله على ما يدّعون أنه دالٌّ عليه ولا يكون الأمرُ كذلك … ، ومما ينبغي أن يُعلم أنّ الألفاظَ الموجودة في القرآن ، والحديث إذا عُرف تفسيرها ، وما أُريد بها مِن جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ، ولا غيرهم ؛ ولهذا قال الفقهاء : الأسماء ثلاثةُ أنواع : نوعٌ يعرف حدُّه بالشرع ، كالصلاة ، والزكاة ، ونوعٌ يعرف حدُّه باللغة ؛ كالشمس ، والقمر ، ونوع يعرف حدُّه بالعُرف ؛ كلفظ القبض”[9].

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ :

ألم يقل الله تعالى في كتابه : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران:5] ، والتي تقتضي أن هناك في القرآن ألفاظ متشابهة ، لا يعرف معناها إلا الله؟

الْجَوَابُ :

لا يوجد شيء في القرآن -ألبتة- لا يُعرف معناه ، كل له معنى واضح ، بين ، والآية ليست واردة في الألفاظ ، وإنما هي واردة فيما تؤول إليه الأمور ، التي لا يعلمها إلا الله ، وهي غيبيات لا يعلم متى تقع إلا هو جل وعلا ؛ كقيام الساعة ، وظهور الدجال ، ونحو ذلك ، أو كيفيات من أمور الغيب لا يعلم كيف هي إلا هو سبحانه وتعالى ، وسيأتي مزيد من هذا في قسم الرد على شبهات الأشاعرة -إن شاء الله- .

يَقُوْلُ ابن قتيبة رَحِمَهُ اللهُ (ت:276) : ولسنا ممن يزعم أنّ المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم ، وهذا غلط من متأوليه على اللغة ، والمعنى ، ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده ، ويدل به على معنى أراده ، فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال ، وتعلق علينا بعلة ، وهل يجوز لأحد أن يقول : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم  لم يكن يعرف المتشابه ؟! وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى : {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران: 7] جاز أن يعرفه الربَّانيون من صحابته ،  فقد علم عليًّا التفسير ، ودعا لابن عباس ، فقال : «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيْلَ ، وَفَقِّهْهُ فِيْ الدِّيْنِ»[10]، …”[11].

وَيَقُوْلُ إِمَامُ الْمُفَسِّرِيْنَ اِبْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ -في الكلام على هذه المسألة-: “فقد تبين ببيان الله جل ذكره أن :

مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْقُرْآنِ على نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك تأويل جميع ما فيه ، من وجوه أمره : وواجبه ، وندبه ، وإرشاده ، وصنوف نهيه ، ووظائف حقوقه ، وحدوده ، ومبالغ فرائضه ، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه ، التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ، وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتأويله ، بنص منه عليه ، أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله ،

وَأَنَّ مِنْهُ ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار : وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة ، وأوقات آتية ، كوقت قيام الساعة ، والنفخ في الصور ، ونزول عيسى ابن مريم ، وما أشبه ذلك ؛ فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها ، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها ، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه”[12]،

وَيَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “… ، وأما الصنف الثالث : وهم أهل التجهيل : فهم كثير من المنتسبين إلى السنة ، وأتباع السلف ، يقولون : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف معاني ما أنزل الله عليه من آيات الصفات ، ولا جبريل يعرف معاني تلك الآيات ، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك ، وكذلك قولهم في أحاديث الصفات : إن معناها لا يعلمه إلا الله ، مع أن الرسول تكلم بهذا ابتداءً ، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه ، وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] ، فإنه وقف كثير من السلف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ، وهو وقف صحيح ، لكن لم يفرقوا بين معنى الكلام ، وتفسيره ، وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه ، وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين ، وغلطوا في ذلك”[13]،

وَيَقُوْلُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ (ت:751) : “ المقام الرابع : مقام “اللاأدرية” ؛ الذين يقولون لا ندري معاني هذه الألفاظ ، ولا ما أريد منها ، ولا ما دلت عليه ، وهؤلاء ينسبون طريقتهم إلى السلف ، وهي التي يقول المتأولون إنها أسلم ، ويحتجون عليها بقوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] ، ويقولون هذا هو الوقف التام عند جمهور السلف ، وهو قول أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وغيرهم ؛ من السلف ، والخلف ، وعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء ، والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ، ولا الصحابة ، والتابعون لهم بإحسان ، بل يقرؤون كلامًا لا يعقلون معناه ، … ، وقول هؤلاء -أيضًا- باطل ؛ فــإن الله سبــحانه أمــر بتــدبر كتابه ، وتفهـمه ، وتعقـله ، وأخبر أنه بيان ، وهدى ، وشفاء لما في الصدور ، وحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات ، والقدر ، والأفعال ، واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ، ولا هدى ، ولا شفاء ، ولا بيان … ، وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ؛ فإن التأويل في عرف السلف المراد به التأويل في مثل قوله تعالى : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف53] …  فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به ، والمنهي عنه ؛ كما قال ابن عيينة : السنة تأويل الأمر ، والنهي”[14].

الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : في ألفاظ النصوص الشرعية -ومنها الصفات الإلهية- لا بد من التفريق بين المعنى ، والكيفية ؛ فكل ألفاظها -بلا استثناء- معلومة المعنى على الحقيقة ، لا المجاز ، وليس بالضرورة أن تكون كل ألفاظها معلومة الكيفية ، إذ معرفة الكيفية فرع عـن المشاهـدة ، فمـن شاهـد الـشيء علم كيفيته ، ومن لم يشاهده لم يعلم كيفيته ، هذا هو الأصل ، لكن العلم بمعناه واضح في الوضع العربي ، ولنضرب لذلك مثالاً ؛ فهذه كلمة : “شجرة” ، لفظ له معنى يعرفه كل أحد ، وكل أحد يستطيع وصف كنهها ؛ لأنهم رأوها في دنياهم ، أما شجرة الجنة فإنهم يعرفون معناها على حسب “المشترك اللفظي” بينها ، وبين الشجرة التي في الدنيا ، أما كنهها ، وكيف هي ؛ من حيث الطول ، والعرض ، والثمار ، والأوراق ، ونحو ذلك فلا ؛ لأن أشجار الجنة لم تر بعد ؛ ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم -فيما يرويه عن ربه جل وعلا-: “أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، فَاقْرَؤُوْا إِنْ شِئْتُمْ : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}[السجدة:17]»[15]، ونقول مثل هذا في صفات الله ، فنقول : لله تعالى يد حقيقية ؛ كما جاء ذلك في النصوص الشرعية ، نثبتها كما جاءت ، على ظاهر معناها في لغة العرب ، لكن بلا كيف ، لا نشبه يد الله بيد المخلوقين ، جل الله وتعالى .

يَقُوْلُ الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:279ه) : “وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات : ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ، قالوا : قد تثبت الروايات في هذا ، ويؤمن بها ، ولا يتوهم ، ولا يقال : «كيف» ، هكذا روي عن مالك ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث : «أمروها بلا كيف» ، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة ، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات ، وقالوا : هذا تشبيه ، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد ، والسمع ، والبصر ، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم ، وقالوا : إن الله لم يخلق آدم بيده ، وقالوا : إن معنى اليد هاهنا القوة ، وقال إسحاق بن إبراهيم : “إنما يكون التشبيه إذا قال : يد كيد ، أو مثل يد ، أو سمع كسمع ، أو مثل سمع ، فإذا قال : سمع كسمع ، أو مثل سمع ، فهذا التشبيه ، وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد ، وسمع ، وبصر ، ولا يقول : كيف ، ولا يقول مثل سمع ، ولا كسمع ، فهذا لا يكون تشبيهًا ، وهو كما قال الله تعالى في كتابه : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 11]”[16]،

وَقَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:463) : ” أهل السنة مجموعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن ، والسنة ، والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة ، لا على المجاز ؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ، ولا يحدون فيه صفة محصورة ، وأما أهل البدع ، والجهمية ، والمعتزلة كلها ، والخوارج فكلهم ينكرها ، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقر بها مشبه”[17].

وَيَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “والقدر المشترك مطلق كلي ، لا يختص بأحدهما دون الآخر ، فلم يقع بينهما اشتراك ؛ لا فيما يختص بالممكن المحدَث ، ولا فيما يختص بالواجب القديم ، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه ؛ فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال ؛ كالوجود ، والحياة ، والعلم ، والقدرة ، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين ، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق ، لم يكن في إثبات هذا محذور أصلًا ، بل إثبات هذا من لوازم الوجود ، فكل موجودَين لا بد بينهما من مثل هذا ، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود ؛ ولهذا لما اطَّلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطِّلة ، … ، فإذا نفى القدر المشترك مطلقًا لزم التعطيل التام ، والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى ؛ كالحياة ، والعلم ، والقدرة ، بل الوجود ، والثبوت ، والحقيقة ، ونحو ذلك ، تجب له لوازمها ؛ فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم ، وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلًا ، بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود ، وحيــاة ، وعلم ، ونحو ذلك ، والله سبحانه ، وتعالى منزه عن خصائص المخلوق ، وملزومات خصائصه”[18].

وَيَقُوْلُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “ وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى ، ويديه وسمعه ، وبصره ، وكلامه ، واستوائه ، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصفات ، وحقائقها ؛ كما لم يمنع ذلك من أثبت لله شيئًا من صفات الكمال ؛ من فهم معنى الصفة ، وتحقيقها ؛ فإن من أثبت له سبحانه السمع ، والبصر أثبتهما حقيقة ، وفهم معناهما ؛ فهكذا سائر صفاته المقدسة ، يجب أن تجري هذا المجرى ، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها ، وكيفيتها ؛ فإن الله سبحانه لم يكلف عباده بذلك ، ولا أراده منهم ، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا ، بل كثير من مخلوقاته ، أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلًا إلى معرفة كنهه ، وكيفيته ، وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان قد حجب عنهم معرفة كنهها ، وكيفيتها ، وجعل لهم السبيل إلى معرفتها ، والتمييز بينها ، وبين أرواح البهائم ، وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة ، وما في الجنة ، والنار ؛ فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان ، وشاهدته عقولهم ، ولم يعرفوا كيفيته ، وكنهه ؛ فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمر ، وأنهارًا من عسل ، وأنهارًا من لبن ، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ، ومادته ، وكيفيته ؛ إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب ، والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها ، واللبن إلا ما خرج من الضروع ، والحرير إلا ما خرج من فم دود القز ، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلًا لما في الدنيا ؛ كما قال ابن عباس : «لَيْسَ فِيْ الدُّنْيَا مِمَّا فِيْ الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ»[19]، ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك ؛ فهكذا الأسماء ، والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ، ومثالها من فهم حقائقها ، ومعانيها ؛ بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها ، وانتفاء التمثيل ، والتشبيه عنها ، وهذا هو المثل الأعلى ؛ الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن : أحدها : قوله : {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60] ، الثاني : قوله : {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27] ، الثالث : قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11] ، فنفى سبحانه المماثلة عن هذا المثل الأعلى ، وهو ما في قلوب أهل سمواته ، وأرضه من معرفته ، والإقرار بربوبيته ، وأسمائه ، وصفاته ، وذاته ؛ فهذا المثل الأعلى هو الذي آمن به المؤمنون ، وأنس بها لعارفون ، وقامت شواهده في قلوبهم بالتعريفات الفطرية ؛ المكملة بالكتب الإلهية ، المقبولة بالبراهين العقلية ؛ فاتفق على الشهادة بثبوته العقل ، والسمع ، والفطرة”[20].

الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ : أولى خطوات الإلحاد ، والزندقة : القول بأن في القرآن آيات مشكلة ، غير واضحة ؛ تثبت ألفاظها دون معانيها ، ومن ذلك : القول بتحريف أسماء الله ، وصفاته عن معانيها الحقيقية ، أو القول بأنها ألفاظ مجردة عن معانيها ؛ ولا شك أن هذا القول إلحاد في أسماء الله تعالى ، وافتئات على الشريعة المطهرة ، وقول على الله بغير علم ،

قَالَ تَعَالَى : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] ،

قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : “يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ؛ أَيْ : يَكْذِبُونَ”[21]،

وَقَالَ اِبْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “ وأصل الإلحاد في كلام العرب : العدول عن القصد ، والجور عنه ، والإعراض ، ثم يستعمل في كل معوج غير مستقيم ، ولذلك قيل للحد القبر لحد ؛ لأنه في ناحية منه ، وليس في وسطه ، يقال منه : ألحد فلان يلحد إلحادًا ، ولحد يلحد لحدًا ، ولحودًا”[22].

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم ؛  من المشهورين بالإسلام ، هو التأويل ، أو التفويض ؛ فأما الذي ينتهون إلى أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة ، والتأويل المقبول : هو ما دل على مراد المتكلم ، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها ، بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول ، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة ، والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص ، وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب هو من باب التحريف ، والإلحاد ، لا من باب التفسير ، وبيان المراد ، وأما التفويض فإنه من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن ، وحضَّنا على عقله ، وفهمه ، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته ، وعقله ؟ وأيضاً ، فالخطاب الذي أريد به هدانا ، والبيان لنا ، وإخراجنا من الظلمات إلى النور ، إذا كـان ما ذكر فـيه مـن النصـوص ظـاهره باطـل ، وكـفر ، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ، ولا باطنه ، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك ، فعلى التقديرين لم نخاطب بما بين فيه الحق ، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل ، وكفر ، وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا : أنه لم يبين الحق ، ولا أوضحه ، مع أمره لنا أن نعتقده ، وأن ما خاطبنا به ، وأمرنا باتباعه ، والرد إليه لم يبين به الحق ، ولا كشفه ، بل دل ظاهره على الكفر ، والباطل ، وأراد منا أن نفهم منه شيئاً ، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه ، وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ، ورسوله عنه ، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف ، والإلحاد ، ….. ، فعلى قول هؤلاء : يكون الأنبياء ، والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ، ولا الملائكة ، ولا السابقون الأولون ، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن ، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه ، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه ، وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة ، والنصوص المثبتة للأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد عند طائفة ، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة ، ومعلومٌ أن هذا قدحٌ في القرآن ، والأنبياء ؛ إذ كان الله أنزل القرآن ، وأخبر أنه جعله هدى ، وبياناً للناس ، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين ، وأن يبين للناس ما نزِّل إليهم ، وأمر بتدبر القرآن ، وعقله ، ومع هذا فأشرف ما فيه ؛ وهو ما أخبر به الربُّ عن صفاته ، أو عن كونه خالقاً لكل شيء ، وهو بكل شيء عليم ، أو عن كونه أمراً ، ونهياً ، ووعداً ، وتوعداً ، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه ، فلا يعقل ، ولا يتدبر ، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم ، ولا بلغ البلاغ المبين ، وعلى هذا التقدير : فيقول كل ملحد ، ومبتدع : الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي ، وعقلي ، وليس في النصوص ما يُناقض ذلك ؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة ، لا يعلم أحد معناها ، وما لا يعلم أحـد معناه لا يـجوز أن يُستدل بــه ، فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى ، والبيان من جهــة الأنــبياء ، وفتحـاً لبـاب مــن يعارضهم ، ويقول : إن الهدى ، والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء ؛ لأنا نحن نعلم ما نقول ، ونبينه بالأدلة العقلية ، والأنبياء لم يعلـموا ما يقــولون ، فضـــلاً عن أن يُبينوا مرادهــم ، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة ، والسلف من شر أقوال أهل البدع ، والإلحاد”[23].

وَيَقُوْلُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : ومن أعظم الإلحاد في أسمائه إنكار حقائقها ، ومعانيها ، والتصريح بأنها مجازات وهو أنواع هذا أحدها ، الثاني : جحدها وإنكارها بالكلية ، الثالث : تشبيهه فيها بصفات المخلوقين ومعاني أسمائه ، وأن الثابت له منها مماثل للثابت لخلقه ، وهذا يذكره المتكلمون في كتبهم ، ويجعلونها مقالة لبعض الناس ، …”[24]،

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “والمقصود أن التأويل يتجاذبه أصلان : التفسير ، والتحريف ؛ فتأويل التفسير هو الحق ، وتأويل التحريف هو الباطل ؛ فتأويل التحريف من جنس الإلحاد ؛ فإنه هو الميل بالنصوص عن ما هي عليه ؛ إما بالطعن فيها ، أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها ، وكذلك الإلحاد في أسماء الله ؛ تارة يكون بجحد معانيها ؛ حقائقها ، وتارة يكون بإنكار المسمى بها ، وتارة يكون بالتشريك بينه ، وبين غيره فيها ؛ فالتأويل الباطل هو إلحاد ، وتحريف ، وإن سماه أصحابه تحقيقًا ، وعرفانًا ، وتأويلًا”[25]،

الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ : كثير من المتربصين ، وأعداء الشريعة ، والسنن ؛ من شياطين الإنس ، والجن ، والكفار الأصليين ، أو المرتدين ، أو المبتدعة الضالين ، أو الليبراليين ، والعلمانيين “دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ”[26]، علموا -حق العلم- بأن ألفاظ النصوص الشرعية لها معانيها المقررة -واستيقنت بذلك أنفسهم- لكنهم أرادوا أن يتخذوا إنكارها ، وبث الشبهات حولها معولاً لهدم بنيان أهل السنة ، والجماعة ، وتفريقهم ، والتحريش بينهم ،

قَالَ تَعَالَى : {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِين}[الأنعام:119] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:26] ،  

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ}[آل عمران:7] ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ”[27]،

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ ، وَشَرٍّ ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : “نَعَمْ” ، فَقُلْتُ : هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالَ : “نَعَمْ ، وَفِيهِ دَخَنٌ” ، قُلْتُ : وَمَا دَخَنُهُ ؟ قَالَ : “قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي ، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ ، وَتُنْكِرُ” ، فَقُلْتُ : هَلْ بَعْدَ ذَلِـكَ الْخَيْـرِ مِنْ شَــرٍّ ؟ قَالَ : “نَعَمْ ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا” ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، قَالَ : “نَعَمْ ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا” ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ ؟ قَالَ : “تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِمَامَهُمْ” ، فَقُلْتُ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ ؟ قَالَ : “فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ”[28]،

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : “مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْهَاهُ إِيمَانُهُ ، وَلَا مِنْ فَاسِقٍ بَيِّنٍ فِسْقُهُ ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْهَا رَجُلًا قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى أَزْلَفَهُ بِلِسَانِهِ ، ثُمَّ تَأَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ”[29]،

وَقَالَ الدَّارِمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:255) : “وبلغنا أن بعضَ أصحابِ المرِّيسيِّ قال له : كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في ردِّ مذاهبنا ممَّا لا يمكنُ التكذيبُ بها ؟ … ، قال المريسيُّ : «لا تردُّوه تفتضحُوا ، ولكن غالطوهم بالتأويل ، فتكونوا قدْ رَدَدْتُموها بلُطفٍ ؛ إذْ لم يمكنكُمْ ردُّها بعنف»”[30].

