القائمة إغلاق

“الدِّفَاعُ عَنْ عَقِيْدَةِ الْمُوَحِّدِيْنَ مِنْ إِغْوَاءِ الْمُضِلِّيْنَ ، وَدَعَاوَى الْمُشَبِّهِيْنَ” .

دِفَاعٌ سُنِّيٌّ ، وَرَدٌّ عِلْمِيٌّ عَلَى دَاعِيَةٍ مِنْ دُعَاةِ الْبِدَعِ فِيْ بِلَادِنَا -وَخَارِجِ بِلَادِنَا- الصَّوُفِيِّ الْأَشْعَرِيِّ : “عَبْدِ الْإِلَهِ الْعَرْفَجِ” ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ مَقْطَعٍ مَرْئِيٍّ مُنْتَشِرٍ لَهُ ، يُشَارِكُ فِيْهِ -عَنْ بُعْدٍ- طَائِفَتَهُ الْأَشْعَرِيَّةَ فِيْ مُؤْتَمَرٍ مَعْقُوْدٍ لَهُمْ فِيْ دَوْلَةِ “لِيْبِيَا” .

-الحلقة الثالثة-

نسخة رقمية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :

(مُقَدِّمَةٌ)

هذه هي الحلقة الثالثة في الرد على داعية الأشاعرة “العرفج” ، وذلك في مغالطاته ، وافتراءاته التي نفثها في مقطعه الأخير[1]، وأريد أن أذكر قرائي الكرام -في هذه المقدمة المختصرة- بأن غالب ردي :

     سأخصصه في نقل كلام أهل العلم من السلف ، أصحاب القرون المفضلة ، الذين افترى عليهم “العرفج” -زورًا ، وبهتاناً- بأنهم كانوا مؤولة للصفات الإلهية ، أو مفوضة لها ، لأبين به أنهم كانوا على خلاف ذلك ، وأنه بما قال عنهم كذب عليهم .

     ثم سأتبع ذلك بنقل لكلام الأئمة الأثبات ؛ من أصحاب القرون السابقة للقرن الذي عاش فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، والذين ساروا على ما سار عليه الرعيل الأول في طريقة إثبات الصفات ،

     وسيتقدم ذلك كله النصوص الشرعية ، من الأصلين المكرمين ، المبينة لطريقة الإثبات ، والتي كانت هي المصدر الأساس في تلقي عقيدتهم في أسماء الله تعالى الحسنى ، وصفاته العليا ،

     وسيتخلل ذلك نقول من كلام شيخ الإسلام رحمه الله ، وغيره من المتأخرين ؛ لنثبت به أن كلامهم موافق لكلام السلف ، موائم له تمام الموائمة .

     وسنذيل ذلك كله بتعليقات مهمة ، أو مناقشات وحوارات إن لزم الأمر ،  

قَالَ قَوَّامُ السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللهُ (ت:535 ه) : “السنة التي اجتمعت عليها الأئمة ، وهي مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، بأمر الله تبارك وتعالى ،

قال الله عز وجل : {وَأَطيعُوا الله وَالرَّسُول}[آل عمران:132] ،

وقال : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء:80] ،

وقال : {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7] ،

فأمر الله عز وجل بالبلاغ ، فقال : {يَا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}[المائدة:67] ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة ، دعا إلى الله عز وجل بالكتاب ، والسنة ؛ فأمر الناس باتباع الصحابة العالمين بالله ، وأولي الأمر من العلماء من بعدهم لقول الله عز وجل : {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمر مِنْكُم}[النساء:59]  ؛

فأفضل العلماء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولي الأمر : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي رضي الله عنهم ، ثم الأكابر ، فالأكابر من العشرة ، وغيرهم من الصحابة ؛ الذين أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم  فضائلهم ، وأمر بالإقتداء بهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : “اِقْتَدُوْا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ”[2] ، … ،

فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السنة عن الله عز وجل ، وأخذ الصحابة عن رسول الله صـلى الله عليه وســلم ، وأخذ التابعون عن الصحابة الذين أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  بالاقتداء بهم ، ثم أشار الصحابة إلى التابعين بعدهم مثل :

سعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، والأسود ، والقاسم ، وسـالم ، وعـطـاء ، ومجـاهـد ، وقتـادة ، والشعبي ، وعمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ،

ثم من بعدهم ؛ مثل : أيوب السختياني ، ويونس بن عبيد ، وسليمان التيمي ، وابـــن عـون ،

ثم مثل : سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، والزهري ، والأوزاعي ، وشعبة ،

ثم مثل : يحيى بن سعيد ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وعبد الله بن المبارك ، والفضيل بن عياض ، وسفيان بن عيينة ،

ثم مثل : أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع بن الجراح ، وابن نمير ، وأبي نعيم ، والحسن بن الربيع ،

ثم من بعدهم ؛ مثل : أبي عبد الله أحمد ابن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي مسعود الرازي ، وأبي حاتم الرازي ،