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “وأهل الضلال الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا هم -كما قال مجاهد-: أهل البدع ، والشبهات : يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ، ومشتبه في العقل -كما قال فيهم الإمام أحمد- قال : هم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، متفقون على مخالفة الكتاب ، يحتجون بالمتشابه من الكلام ، ويضلون الناس بما يشبهون عليهم ، والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم ، ثم يعرضون على ذلك القرآن ، والحديث ؛ فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا ، وإن خالفه ؛ فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويتأولونه على غير تأويله ، وهذا فعل أئمتهم ، وتارة يعرضون عنه ويقولون : نفوض معناه إلى الله ، وهذا فعل عامتهم ، وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول ، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة يجب اتباعها ، واعتقاد موجبها ، والمخالف ؛ إما كافر ، وإما جاهل ، لا يعرف هذا الباب ، وليس له علم بالمعقول ، ولا بالأصول ، ويجعلون كلام الله ورسوله الذي يخالفها من المتشابه الذي لا يعرف معناه إلا الله ، أو لا يعرف معناه إلا الراسخون في العلم ، والراسخون عندهم من كان موافقا لهم على ذلك القول ؛ وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب ، وترك المحكم ؛ كالنصارى ، والخوارج ، وغيرهم ، إذ كان هؤلاء أخذوا بالمتشابه من كلام الله وجعلوه محكمًا ، وجعلوا المحكم متشابهًا ، وأما أولئك – كنفاة الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ، وغيرهم ، وكالفلاسفة – فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه ، وإن لم يكن معهم من الأنبياء ، والكتاب ، والسنة ما يوافقه ، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء ؛ وإن كان صريحًا قد يعلم معناه بالضرورة يجعلونه من المتشابه ؛ ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع”[31].

 لكنا موقنون أن الحافظ -بإذن الله- من الوقوع في ورطات الأمور ، والشطح بعيداً عن فهم نصوص الأصلين المكرمين الفهم الصحيح هو التزام منهج السلف الصالح رحمهم الله ، وهو صِمَامُ الأمان -بحول الله- من الجنوح عن الصواب ، والوقوع في فخاخ أهل الابتداع ؛ فما سلم -في هذا الباب- إلا من سلَّم ، واقتفى الآثار ؛ معانيها ، والألفاظ ، وجانب الحدث ؛ كحال السلف الصالح ؛ أهل الإحسان ، أما من عاند ، وشاقق ، وقلد بالباطل ، واتبع الهوى ، وزعم أن نصوص الصفات منزوعة الـمعنى ؛ كحال أهل البغي من أهل الابتداع فقد ضل ، وغوى ، وركب سبل الشياطين ، فكان من الهلكى .

قَالَ تَعَالَى : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النساء:115] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}[التوبة:100] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] ،

وَعنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ، ثُمَّ قَالَ : “هَذَا سَبِيلُ اللهِ” ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ ، وَعَنْ شِمَالِهِ ، ثُمَّ قَالَ : “هَذِهِ سُبُلٌ -قَالَ يَزِيـــدُ : مُتَفَرِّقَةٌ- عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ” ، ثُمَّ قَرَأَ : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[الأنعام:153]”[32]،

وَعَنْ أَبِي نَجِيْحٍ الْعِرْبَاضِ بْنِ سِارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْفَجْرِ ، ثَمَّ وَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيْغَةً ، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُوْنُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوْبُ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُوْلَ اللهِ ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَأَوْصِنَا ، فَقَالَ : “أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله ، وَالسَّمْعِ ، وَالطَّاعَةِ ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ؛ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ”[33]،

وَفِيْ رِوَايَةٍ عَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ ؛ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا ، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي ، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ”[34]،

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : “إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ” ، قَالَ عِمْرَانُ : فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قَرْنِهِ ، مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثَةً ، “ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ”[35]،

وَقَالَ الْإِمَامُ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (157ه) : “كنا والتابعون متوافرون نقول : إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا”[36]،

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ (ت:241) : “أصولُ السنَّة عندنا : التمسُّك بما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتداءُ بهم ، وتركُ البدع”[37]،

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:311) : “إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى ، نقلها الخلف عن السلف ؛ قرناً بعد قرن ، من لدن الصحابة ، والتابعين إلى عصرنا هذا ، على سبيل الصفات لله تعالى ، والمعرفة ، والإيمان به ، والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله ، ونبيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابه ، مع اجتناب التأويل ، والجحود ، وترك التمثيل ، والتكييف”[38].