ونظرائهم ، مثل من كان من أهل الشام ، والحجاز ، ومصر ، وخراسان ، وأصبهان ، والمدينة ، مثل : محمد بن عاصم ، وأسيد بن عــاصـم ، وعـبد الله بـن محمـد بـن النعمـان ، ومحمـد بن النعمـان ، والنعمان بن عبد السلام ، رحمة الله عليهم أجمعين ، ثـم مــن لقيناهم ، وكتبنا عنهم العلم ، والحديث ، والسنة ؛ مثل :  أبي إسحاق ؛ إبراهيم بن محمد بن حمزة ، وأبي القاسم الطبراني ، وأبي محمد عبد الله بن محمد بن جعفر أبي الشيخ ، ومن كان في عصرهم من أهل الحديث ، ثم بقية الوقت ؛ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى ابن منده الحافظ رحمه الله ، فكل هؤلاء سرج الدين ، وأئمة السنة ، وأولوا الأمر من العلماء …”[3].

فـ-بعد ذا- أقول ، وبالله أستعين ، وعليه التكلان :

[الْبَابُ الْأَوَّلُ] :

النُّصُوْصُ ، وَالْآثَارُ السَّلَفِيَّةُ الْمُبَيِّنَةُ بِجَلَاءٍ أَنَّ الْحَقَّ فِيْ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ إِنَّمَا يَكُوْنُ لِلَّفْظِ ، وَالْمَعْنَى ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ ، وَغَوَى ، وَأَضَاعَ نَصِيْبَهُ ، وَمَا اِهْتَدَى .

هذه النصوص ؛ هي : من الأصلين المكرمين ؛

والآثار السلفية ؛ هي : من أقوال أصحاب القرون المفضلة ، ثم من جاء بعدهم ؛ من التابعين لهم بإحسان -على التفصيل الذي ذكرته في المقدمة- والتي سأبين من خلالها أن الأدلة من القرآن ، والسنة ، والآثار السلفية كلها تثبت الصفات على الحقيقة ؛ لا على المجاز ، ولا على التفويض ، والإمرار ؛ أي لا على إثباتها بدون ذكر معنى حقيقي لها ، ومن ذلك في :

1] صِفَةِ الْعُلُوِّ ، وَالْاِسْتِوَاءِ :

قَوْلُهُ تَعَالَى : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:5] ،

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير}[الملك:17-18] ،

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:10] ،

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة}[المعارج:4] ،

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : “… وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : «ائْتِنِي بِهَا» ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا ، فَقَالَ لَهَا : «أَيْنَ اللَّهُ ؟» ، قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، قَالَ : «مَنْ أَنَا ؟» ، قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، قَالَ : «أَعْتِقْهَا ، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»[4]،

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ : “بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ ، بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا ، قَالَ : فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ ، وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ ، وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ ، قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : «أَلَا تَأْمَنُونِي ؟ وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا ، وَمَسَاءً«[5].

التعليق :

هذه الأدلة -ومثلها- تبين بوضوح أن الله -بذاته- مستو على عرشه ، فوق السماء السابعة ، على الحقيقة ، كما يليق به جل وعلا ، والسماء -كما هو مقـرر ، ومـعـروف- في جـهـة العـلو ، والعـلو ضـد السفـل ، وعروج الملائكة إليه يكون من سفل إلى علو ، والعرش مكانه في السماء فوق السماء السابعة ، لا أحد ينكر ذلك ، وقد جاءت الأدلة في ذلك مبينة ، ومصرحة ، فـ :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ ، وَالأَرْضِ ؛ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ”[6].

وَعَنْ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَنْصَارِ ، أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُمِيَ بِنَجْمٍ ، فَاسْتَنَارَ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا ؟” ، قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “فَإِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ ، وَلَا لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ ، إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ ، قَالَ : فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضًا ، حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ ، فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ، وَيُرْمَوْنَ بِهِ ، فَمَا جَاؤُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ ، وَيَزِيدُونَ”[7]،

ومن أقوال الأئمة المؤكدة لهذا المعنى :

قَالَ الْإِمَامُ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:157ه) : كنا والتابعون متوافرون نقول : إن الله تعالى فوق عرشه”[8] .

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ (ت:179ه)  : “الله عز وجل في السماء ، وعلمه في كل مكان ، لا يخلو منه شيء ، وتلا هذه الآية : {مَا يَكُوْنُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ}[المجادلة: 7] ، وعظم عليه الكلام في هذا ، واستشنعه”[9].

وَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ (ت:181ه) – كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا عز وجل ؟ قال : على السماء السابعة ، على عرشه ، ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا في الأرض”[10]

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ (ت:241ه)  -وقد سئل : الله عز وجل فوق السماء السابعة ، على عرشه ، بائن من خلقه ، وقدرته ، وعلمه في كل مكان ؟ قال : نعم ، على العرش ، وعلمه لا يخلو منه مكان”[11]،

وَقَالَ اِبْنُ بَطَّةَ العكبري رَحِمَهُ اللهُ (ت:387ه)  : “أجمع المسلمون ؛ من الصحابة ، والتابعين ، وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه ، فوق سمواته ، بائن من خلقه ، وعلمه محيط بجميع خلقه ، ولا يأبى ذلك ، ولا ينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية ، وهم قوم زاغت قلوبهم ، واستهوتهم الشياطين ، فمرقوا من الدين ، وقالوا : إن الله ذاته لا يخلو منه مكان[12]

هذه بعض أقوال أئمة الإسلام -بل هو إجماع بين جميع علماء الأمة الموحدين- رحمهم الله في أن الله -بذاته- مستو على عرشه ، في جهة العلو ، فوق السماء السابعة ، على الحقيقة -كما يليق به جل وعز- لا كما يقول الجهمية ، وأتباعهم ؛ من الأشاعرة ، والمفوضة ، النافين عن الله حقيقة هذه الصفة ، وحيث قال أهل السنة أن الله في العلو لا يعني أن السموات تحصره ، أو تحيط به جل وتعالى الله من ذلك ،

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت:728) : السلف ، والأئمة ، وسائر علماء السنة إذا قالوا «إنه فوق العرش ، وإنه في السماء فوق كل شيء» لا يقولون إن هناك شيئًا يحويه ، أو يحصره ، أو يكون محلًا له ، أو ظرفًا ، ووعاء سبحانه وتعالى عن ذلك ، بل هو فوق كل شيء ، وهو مستغن عن كل شيء ، وكل شيء مفتقر إليه ، وهو عالٍ على كل شيء ، وهو الحامل للعرش ، ولحملة العرش بقوته ، وقدرته ، وكل مخلوق مفتقر إليه ، وهو غني عن العرش ، وعن كل مخلوق ، وما في الكتاب والسنة من قوله : {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِيْ السَّمَاءَ}[الملك:17] ، ونحو ذلك قد يفهم منه بعضهم أن «السماء» هي نفس المخلوق العالي ، العرش فما دونه ، فيقولون : قوله : {فِيْ السَّمَاءِ} ؛ بمعنى : على السماء ، كما قال : {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِيْ جُذُوْعِ النَّخْلِ}[طه:71] ؛ أي : على جذوع النخل ، وكما قال : {فَسِيْرُوْا فِيْ الْأَرْضِ}[آل عمران:137] ؛ أي : على الأرض ، ولا حاجة إلى هذا ، بل «السماء» اسم جنس للعالي ، لا يخص شيئًا ، فقوله : {في السماء} ؛ أي : في العلو دون السفل  ، وهو العلي الأعلى ، فله أعلى العلو ، وهو ما فوق العرش ، وليس هناك غيره العلي الأعلى سبحانه وتعالى ، والقائلون بأنه في كل مكان هو عندهم في المخلوقات السفلية القذرة الخبيثة ؛ كما هو في المخلوقات العالية. وغلاة هؤلاء الاتحادية الذين يقولون : الوجود واحد ؛ كابن عربي الطائي”[13].

وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِيْ صِفَةِ الْاِسْتِوَاءِ ، فَـ:

قد ورد عن السلف عبارات صريحة صحيحة تفسر معنى الاستواء ، على ما يليق بالله تعالى ، بلا كيف ، وهي تدور على عدة معان ؛ منها : الارتفاع ، والعلو ، والصعود ، والاستقرار ،

عَنِ الرَّبِيْعِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللهُ (ت:139ه) -في قوله تعالى : «ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ»[البقرة:29]- يقول : ارتفع إلى السماء”[14]،

وَقَالَ أَبُوْ عُبَيْدَةَ ، مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى رَحِمَهُ اللهُ (ت:209) : -في قوله تعالى : «ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ»[البقرة:29]- : قال : “… صعد”[15].

وَقَالَ اِبْنُ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:276ه) : “ وقالوا -أي : الجهمية ، ومن شايعهم- : في قوله : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أنه استولى ، وليس يعرف في اللغة : استويت على الدار : أي استوليت عليها ، وإنما استوى في هذا المكان : استقر ؛ كما قال الله تعالى : {فَإذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}[المؤمنون: 28] ؛ أي : استقررت …”[16]،

وَعَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ ؛ ثَعْلَبٍ رَحِمَهُ اللهُ (ت:291ه) قال -في قوله تعالى : «ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ»[البقرة:29]- : أقبل ، و”استوى على العرش” : علا ، ثم قال : هذا الذي يعرف من كلام العرب”[17].

وكل مما جاء عن السلف رحمهم الله في تفسير الاستواء -مما صحت به الأسانيد- فيجب القول به ، إثباتاً حقيقياً ، كما يليق بالله تعالى ، لكن بلا تكييف ،  

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ : “وإذا كان موسى قائمًا يصلي في قبره ، ثم رآه في السماء السادسة مع قرب الزمان ؛ فهذا أمر لا يحصل للجسد ، ومن هذا الباب -أيضًا- نزول الملائكة صلوات الله عليهم ، وسلامه ؛ جبريل ، وغيره ، فإذا عرف أن ما وُصفت به الملائكة ، وأرواح الآدميين ، من جنس الحركة ، والصعود ، والنزول وغير ذلك لا يماثل حركة أجسام الآدميين ، وغيرها مما نشهده بالأبصار في الدنيا ، وأنه يمكن فيها ما لا يمكن في أجسام الآدميين كان ما يوصف به الرب من ذلك أولى بالإمـكان ، وأبعـد عـن مـماثلة نـزول الأجـسام ، بـل نـزوله لا يـماثـل نـزول الـملائكة ، وأرواح بني آدم ، وإن كان ذلك أقرب من نزول أجسامهم ، وإذا كان قعود الميت في قبره ، ليس هو مثل قعود البدن ، فما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ القعود ، والجلوس ، في حق الله تعالى ؛ كحديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد”[18] .

 2] صِفَةِ النُّزُوْلِ الْإِلَهِي :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : “ينزل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ ، يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ”[19]،

وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ عَرَابَةَ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِذَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ نِصْفُهُ ، أَوْ ثُلُثَاهُ هَبَطَ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ يَقُولُ : لاَ أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ ذَا الَّذِى يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ”[20]،

 وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ، حَتَّى يَنْشَقَّ الْفَجْرُ ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ”[21].

التعليق :

نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا نزول حقيقي -كما يليق بجلاله- والنزول في اللغة من أعلى إلى أسفل ، بلا كيف ، والسلف مجمعون على ذلك[22].

قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ (ت:187ه) : “وكل هذا : النزول ، والضحك ، وهذه المباهاة ، وهذا الإطلاع ، كما يشاء أن ينزل ، وكما يشاء أن يباهي ، وكما يشاء أن يضحك ، وكما يشاء أن يطلع ، فليس لنا أن نتوهم كيف ، وكيف ، فاذا قال الجهمى : أنا أكفر برب يزول عن مكانه ، فقل : بل أومن برب يفعل ما يشاء”[23]،

وقَالَ الدَّارِمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:280) : “ فادعى المعارض أن الله لا ينزل بنفسه إنما ينزل أمره ورحمته ، وهو على العرش بكل مكان ، من غير زوال ؛ لأنه الحي القيوم ، والقيوم بزعمه من لا يزول ، فيقال لهذا المعارض :

وهذا -أيضًا- من حجج النساء ، والصبيان ، ومن ليس عنده بيان ، ولا لمذهبه برهان ؛ لأن أمر الله ، ورحمته ينزل في كل ساعة ، ووقت ، وأوان ، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنزوله الليل دون النهار ؟ ويوقت من الليل شطره ، أو الأسحار ؟ أفبأمره ، ورحمته يدعو العباد إلى الاستغفار ؟ أو يقدر الأمر ، والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا : “هل من داع فأجيب ؟ هل من مستغفر فأعفر له ؟ هل من سائل فأعطي ؟” فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة ، والأمر اللذين يدعوان إلى الإجابة ، والاستغفار بكلامهما دون الله ، هذا محال عند السفهاء ، فكيف عند الفقهاء ، وقد علمتم ذلك ولكن تكابرون”[24].

وَقَالَ اِبْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:311ه) : “ باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز ، والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة ، نشهد شهادة مقر بلسانه ، مصدق بقلبه ، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب من غير أن نصف الكيفية ؛ لأن نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا ، أعلمنا أنه ينزل ، والله جل وعلا لم يترك ، ولا نبيه عليه السلام بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه ، من أمر دينهم ؛ فنحن قائلون ، مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول ، غير متكلفين القول بصفته ، أو بصفة الكيفية ، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول ، وفي هذه الأخبار ما بان وثبت ، وصح : أن الله جل وعلا فوق سماء الدنيا ، الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إليه ، إذ محال في لغة العرب أن يقول : نزل من أسفل إلى أعلى ، ومفهوم في الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل”[25]،

ونزول الله كما يليق به ، لا يشبه نزول المخلوقين ،

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ : “والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص ؛ فيثبت ما أثبت الله ، ورسوله باللفظ الذي أثبته ، وينفي ما نفاه الله ، ورسوله كما نفاه ، وهو أن يثبت النزول ، والإتيان ، والمجيء ؛ وينفي المثل ، والسمي ، والكفؤ ، والند ، وبهذا يحتج البخاري ، وغيره على نفي المثل ؛ يقال : ينزل نزولًا ليس كمثله شيء ، نزل نزولًا لا يماثل نزول المخلوقين ، نزولا يختص به ؛ كما أنه في ذلك ، وفي سائر ما وصف به نفسه ليس كمثله شيء في ذلك ، وهو منزه أن يكون نزوله كنزول المخلوقين ، وحركتهم ، وانتقالهم ، وزوالهم مطلقًا ، لا نزول الآدميين ، ولا غيرهم”[26]،

وهو سبحانه وتعالى ينزل على كل قوم في ثلثهم الآخر ، وهو قادر على ذلك ، ولا يضرب له الأمثال ، جل وعلا ،

قَالَ اِبْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ (ت:795) : وقد اعترض بعض من كان يعرف هذا -أي : علم النجوم- على حديث النزول ثلث الليل الآخر ، وقال : ثلث الليل يختلف باختلاف البلدان ؛ فلا يمكن أن يكون النزول في وقت معين ، ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام قبــح هــذا الاعتــراض ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو خلفاءه الراشدين لو سمِعوا من يعترض به لما ناظروه ؛ بل بادروا إلى عقوبته ، وإلحاقه بزمرة المخالفين المنافقين المكذبين”[27].

وَقَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيْزِ اِبْنُ بَازِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت :1420ه) : “والنزول في كل بلاد بحسبها ؛ لأن نزول الله سبحانه لا يشبه نزول خلقه ، وهو سبحانه يوصف بالنزول في الثلث الأخير من الليل ، في جميع أنحاء العالم على الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه ، ولا يعلم كيفية نزوله إلا هو ، كما لا يعلم كيفية ذاته إلا هو عز وجل { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }[الشورى: 11] ، وقال عز وجل { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }[النحل: 74]”[28]،

3] صِفَةُ الْيَدَيْنِ ، وَالْكَفِّ ، وَالْأَصَابِعِ ، وَالْأَنَامِلِ ، وَالصُّوْرَةِ ، وَالسَّاقِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :

قَالَ تَعَالَى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين}[المائدة:64] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين}[ص:75] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون}[الزمر:67] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[آل عمران:26] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُون}[يس:71] ،

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “احْتَجَّ آدَمُ ، وَمُوسَى ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا ، وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ ، قَالَ لَهُ آدَمُ : يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى” ، ثَلاَثًا[29]،

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَـــــالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالْجِبَالَ ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالْمَاءَ ، وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ، فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ ، أَنَا الْمَلِكُ ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ ، تَصْدِيقًا لَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]”[30].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : “مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ ، إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً ، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ ، حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ ؛ كَمَا يُرَبِي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ ، أَوْ فَصِيلَهُ”[31].

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، -قَالَ : أَحْسَبُهُ فِي الْمَنَامِ- فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى ؟ ” ، قَالَ : “قُلْتُ: لَا ” ، قَالَ : “فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ ، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ” ، أَوْ قَالَ : “فِي نَحْرِي ، فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ، وَمَا فِي الأَرْضِ ، قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الأَعْلَى ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، فِي الكَفَّارَاتِ ، وَالكَفَّارَاتُ الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَالْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ ، وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ ، وَمَاتَ بِخَيْرٍ ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ، وَقَالَ : يَـا مُحَمَّــدُ ، إِذَا صَلَّيْـــتَ فَقُـــلْ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ ، قَالَ : وَالدَّرَجَاتُ : إِفْشَاءُ السَّلَامِ ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ”[32]،

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : “يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ ، وَمُؤْمِنَةٍ ، فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً ، وَسُمْعَةً ، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا”[33]،

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “لَا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ ، فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ”[34].

وقد جاء كلام السلف رحمهم الله تعالى -ومن بعدهم- مؤكداً هذه الصفات بمعانيها الصريحة في العربية ، بلا كيف ،

قَالَ أَبُوْ مُحَمَّدٍ ، عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ اِبْنُ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:276ه) : “وذهبوا في تأويل الأصابع إلى أنه النعم ؛ لقول العرب : “ما أحسن إصبع فلان على ماله” يريدون أثره ، …

قال أبو محمد : ونحن نقول : إن هذا الحديث صحيح -وسيأتي ذكره- وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث ، لأنه عليه السلام قال في دعائه : “يَا مُقَلَّبَ الْقُلُوْبَ ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِيْنِكَ” ، فقالت له إحدى أزواجه : “أو تخاف يا رسول الله على نفسك؟” ، فقال : “إِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ أُصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ”[35]، فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى فهو محفوظ بتينك النعمتين ، فلأي شيء دعا بالتثبيت ؟ ولم احتج على المرأة التي قالت له : “أتخاف على نفسك” بما يؤكد قولها ؟ وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروسًا بنعمتين ،

فإن قال لنا : ما الإصبع عندك ههنا ؟ قلنا : هو مثل قوله في الحديث الآخر يحمل الأرض على أصبع ، وكذا على أصبعين ، ولا يجوز أن تكون الإصبع -ههنا- نعمة ، وكقوله تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر:67] ، ولم يـجـز ذلك ، ولا نـقـول أصـبع كأصابعنـا ، ولا يد كأيدينا ، ولا قبضة كقبضاتنا ، لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئا منا”[36]،

وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ -في معرض حديثه عن صفة  الصورة لله تعالى-: والَّذي عندي -والله تعالى أعلم- أنَّ الصُّورة ليست بأعْجَب من اليدَين ، والأصابع ، والعين ، وإنَّما وقَع الإِلْف لتلك  لِمَجيئها في القرآن ، ووقعَت الوَحْشة من هذه ؛ لأنَّها لم تأتِ في القرآن ، ونحن نؤْمن بالجميع ، ولا نقول في شيء منه بكيفية ، ولا حدٍّ37].

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:310) : “فإن قال لنا قائل : فما الصواب في معاني هذه الصفات التي ذكرت -وقد ذكر من صفات الله : صفة اليدين ، والوجه ، والأصابع ، والضحك ، والنزول ، والعينين- وجاء ببعضها كتاب الله عز جل ووحيه ، وجاء ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

قيل :

الصواب من هذا القول عندنا : أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ، ونفي التشبيه ، كما نفى عن نفسه جل ثناؤه ، فقال : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى:11] ، ….. فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار ، والكتاب ، والتنزيل على ما يُعقل من حقيقة الإثبات ، وننفي عنه التشبيه”[38]،

وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ ، مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَه رحمه الله (ت:395 هـ) : “باب ذكر قول الله عز وجل : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بَيَدَيْ}[ص:75] ، و ذكر ما يُستدل به من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على أن الله جل وعز خلق آدم عليه السلام بيدين حقيقة”[39].

وَقَالَ قَوَّامُ السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللهُ (ت:535 ه) : “وللكف معان ، وليس يحتمل الحديث شيئًا من ذلك إلا ما هو المعروف في كلام العرب ؛ فهو معلوم بالحديث مجهول الكيفية ، وكذلك القول في الأصبع ، والأصبع في كلام العرب تقع على النعمة ، والأثر الحسن … ، وهذا المعنى لا يجوز في هذا الحديث ؛ فكون الأصبع معلومًا بقوله صلى الله عليه وسلم  ، وكيفيته مجهولة ، وكذلك القول في جميع الصفات ، يجب الإيمان به ، ويترك الخوض في تأويله ، وإدراك كيفيته”[40]،

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “إن لفظ : اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة ؛ لأن من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع ؛ كقوله{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، ولفظ الجمع في الواحد ؛ كقوله{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران: 173] ، ولفظ الجمع في الاثنين ؛ كقوله{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}[التحريم: 4] ، أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين ، أو الاثنين في الواحد ، فلا أصل له ؛ لأن هذه الألفاظ عدد ، وهي نصوص في معناها ، لا يتجوز بها ، ولا يجوز أن يقال : عندي رجل ، ويعني : رجلين ، ولا عندي رجلان ، ويعني به : الجنس ؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس ، والجنس فيه شياع ، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس ، والجنس يحصل بحصول الواحد ، فقوله :{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }[ص: 75] ، لا يجوز أن يراد به القدرة ؛ لأن القدرة صفة واحدة ، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد ، ولا يجوز أن يراد به النعمة ؛ لأن نِعَمَ الله لا تحصى ، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية ، ولا يجوز أن يكون لما خلقت أنا ؛ لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد ، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفعل كقوله : {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] ، و {قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:182، الأنفال:51] ، ومنه قوله : {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71] ، أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل ، وعدى الفعل إلى اليــد بـحرف الباء ؛ كقوله : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه نص في أنه فعل الفعل بيديه ؛ …، ولست تجد في كلام العرب ولا العجم إن شاء الله تعالى أن فصيحًا يقول : فعلت هذا بيدي ، أو فلان فعل هذا بيديه ، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة ، ولا يجوز أن يكون لا يد له ، أو أن يكون له يد ، والفعل وقَع بغيرها ، وبهذا الفرق المحقق تتبيَّن مواضع المجاز ، ومواضع الحقيقة، ويتبيَّن أن الآيات لا تقبل المجاز البتةَ من جهة نفس اللغة”[41]،

وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “فقوله -أي: الرازي- : «وجدت برد أنامله» ؛ أي : معناه وجدت أثر تلك العناية ، يقال له : أثر تلك العناية كان حاصلاً على ظهره ، وفي فؤاده ، وصدره ؛ فتخصيص أثر العناية بالصدر لا يجوز … ،

فقول القائل : وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي نصٌ لا يحتمل التأويل ، والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد الاعتناء ، وهذا أمر يعلم بطلانه بالضرورة من اللغة العربية ، وهو من غث كلام القرامطة ، والسوفسطائية…”[42].

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيَّمِ رَحِمَهُ اللهُ (ت:751ه) :”وَرَدَ لفظ اليد في القرآن ، والسنة ، وكلام الصحابة ، والتابعين ، في أكثر من مائة موضع ورودًا متنوِّعًا ، متصرفًا فيه ، مقرونًا بما يدل على أنها يدٌ حقيقية ، من الإمساك ، والطي ، والقبض ، والبسط ، …”[43]،

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ –في معرض حديثه عن صفة ساق الله جل وعلا-:  “والذين أثبتوا ذلك صفةً ؛ كاليدين ، والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن ، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته ، وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه : «فَيَكْشِفُ الرَّبُّ عَنْ سَاقِهِ فَيَخِرُّوْنَ لَهُ سُجَّدًا»[44]، ومن حمل الآية على ذلك قال : قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنُ إِلَى السُّجُوْدِ}[القلم:42] مطـابق لقـوله : «فَيَكْشِفُ الرَّبُّ عَنْ سَاقِهِ فَيَخِرُّوْنَ لَهُ سُجَّدًا» ، وتنكيره للتعظيم ، والتفخيم ، كأنه قال : يكشف عن ساق عظيمة جلَّت عظمتها ، وتعالى شأنها أن يكون لها نظير ، أو مثيل ، أو شبيه ، قالوا : وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه ؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال : «كشفت الشدة عن القوم» ، لا : «كُشِف عنها» ؛ كـما قـال الله تعالى : {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُوْنَ}[الزخرف:50] ، وقال : {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ}[المؤمنون:75] ، فالعذاب ، والشدة هو الـمكشوف ، لا الـمكشوف عنه ، وأيضاً : فهناك تحدث الشدة ، وتشتد ، ولا تُزال إلا بدخول الجنة ، وهناك لا يدعون إلى السجود ، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة”[45] .

والقاعدة عند أهل السنة أنهم يثبتون ذلك كله ، بمعناه العربي الصريح ، بلا تكييف ،

قَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيْزِ اِبْنُ بَازِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “لا يلزم من إثبات الوجه لله سبحانه ،  واليد ، والأصابع ، والقدم ، والرجل ، والغضب ، وغير ذلك من صفاته أن تكون مثل صفـات بني آدم ، فهو سبحانه موصوف بما أخبر به عن نفسه ، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق به ، من دون أن يشابه خلقه في شيء في ذلك ؛ كما قال عز وجل :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11] ، فعلينا أن نمره كما جاء على الوجه الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ، ولا تمثيل ، والمعنى -والله أعلم- أنه خلق آدم على صورته ذا وجه ، وسمع ، وبصر ، يسمع ، ويتكلم ، ويبصر ، ويفعل ما يشاء ، ولا يلزم أن يكون الوجه كالوجه ، والسمع كالسمع ، والبصر كالبصر ، وهكذا لا يلزم أن تكون الصورة كالصورة ، وهذه قاعدة كلية -في هذا الباب- عند أهل السنة والجماعة ، وهي إمرار آيات الصفات ، وأحاديثها على ظاهرها من غير تحريف ، ولا تكييف ، ولا تمثيل ، ولا تعطيل ؛ بل يثبتون أسماءه إثباتًا بلا تمثيل ، وينزهونه سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيها بلا تعطيل ، خلافًا لأهل البدع ؛ من المعطلة ، والمشبهة ، فليس سمع المخلوق ، ولا بصر المخلوق ، ولا علم المخلوق مثل علم الله عز وجل ، وإن اتفقا في جنس العلم ، والسمع ، والبصر ، لكن ما يختص به الله لا يشابهه أحد من خلقه سبحانه وتعالى ، وليس كمثله شيء ؛ لأن صفاته صفات كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه ، أما أوصاف المخلوقين فيعتريها النقص …”[46].

6] صِفَةُ الكلام لِلَّهِ تَعَالَى :

قَالَ تَعَالَى : {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:164] ،

وَقَالَ تَعَالَى :{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين}[الأعراف:143] ،

وَقَالَ تَعَالَى : {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[النازعات:15-16] ،

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ : يَا آدَمُ ، يَقُولُ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ…”[47].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : “يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -أَوْ قَالَ الْعِبَادُ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا” ، قَالَ : قُلْنَا : وَمَا بُهْمًا ؟ قَالَ : “لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ : أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ”[48]،

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى (ت:290ه) : “سألت أبي رحمه الله عن قوم يقولون : لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ؟ فقال أبي : بلى إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت”[49]،

وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:256ه) : “وإنَّ الله عزَّ وجلَّ ينادي بصوتٍ يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب ، فليس هذا لغير الله جل ذكره ، وفي هذا -يعني: حديث عبد الله بن أنيس المتقدم ذكره- دليل أنَّ صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ؛ لأنَّ صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأنَّ الملائكة يصعقون من صوته ؛ فإذا تنادى الملائكة ؛ لم يصعقوا”[50].

وَرَوَى الْخَلَّالُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت:311ه) بسنده ، عن صالح بن أحمد بن حنبل رحمهما الله ، عن أبيه ، قال : “وقال الله في كتابه : {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة:6] ، فجبريل سمعه من الله عز وجل ، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل صلى الله عليه وسلم ، وسمعه أصحاب النبي من النبي ، فالقرآن كلام الله ، غير مخلوق”[51].

قَالَ الْإِمَامُ أَبُوْ نَصْرٍ السِّجْزِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:444) : “ينبغي أن ينظر في كتب من درج ، وأخبار السلف : هل قال أحد منهم : إن الحروف المتسقة التي يتأتى سماعها ، وفهمها ليست بكلام الله سبحانه على الحقيقة ؟ وأن الكلام غيرها ، ومخالف لها ، وأنه معنى لا يدرى ما هو ، غير محتمل شرحاً وتفسيراً ؟ فإن جاء ذلك عن أحد من الأوائل والسلف ، وأهل النحل قبل مخالفينا الكلابية ، والأشعرية عذروا في موافقتهم إياه  ، وإن لم يرد ذلك عمن سلف من القرون ، والأمم ، ولا نطق به كتاب منزل ، ولا فاه به نبي مرسل ، ولا اقتضاه عقل عُلم جهل مخالفينا ، وإبداعهم ، ولن يقدر أحد في علمي على إيراد ذلك عن الأوائل ، ولا اتخاذه إياه دينًا ، في أثر ، ولا عقل … ، فقول خصومنا : إن أحداً لم يقل إن القرآن كلام الله حرف ، وصوت كذب ، وزور ، بل السلف كلهم كانوا قائلين بذلك ، وإذا أوردنا فيه المسند ، وقول الصحابة من غير مخالفة وقعت بينهم في ذلك صار كالإجماع”[52].

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحابة ، والتابعين ومن بعدهم من أئمة السُّنَّة ؛ أنه سبحانه ينادي بصوت ؛ نادى موسى ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ، ويتكلم بالوحي بصوت ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال : إنَّ الله يتكلم بلا صوت ، أو بلا حرف ، ولا أنَه أنكر أن يتكلم الله بصوت ، أو بحرف ؛ كما لم يقل أحد منهم إن الصوت الذي سمعه موسى قديم ، ولا إن ذلك النداء قديم ، ولا قال أحد منهم : إن هذه الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذي تكلم الله به ؛ بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذي يتكلم الله به ، وبين أصوات العباد ، وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت من الجهمية ، كما قال الإمام أحمد لما سئل عمن قال إن الله لا يتكلم بصوت ؟ فقال : هؤلاء جهمية ، إنما يدورون على التعطيل ، وذكر بعض الآثار المروية في أنه سبحانه يتكلم بصوت”[53]،

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “والنداء لا يكون إلا صوتًا مسموعًا ، ولا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع ؛ لا حقيقة ، ولا مجازًا”[54] ،

وبعد : فقد ذكرت ما ذكرت من صفات الله التي يشغب عليها -كثيرًا- أهل الابتداع ، ويحرفونها عن ظاهرها ، ثم أتبعتها بأدلة عديدة صريحة -في المقصود- من الأصلين المكرمين ، ثم أعقبتها بكلام أهل العلم ؛ متقدمهم ، ولاحقهم ، لأبين أن الحق -والحمد لله- مجمع عليه ، ولم يشذ إلا أهل الفرقة ، والاختلاف ، نسأل الله لهم الهداية .

نُكْمِلُ فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ .



([1]) والرابط قد أرفقناه في الحلقة الأولى ، فمن أراده فليرجع إليه هناك .

([2]) رواه الترمذي (3662) .

([3]) الحجة في بيان المحجة (1/253-258) .

([4]) رواه مسلم (1136) .

([5]) رواه البخاري (4351) ، ومسلم (2416) .

([6]) رواه البخاري (2581) .

([7]) رواه مسلم (5877) .

([8]) رواه البيهقي في : “الأسماء والصفات” (408) ،

([9]) السنة لعبد الله بن أحمد (11) .

([10]) السنة لعبد الله بن أحمد (22) .

([11]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ؛ للالكائي (674) .

([12]) الإبانة الكبرى (7/136) .

([13]) مجموع الفتاوى ؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية (16/101) .

([14]) تفسير الطبري (1/456) .

([15]) تفسير البغوي (3/235) .

([16]) الاختلاف في اللفظ ، والرد على الجهمية ، ص : (50) .

([17]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (668) .

([18]) مجموع الفتاوى (5/527) .

([19]) رواه البخاري (1145) ، ومسلم (1721) .

([20]) رواه ابن ماجه (1367) .

([21]) رواه ابن أبي عاصم في السنة (500) .

([22]) انظر : مجموع الفتاوى ؛ لشيخ الإسلام ، ونقله الإجماع (5/557) .

([23]) خلق أفعال العباد ؛ للبخاري ، ص : (33) .

([24]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/214) .

([25]) كتاب التوحيد (1/290) .

([26]) مجموع الفتاوى (16/424) .

([27]) فضل علم السلف على الخلف ، ص : (3) .

([28]) مجموع الفتاوى (4/420) .

([29]) أخرجه البخاري (6614) ، ومسلم (6835) .

([30]) رواه البخاري (4811) ، ومسلم (7147) .

([31]) رواه مسلم (2305) .

([32]) رواه الترمذي (3233) .

([33]) رواه البخاري (4919) .

([34]) رواه ابن أبي عاصم في “السنة” (517) .

([35]) رواه مسلم (6844) ، لكن بلفظ : “إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ”.

([36]) تأويل مختلف الحديث ، ص : (302-303) .

([37]) تأويل مختلف الحديث ، ص : (261) .

([38]) التبصير من معالم الدين ، ص : (141-145) .

([39]) الرد على الجهمية ، ص : (68) .

([40]) الحجة في بيان المحجة (2/279) .

([41]) مجموع الفتاوى (6/365-366) .

([42]) بيان تلبيس الجهمية (7/388) .

([43]) مختصر الصواعق المرسلة ، ص : (450) .

([44]) أخرجه الدارمي (2803) ، وأصله في مسلم .

([45]) الصواعق المرسلة (1/252-253) .

([46]) مجموع الفتاوى (6/350) .

([47]) رواه البخاري (4741) .

([48]) رواه أحمد (16042) .

([49]) السنة ؛ لعبد الله بن الإمام أحمد (518) .

([50]) خلق أفعال العباد ، ص : (149) .

([51]) السنة ؛ للخلال (1779) .

([52]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت ، ص : (215) .

([53]) مجموع الفتاوى (12/304) .

([54]) مجموع الفتاوى (12/130) .

%d