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “طريقة سلف الأمة ، وأئمتها : أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله ، من غير تحريف ، ولا ‌تعطيل ، ولا تكييف ، ولا ‌تمثيل ؛ إثبات بلا ‌تمثيل ، وتنزيه بلا ‌تعطيل ، إثبات الصفات ، ونفي مماثلة المخلوقات ، قال تعالى : {لَيْسَ ‌كَمِثْلِهِ ‌شَيْءٌ}[الشورى:11] : فهذا رد على الممثلة ، {وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى:11] : رد على ‌المعطلة ، فقولهم في الصفات مبني على أصلين:  أحدهما : أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا ؛ كالسِّنة ، والنوم ، والعجز ، والجهل ، وغير ذلك ، والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات ؛ فلا يماثله شيء من المخلوقات ، في شيء من الصفات”[39]،

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل اﻷحكام وهم سادات المؤمنين ، وأكمل المؤمنين إيمانًا ، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة في مسائل اﻷسماء والصفات ، واﻷفعال ؛ بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب ، والسنة كلمة واحدة ؛ من أولهم إلى آخرهم ، ولم يسموها تأويلًا ، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلًا ، ولم يبدوا لشيء منها إبطالًا ، ولا ضربوا لها أمثالًا ، ولم يقل أحد منهم : يجب صرفها عن حقائقها ، وحملها على مجازها ، بل تلقوها بالقبول ، والتسليم ، وقابلوها باﻹيمان ، والتعظيم ، وجعلوا اﻷمر فيها كلها أمرًا واحدًا …”[40].

نُكْمِلُ فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ .



([1]) نونية ابن القيم ، ص : (84) ، البيتان : (774-775) .

([2]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/926) .

([3]) رواه أحمد (23482) .

([4]) المعجم الطبراني الكبير (11097) .

([5]) تفسير الطبري (1/226) .

([6]) تفسير الطبري (17/643) .

([7]) أخرجه الطبري (1/74) .

([8]) تفسير الطبري (1/83) .

([9]) مجموع الفتاوى (7/116-286) .

([10]) رواه أحمد (2397) .

([11]) تأويل مشكل القرآن ، ص : (66-67) .

([12]) تفسير الطبري (1/68) .

([13]) الفتوى الحموية ، ص : (286-287) .

([14]) الصواعق المرسلة (3/922-923) .

([15]) رواه البخاري (3244) ، ومسلم (7234) .

([16]) جامع الترمذي ، تعليقه على حديث (662) .

([17]) التمهيد (7/145) .

([18]) التدمرية ، ص : (126) .

([19]) أخرجه البيهقي في كتاب : “البعث والنشور” (906) .

([20]) الصواعق المرسلة (2/426-428) .

([21]) رواه الطبري في تفسيره (10/597) .

([22]) تفسير الطبري (10/598) .

([23]) درء تعارض العقل والنقل (1/201-205) .

([24]) مختصر الصواعق المرسلة ، ص : (361) .

([25]) الصواعق المرسلة (1/217) .

([26]) سيأتي تخريجه .

([27]) رواه البخاري (4547) ، ومسلم (6869) .

([28]) رواه البخاري (7084) ، ومسلم (4812) .

([29]) جامع بيان العلم وفضله (1242) .

([30]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (2/866-867) .

([31]) مجموع الفتاوى (13/142-143) .

([32]) رواه أحمد (4142) ، والنسائي في الكبرى (11174) .

([33]) رواه أبي داوود (4607) ، والترمذي ( 2870) .

([34]) رواه ابن ماجه (41) ، وأحمد (17142)  .       

([35]) رواه البخاري (2651) ، ومسلم (6566) .

([36]) رواه البيهقي في “الأسماء والصفات” (865) .

([37]) أصول السنة ، ص: (10) .

([38]) ذم التأويل ؛ لابن قدامة (18/19) .

([39]) منهاج السنة النبوية (2/527) .

([40]) إعلام الموقعين (1/83-84) .

%d مدونون معجبون بهذه: