“الدِّفَاعُ عَنْ عَقِيْدَةِ الْمُوَحِّدِيْنَ مِنْ إِغْوَاءِ الْمُضِلِّيْنَ ، وَدَعَاوَى الْمُشَبِّهِيْنَ” .
دِفَاعٌ سُنِّيٌّ ، وَرَدٌّ عِلْمِيٌّ عَلَى دَاعِيَةٍ مِنْ دُعَاةِ الْبِدَعِ فِيْ بِلَادِنَا -وَخَارِجِ بِلَادِنَا- الصَّوُفِيِّ الْأَشْعَرِيِّ : “عَبْدِ الْإِلَهِ الْعَرْفَجِ” ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ مَقْطَعٍ مَرْئِيٍّ مُنْتَشِرٍ لَهُ ، يُشَارِكُ فِيْهِ -عَنْ بُعْدٍ- طَائِفَتَهُ الْأَشْعَرِيَّةَ فِيْ مُؤْتَمَرٍ مَعْقُوْدٍ لَهُمْ فِيْ دَوْلَةِ “لِيْبِيَا” .
-الحلقة السادسة-
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
(مُقَدِّمَةٌ)
هذه هي الحلقة السادسة في الرد على داعية الأشاعرة “العرفج” ، وسأخصص هذه الحلقة -إن شاء الله- في بيان عقيدة السلف -عموماً ، وخصوصًا- في إثبات صفات الله تعالى ، مثبتًا ، مبينًا أن السلف -وأتباعهم ؛ السائرين على منهاجهم- بريئون من وصمة التجسيم المزعوم ، وسنتكلم -من خلالها- عن مصطلح التجسيم ، الذي يستخدمه أهل الابتداع لتشويه سمعة السلفيين ؛ أهل الاتِّباع ، وذلك في الباب الذين وعدت بعقده هنا ، وهو :
الْبَابُ الرَّابِعُ :
بَيَانُ عَقِيْدَةِ السَّلَفِ فِيْ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ عُمُوْمًا ؛ وَفِيْ كَلَامِ اللهِ تعالى ، وَالْعُلُوِّ ، والْاِسْتِوَاءِ ، وَالنُّزُوْلِ الْإِلَهِيِّ ، وَفِيْ صِفَةِ يَدِ الرَّحْمَنِ ، وَسَاقِهِ -تَقَدَّسَ اِسْمُهُ- عَلَى وَجْهِ الْخُصُوْصِ .
فنقول ، وبالله التوفيق :
(1)
عَقِيْدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ السَّلَفِيِّيْنَ فِيْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى .
عقيدتهم في الأسماء والصفات عقيدة صافية ، ناصعة ، لا لبس فيها ، ولا ارتياب ، مأخوذة من محكم الكتاب ، أو صحيح سنة المصطفى من ولد عدنان ، عليه أفضل الصلاة ، وأتم السلام ، ولا يتجاوزونهما ؛ إثبات بلا تمثيل ، ولا تكييف ، وتنزيه بلا تعطيل ، ولا تحريف ، يعملون فيها قاعدة النفي ، والإثبات السلفية ؛ على أصلها المعروف ؛ على حد :
قَوْلِهِ تَعَالَى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] ،
أما ما لم يرد إثباته ، ولا نفيه في الأصلين المكرمين فإن أهل السنة السلفيين يتوقفون ، ويسكتون عن نفيه ، أو إثباته ؛ ثم يستفسرون عن معناه ؛ فإن تضمن حقاً قبلوه ، وإن تضمن باطلاً ردوه عملاً بـ:
قَوْلِهِ تَعَالَى : {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:36] ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : “لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم”[النحل:60] ،
“ وجماع القول في إثبات الصفات هو القول بما كان عليه سلف الأمة ، وأئمتها ، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله ، ويصان ذلك عن التحريف ، والتمثيل ، والتكييف والتعطيل ؛ فإن الله ليس كمثله شيء ؛ لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ؛ فمن نفى صفاته كان معطلًا ، ومن مثَّل صفاته بصفات مخلوقاته كان ممثلًا ، والواجب إثبات الصفات ، ونفي مماثلتها لصفات المخلوقات ؛ إثباتًا بلا تشبيه ، وتنزيها بلا تعطيل ؛ كما قال تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فهذا ردٌّ على الممثِّلة ، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} رد على المعطلة ؛ فالممثل يعبد صنمًا ، والمعطل يعبد عدمًا”[1] ، “وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب ، والسنة ، ولا اتفق السلف على نفيها ، أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها ، أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده ؛ فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به ، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره ، ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه ، أو إجمال عبر بغيرها ، أو بين مراده بها بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي”[2] ، وليس -والحمد لله ، جل وعلا -فيما أثبته السلف -مما جاء في الكتاب ، والسنة- من صفات الله تشبيه ألبتة ، بل هو إثبات حقيقي على المعنى المتبادر ، والمفهوم في لغة العرب ، التي أمرنا بفهم الكتاب ، والسنة من خلالها -وقد قدمنا في ذلك الشيء الكثير في الحلقات السابقة- وقد تواردت أقوال السلف رحمهم الله ، ورضي عنهم فيما نحن فيه هنا :
قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت: 228ه) : “من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ، ورسوله تشبيه”[3] .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُوْيَهْ رَحِمَهُ اللهُ (ت: 238ه) : “من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم ؛ لأنه وُصف بصفاته إنما هو استسلام لأمر الله ، ولما سنَّ الرسول”[4] .
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيْدٍ الدَّارِمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت :280ه) : “فهذا الناطق من قول الله عز وجل ، وذاك المحفوظ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار ليس عليها غبار ، فإن كنتم من عباد الله المؤمنين ؛ لزمكم الإيمان بها كما آمن بها المؤمنون ، وإلا فصرحوا بما تضمرون ، ودعوا هذه الأغلوطات التي تلوون بها ألسنتكم ، فلئن كان أهل الجهل في شك من أمركم ، فإن أهل العلم من أمركم لعلى يقين”[5].
وَقَالَ اِبْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:310ه) : “فنثبت كل هذه المعاني -يعني : الصفات لله تعالى- التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار ، والكتاب ، والتنزيل ، على ما يعقل من حقيقة الإثبات ، وننفي عنه التشبيه”[6].
وَقَالَ اِبْنُ بَطَّةَ الْعُكْبَريُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:387ه) : “ اعلموا رحمكم الله أن من صفات المؤمنين من أهل الحق تصديق الآثار الصحيحة ، وتلقيها بالقبول ، وترك الاعتراض عليها بالقياس ، ومواضعة القول بالآراء ، والأهواء ؛ فإن الإيمان تصديق ، والمؤمن هو المصدق ، قال الله عز وجل : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوْا فِيْ أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا} [النساء: 65]، فمن علامات المؤمنين أن يصفوا الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، مما نقلته العلماء ، ورواه الثقات من أهل النقل ، الذين هم الحجة فيما رووه من الحلال ، والحرام ، والسنن ، والآثار ، ولا يقال فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيـف ؟ ولا لم ؟ بـل يتبعـون ، ولا يبتـدعـون ، ويسلمـون ، ولا يعارضون ، ويتيقنون ، ولا يشكون ، ولا يرتابون”[7].
وَقَالَ أَبُوْ عُثْمَانَ الصَّابُوْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:449ه) : “وكذلك يقولون -أي : أصحاب الحديث- في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن ، ووردت بها الأخبار الصحاح ، من السمع والبصر ، والعين ، والوجه ، والعلم ، والقوة ، والقدرة ، والعزة ، والعظمة ، والإرادة ، والمشيئة ، والقول ، والكلام ، والرضا ، والسخط ، والحياة ، واليقظة ، والفرح ، والضحك ، وغيرها ، من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين ، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى ، وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم ، من غير زيادة عليه ، ولا إضافة إليه ، ولا تكييف له ، ولا تشبيه ، ولا تحريف ، ولا تبديل ، ولا تغيير ، ولا إزالة للفظ الخبر عمَّـا تعـرفه العـرب ، وتضعه عليه ، بتأويل منكر يُستنكر ، ويجرونه على الظاهر ، ويكلون علمه إلى الله تعالى ، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله”[8].
(2)
وَالْآنَ سَنَعْرِضُ كَلَامَ دَاعِيَةِ الْأَشَاعِرَةِ “الْعَرْفَجِ” ؛ صاحب المقطع المذكور آنفًا ، لنرى مدى مخالفتة الشديدة ، وبعده الشاسع ، ومناقضته الصريحة لعقيدة السلف الصالحين ، أصحاب القرون الأولى ، ومن تبعهم بإحسان ، فمن أقواله في هذا الشأن :
قَوْلُهُ : “أما القاضي أبو يعلى الفراء فقد اتهم بالتجسيم مع أنه نص في كتابه إبطال التأويلات لأخبار الصفات على أن أخبار الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ، فقال : “آي الكتاب قسمان : أحدهما محكم ، إلى أن قال : وقسم هو متشابه لا يعلمه تأويله إلا الله ، ولا يقف على معناه بلغة العرب ، إلى أن قال : كذلك أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم جارية هذا المجرى ، ومنزلة على هذا التنزيل”اهـ ، أما سبب اتهامه بالتجسيم ؛ فهو أن كتابه هذا احتوى على عدد من الأحاديث الضعيفة ، والموضوعة ، والاسرائليات ، ونتج عنها إثبات الذراع ، والصدر ، والحقو ، والفخذ ، والفم ، والأضراس ، واللهوات ، والاستلقاء ، والاتكاء ، وصفة الشاب الأمر ، وغيره ، وقد قال ولده أبو الحسين ابن أبي يعلى : أن والده يعتقد أن إثبات الصفات إنما هو إثبات وجود لا إثبات إثبات تحديد ، وأن الله استأثر بعلم حقائق الصفاته ، ومعانيها ، وأن الله ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، وأن من اعتقد حقيقة الجسم من التأليف ، والانتقال فهو كافر” ،
وَقَوْلُهُ : “الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي ، فقد ذكر في مقدمة عقيدته أنها عقيدة الإمام أبي حنيفة ، … ، ونص فيها أن الله منزه عن الحدوث ، والغايات ، والأعضاء ، والأدوات ، لا تحويه الجهات الست ، كسائر المبتدعات ،
ومنهم الإمام أبو بكر الباقلاني المالكي ؛ فقد نص في كتابه الإنصاف على أن الله منزه عن التصوير ، والجوارح ، والآلات ،
ومنهم الإمام عبد الوهاب البغدادي المالكي ؛ فقد نص في شرحه على رسالة الإمام عبد الله ابن أبي زيد القيرواني المالكي ، على إثبات الاستواء مع التنزيه عن التنقل ، والتحول ، وإشغال حيز ، والافتقار إلى الأماكن ، لأن إثباتها ، يؤول إلى التجسيم ،
ومنهم الإمام البيهقي الشافعي ؛ فقد نص كتابه الاعتقاد على أن استواء الله ليس كاستواء استقرار في مكان ، وأن إتيانه ليس إتيان من مكان إلى مكان ، وأن مجيئه ليس بحركة وأن نزوله ليس بنقله ، وأن نفسه ليس بجسم ، وأن وجهه ليس بصورة ، وأن يده ليست بجارحة ، …
ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي الشافعي ؛ فقد نص في كتابه إلجام العوام عن علم الكلام على أن الحق ومذهب السلف ويشتمل على سبعة أمور : التقديس ، ثم التصديق ، ثم الاعتراف بالعـــــــــــجز ، ثم السكوت ، ثم الكف ، ثم الإمساك ، ثم التسليم لأهل المعرفة ، أما التقديس ؛ فمعناه : تقديس الله عن الجسمسة ، وتوابعها ، إلخ ،
ومنهم محمد بن رشد المالكي الجد ؛ فقد نص في كتابه المقدمات الممهدات على أن الله ليس بذي جسم ، ولا جارحة ، ولا صورة ، ولا يجوز عليه ما يجوز على الجواهر ، والأجسام ؛ من الحركة ، والسكون ، والزوال ، والانتقال ، والتهيؤ ، ولا تحويه الأمكنة ، ولا تحيط به الأزمنة ، والقائمة تطول .
وَقَوْلُهُ : “وقد بلغ الأمر بابن تيمية إلى إثبات الأعضاء لله عز وجل ، وأن يد الله آلة عمله ، وفعله ، وأنه لما كان مستغنياً عن الأكل ، والشرب استغنى عن أعضائهما للكبد ، والطحال ، ونحوهما ، فقال بنص كلامه : «الصمد الذي لا جوف له ، ولا يأكل ، ولا يشرب ، والكبد ، والطحال ، ونحو ذلك ، هي أعضاء الأكل ، والشرب ، فالغني المنزه عن ذلك ، منزه عن آلات ذلك ، بخلاف اليد فإنها للعمل ، والفعل ، وهو سبحانه وتعالى موصوف بالعمل ، والفعل ، وهي من صفات الكمال» ،
وَقَوْلَهُ : “لقد كان ابن عثمين مدركاً أن إثبات الصفات بمقتضى ظاهر اللغة العربية يؤدي إلى التجسيم فالتزمه ، مع نفي التشبيه بينه ، وبين الأجسام ، فقال : «من قال لكم إن الجسم منتف عن الله ، من قال هذا ، هل عندكم دليل على أنه منتف ، فإن كان يلزم من إثبات هذه الصفات أن يكون الله جسماً فهو حق ، ولكنه لا يشبه الأجسام ، وإن كان لا يلزم فإن إلزامكم إيانا بما لا يلزم هو عين الجور والظلم» ، ثم بين الشيخ محمد عثيمين أن التشبيه الذي ينفيه عن الله هو جواز إنفصال الأعضاء ، وهي من خصائص أعضاء الإنسان ، فهذا الذي ينفيه عز وجل ، فقال في شرحه لقول ابن القيم : في نونيته :
يتقدس الرحمن جل جلاله … عنها وعن أعضاء ذي جثمان ،
قال :
«يجب أن يحمل على أعضاء ذي الجثمان ، أي خصائص هذه الأعضاء ، وهو جواز انفصالها عن الكل ، فأعضاء الإنسان يجوز أن تنفصل عن الكل ، أما بالنسبة لهذه الأسماء ، أو لهذه الصفات بالنسبة إلى الله عز وجل فإنه لا يمكن أن يكون فيها ذلك» ،
وَقَوْلَهُ : “وليس هذا الموضع من كتاب لمعة الاعتقاد الموضع الوحيد الذي اضطرب فيه الشارحون فإن من المواضع الأخرى تقرير ابن قدامة بأن الله متكلم بكلام قديم ، وأن القرآن بحروفه ، ومعانيه من كلام الله ، أي حروف القرآن ، ومعانيه قديمة غير حادثة ، ولكن شارحي لمعته ؛ كالشيخ محمد بن عثيمين والشيخ ابن جبرين خالفوا ابن قدامة ، وتابعوا ابن تيمية ، وقرروا أن كلام الله قديم النوع ، حادث الآحاد ، وهذا التقرير مخالف لما قرره متقدمو الحنابلة ، من كلام الله عز وجل قديم ، غير مخلوق ، ولا حادث ، قال القاضي ابن الفراء- الذي اتهم بالتجسيم- : والله تعالى متكلم بكلام قديم ، غير مخلوق ، إلى أن قال : وأيضًا لوكان مخلوقًا لكان لا يخلو الباري جل وعز أن يكون خلقه في نفسه ، أو قائماً بنفسه ، أو قائمًا بغيره ، فيستحيل أن يحدثه في نفسه ؛ لأنه تعالى ليس بمحل للحوادث ، ويستحيل أن يحدثه قائماً بنفسه ، لأنه صفة ، والصفة لا تقوم بنفسها ، ويستحيل أن يحدثه في غيره ؛ لأنه لو خلـقه لوجب أن يكون كلاماً لذلك الغيـر ، لا كلامًا لله تعالى ، فلما فسدت هذه الوجوه صح أنه غير مخلوق” .
التَّعْلِيْقُ :
سنقف وقفات عديدة على هذا المنقول من المقطع المذكور آنفًا ، فأقول :
أَوَّلًا : أهل الابتداع -من أهل التجهم ، والاعتزال ، ومن سار في ركابهما ، من الأشاعرة ، والماتريدية ؛ ومنهم داعية الأشاعرة “العرفج” هنا – لم يبرحوا أن يرموا أهل السنة السلفيين مما هم برءاء منه ، بوصمهم بأنهم مشبهة ؛ يشبهون الله بخلقه ؛ وفي فعلهم هذا -كما هو ملاحظ- قدح ضمني للكتاب ، والسنة ، وعيب وذم للسلف السابقين ؛ من الصحابة ، والتابعين لهم بإحسان ، وما يعتقدونه في ذات الله ، وصفاته .
ومن المسائل المتصلة بموضوع التشبيه ، والتي افتراها أهل الابتداع على أهل السنة -كما فعل داعيتهم “العرفج” هنا- مسألة القول في صفات الله بالجسمية المزعومة ، ولوازمها ؛ من التأليف ، والحركة ، والسكون ، والتهيؤ ، والتنقل ، والتحول ، وإشغال حيز ، والافتقار إلى الأماكن ، أو القول بأنه تعالى -أو شيء من صفاته- محدود بحدود ، وغايات ، من الأزمنة ، والأمكنة ؛ كسائر المحدثات ،
وَجَوَابًا عَلَى هَذَا الْاِفْتِرَاءِ أَقُوْلُ :
– أهل السنة -السلفيون بحق- إذا وردت عليهم ألفاظ حادثة ، مجملة في معناها ، والتي قد تحتوي حقًا ملتبسًا بباطل ؛ فإنهم يتعاملون معها بالتفصيل ، والتمييز ، حتى لا يقعوا في فخ أهل الابتداع ؛ “فإن البدعة لا تكون حقًا محضًا موافقًا للسنة ؛ إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلاً ، ولا تكون باطلاً محضًا لا حق فيه ؛ إذ لو كانت كذلك لم تخْف على الناس ، ولكن تشتمل على حق وباطل ، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل ؛ إما مخطئًا غالطًا ، وإما متعمدًا لنفاق فيه وإلحاد”[9]، “ولهذا يوجد كثيرًا في كلام السلف ، والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي ، والإثبات ، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق ، ولا قصور ، أو تقصير في بيان الحق ؛ ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة ، المتشابهة ، المشتملة على حق ، وباطل ؛ ففي إثباتها إثبات حق ، وباطل ، وفي نفيها نفي حق ، وباطل ، فيمنع من كلا الإطلاقين ، بخلاف النصوص الإلهيــة ، فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق ، والباطل ؛ ولهذا كان سلف الأمة ، وأئمتها يجعلون كلام الله ، ورسوله هو الإمام ، والفرقان الذي يجب اتباعه ، فيثبتون ما أثبته الله ، ورسوله ، وينفون ما نفاه الله ، ورسوله ، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعًا من إطلاقها ؛ نفيًا إثباتًا ، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل ، فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفي باطله ، بخلاف كلام الله ، ورسوله ، فإنه حق يجب قبوله ، وإن لم يفهم معناه ، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه”[10].
– وهم -أي : أهل السنة- يثبتون لله تعالى صفاته الذاتية ؛ التي هي بالنسبة لنا أجزاء ، وأعضاء ، وأدوات ؛ يثبتونها بالإثبات الشرعي ، على قاعدتهم الأصلية ، “أمروها كما جاءت” ؛ بالمعنى الحقيقي ؛ اللائق به جل وعلا ، التي لا تقتضي أي نوع من أنواع التشبيه ، والتكييف ، ولا أي نوع من أنواع التعطيل ، أو التحريف ، فيثبتون لله تقدس اسمه : الساق ، والأصابع ، واليدين ، والوجه ، والعينين ، والنزول ، والعلو ، والاستواء ؛ وغيرها ؛ مما جاءت النصوص بإثباته ، على الوجه اللائق به جل وعلا -وقد ذكرنا أدلة كُلٍّ في حلقات سابقة- فأهل السنة لا يثبتون شيئًا مـن الصفـات لـم تـأت الأدلـة بإثبـاته ؛ كاللسان ، والجوف ، والفم ، ونحو ذلك ، بل يقفون عند النصوص ، ولا يتعدونها ؛ يثبتون ما يثبتون من صفات الله بالإثبات الشرعي ؛ الذي لا تشبيه ، ولا تكييف ، ولا تجسيم مزعوم معه ، وينفون عنه صفات لا تليق به جل وعلا بالنفي الشرعي ؛ الذي لا تعطيل ، ولا تحريف معه ، وهم بهذا يفرقون بين الإثبات الشرعي ، والتشبيه -أو التجسيم الذي يفتريه عليهم أهل الابتداع- ؛ فإن الإثبات الشرعي لا يقتضي أي تشبيه ، أو تجسيم مفترى ؛ فإن الاشتراك اللفظي بين الخالق ، والمخلوق لا ينكره إلا من اسود قلبه بظلام البدعة ؛ فكل عاقل يعلم أن الله سمى نفسه بالملك ، فهل الملك الخالق ؛ ذو الملكوت المطلق ؛ كالملك المخلوق ؛ ذي الملك المحدود ؟! وكذلك يقال في بقية الصفات ؛ فهل يد الله تعالى كيد المخلوق ، وهل سمعه الرب تقدس اسمه كسمع المربوب ، وهل كلامه ككلامه ، وهل صوته كصوته ؟ الجواب في جميع ذلك -وغيره مما هو مثله- : كلَّا ، لأن الله له ذات حقيقة ، لا تشبه الذوات ، وله صفات حقيقية ، لا تشبه الصفات ، وفي الحقيقة أن فعلة هؤلاء المبتدعة هذه وقوع منهم في التشبيه الذي رموا أهل السنة به ؛ شعروا بذلك ، أو لم يشعروا ،
ومن أقوال السلف في هذا الشأن :
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُوْيَهْ رَحِمَهُ اللهُ (ت: 238ه) :”علامة جهم ، وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ، وما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة ، بل هم المعطلة ، ولو جاز أن يقال لهم هم المشبهة لاحتمل ذلك ، وذلك أنهم يقولون : إن الرب تبارك وتعالى في كل مكان بكماله في أسفل الأرضين ، وأعلى السماوات على معنى واحد ، وكذبوا في ذلك ، ولزمهم الكفر”[11].
وَقَالَ أحمد بن حنبل رَحِمَهُ اللهُ (ت: 241ه) : -في رده على الجهمية- “قالوا : لم يتكلم ، ولا يكلم ، لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة ، والجوارح عن الله منفية ، فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله ، ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلالة ، وكفر ، ولا يشعر أنهم لا يقولون قولهم إلا فرية في الله ، … ، فقلنا : لم أنكرتم ذلك ؟ قالوا : إن الله لم يتكلم ، ولا يتكلم ، إنما كوّن شيئاً فعبر عن الله ، وخلق صوتاً فأسمع ، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ، ولسان ، وشفتين ، فقلنا : هل يجوز لمكوِّن أو غير الله أن يقول : {يَا مُوْسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}[طه:12] ، … ،
وأما قولهم : إن الكلام لا يكون إلا من جوف ، وفم ، وشفتين ، ولسان !! أليس الله قال للسماوات ، والأرض {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِيْنَ}[فصلت:11] ، أتراها أنها قالت بجوف ، وفم ، وشفتين ، ولسان ، وأدوات ؟ وقال : {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}[الأنبياء:79] أتراها سبحت بجوف ، وفم ، ولسان ، وشفتين ؟ والجوارح إذ شهدت على الكافر {فَقَالُوْا لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوْا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِيْ أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}[فصلت:21] أتراها أنها نطقت بجوف ، وفم ، ولسان ؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء ، وكذلك الله تكلم كيف شاء ، من غير أن يقول بجوف ، ولا فم ، ولا شفتين ، ولا لسان”[12].
وَقَالَ أَبُوْ زُرْعَةَ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت: 264ه) : “المعطلة النافية الذين ينكرون صفات الله عز وجل التي وصف الله بها نفسه في كتابه ، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويكذبون بالأخبار الصحاح التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات ، ويتأولونها بآرائهم المنكوسة ، على موافقة ما اعتقدوا من الضلالة ، وينسبون رواتها إلى التشبيه ، فمن نسب الواصفين ربهم تبارك وتعالى بما وصف به نفسه في كتابه ، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل ، ولا تشبيه إلى التشبيه فهو معطل نافٍ ، ويستدل عليهم بنسبتهم إياهم إلى التشبيه أنهم معطلة نافية”[13]،
وَقَالَ أَبُوْ حَاتِمٍ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:277ه) : “علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة”[14]،
وَقَالَ الْإِمَامُ الدَّارِمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:280ه) : “كما أنه ليس كمثله شيء فليس كيده يد”[15]، وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “وكما ليس كمثله شيء ليس كسمعه سمع ، ولا كبصره بصر ، ولا لهما عند الخلق قياس ، ولا مثال ، ولا شبيه”[16]،
وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “فهذه الأحاديث قد جاءت كلها ، وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن ، وعلى تصديقها ، والإيمان بها أدركنا أهل الفقه ، والبصر من مشايخنا ، لا ينكرها منهم أحد ، ولا يمتنع من روايتها ، حتى ظهرت هذه العصابة الجهمية فعارضت آثار رسول الله برد ، وتشمروا لدفعها بجد ، فقالوا : «كيف نزوله هذا؟» ، قلنا : لم نُكلف معرفة كيفية نزوله في ديننا ، ولا تعقله قلوبنا ، وليس كمثله شيء من خلقه فنشبه منه فعلًا ، أو صفة بفعالهم وصفتهم”[17].
وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -في رده على المريسي- : “وأما تشنيعك على هؤلاء المقرين بصفات الله ، المؤمنين بما قال الله : أنهم يتوهمون فيها جوارح ، وأعضاء فقد ادعيت عليهم في ذلك زوراً ، وباطلاً ، وأنت من أعلم الناس بما يريدون بها ، إنما يثبتون منها ما أنت معطل ، وبه مكذب ، ولا يتوهمون فيها إلا ما عنى الله ، ورسوله صلى الله عليه وسلّم ، ولا يدعون جوارح ، وأعضاء كما تقولت عليهم”[18]،
وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -في رده السابق- : “أما قولك : إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو موجود في الخلق خطأ ، فإنا لا نقول : إنه خطأ ؛ كما قلت ، بل هو عندنا كفر ، ونحن لكيفيتها ، وتشبيهها بما هو موجود في الخلق أشد أنفاً منكم ، غير أنا كما لا نشبهها ، ولا نكيفها ، لا نكفر بها ، ولا نكذب ، ولا نبطلها بتأويل الضُلَّال ، ….. “[19].
وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ -في رده السابق-: وقال : “هؤلاء الذين سميتهم مشبهة أن وصفوه بما وصف به نفسه بلا تشبيه ، فلولا أنها كلمة هي محنة الجهمية التي بها ينبزون المؤمنين بها ما سمينا مشبهاً غيرك ؛ لسماجة ما شبهت ، ومثلت ، ويلك ! إنما نصفه بالأسماء ، لا بالتكييف ، ولا بالتشبيه ، كما يقال : إنه ملك ، كريم ، عليم ، حكيم ، حـليـم ، رحيـم ، لطيـف ، مؤمـن ، عـزيز ، جـبار ، متكبــر ، وقد يجوز أن يدعى البشر ببعض هذه الأسماء ، وإن كانت مخالفة لصفاتهم ؛ فالأسماء فيها متفقة ، والتشبيه ، والكيفية مفترقة ، كما يقال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ؛ يعني : في الشبه ، والطعم ، والذوق ، والمنظر ، واللون ، فإذا كان كذلك فالله أبعد من الشبه وأبعد ؛ فإن كنا مشبهة عندك أن وحدنا الله إلهاً واحداً بصفات أخذناها عنه ، وعن كتابه ، فوصفناه بما وصف به نفسه في كتابه ، فالله في دعواكم أول المشبهين بنفسه ، ثم رسوله الذي أنبأنا ذلك عنه ، فلا تظلموا أنفسكم ، ولا تكابروا العلم ، إذ جهلتموه فإن التسمية من التشبيه بعيدة”[20].
وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ -في رده السابق- : “ثم لم تأنف من هذا التأويل حتى ادعيت على قوم من أهل السنة ؛ أنهم يفسرون ضحك الله على ما يعقلون من أنفسهم ، وهذا كذب تـدعيه عليهم ؛ لأنا لم نسمع أحدًا منهم يشبه شيئاً من أفعال الله تعالى بشيء من أفعال المخلوقين ، ولكنا نقول : هو نفس الضحك ، يضحك كما يشاء ؛ كما يليق به”[21]،
وَقَالَ -أيضًا- رَحِمَهُ اللهُ -في رده السابق- : “أما ما ادعيت أن قومًا يزعمون أن لله عينًا فإنا نقوله ، لأن الله قاله ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وأما جارح كجارح العين من الإنسان على التركيب ؛ فهذا كذب ادعيته عمدًا ، لمـا أنـك تـعلم أن أحـدًا لا يقـولـه ، غـير أنـك لا تألـو ما شـنعت ، ليكون أنجع لضلالتك في قلوب الجهال ، والكذب لا يصلح منه جد ، ولا هزل ، فمن أي الناس سمعت أنه قال : جارح مركب ؟ فأشر إليه ، فإن قائله كافر ، فكم تكرر قولك : جسم مركب ، وأعضاء ، وجوارح وأجزاء ، كأنك تهول بهذا التشنيع علينا أن نكف عن وصف الله بما وصف نفسه في كتابه ، وما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونحن وإن لم نصف الله بجسم كأجسام المخلوقين ، ولا بعضو ، ولا بجارحة ، لكنا نصفه بما يغيظك من هذه الصفات التي أنت ، ودعاتك لها منكرون ، فنقول : إنه الواحد الأحد الصمد ؛ الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوًا أحد ، ذو الوجه الكريم ، والسمع السميع ، والبصر البصير ، نورالسموات والأرض”[22].
وَقَالَ اِبْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:311ه) : “وزعمت الجهمية -عليهم لعائن الله- أن أهل السنة ومتبعي الآثار ، القائلين بكتاب ربهم ، وسنة نبيهم صلّى الله عليه وسلّم ، المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله ، المثبت بين الدفتين ، وعلى لسان نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه مشبهةٌ ، جهلاً منهم بكتاب ربنا ، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وقلة معرفتهم بلغة العرب الذين بلغتهم خوطبنا ، … ، فاسمعوا الآن أيها العقلاء ، ما نذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب ، هل يقع اسم المشبهة على أهل الآثار ، ومتبعي السنن ؟!
نحن نقول ، وعلماؤنا جميعًا في جميع الأقطار : إن لمعبودنا عز وجل وجهاً ؛ كما أعلمنا الله في محكم تنزيله ، فذواه بالجلال ، والإكرام ، وحكم له بالبقاء ، ونفى عنه الهلاك ،
ونقول : إن لوجه ربنا عز وجل من النور ، والضياء ، والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ، محجوب عن أبصار أهل الدنيا ، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية ، ونقول: إن وجه ربنا القديم لا يزال باقياً ، فنفى عنه الهلاك والفناء ،
ونقول : إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك ، ونفى عنها الجلال ، والإكرام ، غير موصوفة بالنور ، والضياء ، والبهاء التي وصف الله بها وجهه ، تدرك وجوه بني آدم أبصار أهل الدنيا ، لا تحرق لأحد شعرة فما فوقها ، لنفي السبحات عنها ، التي بينها نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم لوجه خالقنا ،
ونقول : إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة ، لم تكن ، فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة ، أوجدها بعد ما كانت عدماً ، وإن جميع وجوه بني آدم فانية ، غير باقية ، تصير جميعاً ميتاً ، ثم تصير رميماً ، ثم ينشئها الله بعد ما قد صارت رميماً ، فتلقى من النشور ، والحشر ، والوقوف بين يدي خالقها في القيامة ، ومن المحاسبة بما قدمت يداه ، وكسبه في الدنيا ما لا يعلم صفته غير الخالق البارئ ، ثم تصير إما إلى جنة ، منعمة فيها ، أو إلى النار معذبة فيها ، فهل يخطر يا ذوي الحجا ببال عاقل مركب فيه العقل ، يفهم لغة العرب ، ويعرف خطابها ، ويعلم التشبيه ، أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه ؟ وهل ها هنا أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا ، وبينا صفته من الكتاب ، والسنة بتشبيه وجوه بني آدم ، التي ذكرناها ، ووصفناها ؟ غير اتفاق اسم الوجه ، وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم ، كما سمى الله وجهه وجهاً ، ….
نحن نثبت لخالقنا جل وعلا صفاته التي وصف الله عز وجل بها نفسه في محكم تنزيله ، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم مما ثبت بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه ، ونقول كلاماً مفهوماً موزوناً يفهمه كل عاقل ، نقول : ليس إيقاع اسم الوجه للخالق البارئ بموجب عند ذوي الحجا ، والنهى أنه يشبه وجه الخالق بوجوه بني آدم ، قد أعلمنا الله جل وعلا في الآي التي تلوناها قبل أن الله وجهاً ذواه بالجلال ، والإكرام ، ونفى الهلاك عنه … ، ولو لزم -يا ذوي الحجا- أهل السنة ، والآثار إذا أثبتوا لمعبودهم يدين كما ثبتهما الله لنفسه ، وثبتوا له نفسًا عز ربنا وجل ، وإنه سميع ، بصير ، يسمع ، ويرى ، ما ادعى هؤلاء الجهلة عليهم أنهم مشبهة للزم كل من سمى الله ملكاً ، أو عظيماً ، ورؤوفاً ، ورحيماً ، وجباراً ، ومتكبراً أنه قد شبه خالقه عز وجل بخلقه ، حاشا لله أن يكون من وصف الله عز وعلا بما وصف الله به نفسه في كتابه ، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم مشبهاً خالقه بخلقه … “[23].
وَقَالَ اِبْنُ أَبِيْ زَمَنِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:399ه) : “فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه ، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليس في شيء منها تحديد ، ولا تشبيه ، ولا تقدير ، فسبحان من {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى:11] ، لم تره العيون فتحده ، كيف هو كينونيته ، لكن رأته القلوب في حقائق الإيمان به”[24].
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُوْ بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيْلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : “ويداه مبسوطتان ، ينفق كيف يشاء ، بلا اعتقاد كيف ، وأنه عز وجل استوى على العرش ، بلا كيف ، … ، ولا يوصف بما فيه نقص ، أو عيب ، أو آفة ، فإنه عز وجل تعالى عن ذلك”[25].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُوْ عُثْمَانَ الصَّابُوْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:449ه) : “أصحاب الحديث -حفظ الله تعالى أحياءهم ، ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية ، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة ، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه ، وتنزيله ، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ، ونقلت العدول الثقات عنه ، ويثبتون له جل جلاله ما أثبته لنفسه في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه ، فيقولون : إنه خلق آدم بيديه كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل : {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:75] ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ؛ بحمل اليدين على النعمتين ، أو القوتين ؛ تحريف المعتزلة ، والجهمية -أهلكهم الله- ولا يكيفونهما بكيف ، أو شبهها بأيدي المخلوقين ؛ تشبيه المشبهة -خذلهم الله- وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة مـن التـحريـف ، والتـشبـيه ، والتـكيـيف ، ومـنَّ عليـهم بالتعريـف ، والتفهيم ، حتى سلكوا سبل التوحيد ، والتنزيه ، وتركوا القول بالتعطيل ، والتشبيه ، واتبعوا قول الله عز وجل : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى:11]”[26].
وَقَالَ قَوَّامُ السُّنَّةِ الْأَصْبَهَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:535ه) : “الكلام في صفات الله عز وجل ما جاء منها في كتاب الله ، أو روي بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمذهب السلف -رحمة الله عليهم أجمعين- إثباتها ، وإجراؤها على ظاهرها ، ونفي الكيفية عنها … ونقول : إنما وجب إثباتها -أي : الصفات- ؛ لأن الشرع ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11]”[27].
– فعليه يكون لفظ الجسم ، ولوازمه ، مما ألصقه داعية الأشاعرة “العرفج” بأهل السنة ؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والعلماء المعاصرين بعده ؛ أمثال الشيخ محمد بن عثيمين رحمهم الله تعالى دعوى ، لا دليل عليها ، فهي لا تلزم أهل السنة ، وليست موضع تهمة لهم ، لأن أهل السنة في الألفاظ المجملة -التي يوردها أهل الابتداع لتلبيس الحق بالباطل- يفصلون ؛ فإن كان يراد منها حق قبلوه ، وإلا ردوه ، فإن كانوا -أي : أهل الابتداع- يريدون بنفي الجسمية عن الله تعالى أن الله ليس له وجه ، ولا يدان ، ولا عينان ، ولا قدمان ، ونحو ذلك مما ورد في الأدلة ؛ فهذا ترده النصوص الشرعية ، وإجماع السلف -كلامهم رحمهم الله في المعاني فقط ؛ لأنها قوالب الألفاظ ، وأما في إطلاق الأسماء الحادثة ؛ فلا ، لا نفيًا ، ولا إثباتًا ؛ حتى يتم الاستفصال- وإن كان يريدون بنفي الجسمية عن الله التشبيه بالمخلوقين ، فأهل السنة -والحمد لله- برءاء من ذلك ،
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:728ه) : “وأما الشرع ؛ فالرسل ، وأتباعهم الذين من أمة موسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يقولوا : إن الله جسم ، ولا إنه ليس بجسم ، ولا إنه جوهر ، ولا إنه ليس بجوهر ، لكن النزاع اللغوي ، والعقلي ، والشرعي في هذه الأسماء هو بما أحدث في الملل الثلاث ، بعد انقراض الصدر الأول ؛ من هؤلاء ، وهؤلاء ، وهؤلاء”[28].
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “وأما الشرع ؛ فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ، ولا الصحابة ، ولا التابعين ، ولا سلف الأمة : أن الله جسم ، أو أن الله ليس بجسم ، بل النفي ، والإثبات بدعة في الشرع”[29].
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “وأما من لا يطلق على الله اسم الجسم ؛ كأئمة الحديث ، والتفسير ، والتصوف ، والفقه ، مثل الأئمة الأربعة ، وأتباعهم ، وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة ، ومن قبلهم من الصحابة ، والتابعين لهم بإحسان ؛ فهؤلاء ليس فيهم من يقول : إن الله جسم ، وإن كان أيضاً : ليس من السلف ، والأئمة من قال : إن الله ليس بجسم”[30].
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “وأما المعنى الخاص الذي يعنيه النفاة والمثبتة ، الذين يقولون : هو جسم لا كالأجسام ، فهذا مورد النزاع بين أئمة الكلام وغيرهم ، وهو الذي يتناقض سائر الطوائف من نفاته ؛ لإثبات ما يستلزمه ، كما يتناقض مثبتوه مع نفي لوازمه ، ولهذا كان الذي عليه أئمة الإسلام أنهم لا يطلقون الألفاظ المبتدعة المتنازع فيها لا نفياً ، ولا إثباتاً ، إلا بعد الاستفسار ، والتفصيل : فيثبت ما أثبته الكتاب ، والسنة من المعاني ، وينفي ما نفاه الكتاب ، والسنة من المعاني”[31].
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “فيقال لمن سأل بلفظ الجسم : ما تعني بقولك ؟ أتعني بذلك أنه من جنس شيء من المخلوقات ؟ فإن عنيت ذلك فالله تعالى قد بين في كتابه أنه لا مثل له ، ولا كفو له ، ولا ند له ، وقال : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل:17] ، فالقرآن يدل على أن الله لا يماثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فإن كنت تريد بلفظ الجسم ما يتضمن مماثلة الله لشيء من المخلوقات ، فالله منزه عن ذلك ، وجوابك في القرآن ، والسنة ، وإذا كان الله ليس من جنس الماء ، والهواء ، ولا الروح المنفوخة فينا ، ولا من جنس الملائكة ، ولا الأفلاك ، فلأن لا يكون من جنس بدن الإنسان ، ولحمه ، وعصبه ، وعظامه ، ويده ، ورجله ، ووجهه ، وغير ذلك ؛ من أعضائه ، وأبعاضه أولى ، وأحرى ، فهذا الضرب ، ونحوه مما قد يسمى تشبيهًا ، وتجسيمًا ، كله منتف في كتاب الله ، وليس في كتاب الله آية واحدة تدل ؛ لا نصًا ، ولا ظاهرًا على إثبات شيء من ذلك لله ، فإن الله إنما أثبت له صفات مضافة إليه ، كقوله : {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ،و : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين}[الذاريات:58] ، و {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:75] ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}[الرحمن:27] ، {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر:67] ، كما قال : {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب}[المائدة:116] ، ومعلوم أن نفس الله التي هي ذاته المقدسة الموصوفة بصفات الكمال ليست مثل نفس أحد من المخلوقين …
وإن عنيت بلفظ الجسم : الموصوف بالصفات القائم بنفسه المباين لغيره ، الذي يمكن أن يشار إليه ، وترفع إليه الأيدي فلا ريب أن القرآن قد أخبر أن الله له العلم ، والقوة ، والرحمة ، والوجه ، واليدان ، وغير ذلك ، وأخبر أنه إليه يصعد الكلم الطيب ، والعمل الصالح يرفعه ، وأنه : {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الأعراف:54] ، وأنه : {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}[المعارج:4] ، فالقرآن مملوء من بيان علوه على خلقه ، والصعود إليه ، والنزول منه ، ومن عنده ، وإثبات علمه ، ورحمته ، وغير ذلك من صفاته ، وإذا سميت ما هو كذلك جسمًا ، وسئلت : هل هم جسم ؟ كان الجواب : أن المعنى الذي سئلت عنه وأردته بهذا اللفظ قد بينه الله ، وأثبته في كتابه .
وأما إطلاق لفظ الجسم على الله : فهو كإطلاق الفلاسفة لفظ العقل ، ونحو ذلك ، وهذه العبارات في لغة العرب تتضمن معاني ناقصة ؛ ينزه الله عنها ، فالعقل هو المصدر ؛ الذي هو عرض ، والله سبحانه منزه عن ما هو فوق ذلك ، بل نفس تسميته عاقلًا ، ليس معروفًا في شرع المسلمين ، فقد تبين أن ما يعني بلفظ الجسم من تمثيل الله بخلقه ، ووصفه بالنقائص فقد بين الله في كتابه أنه منزه عنه ، وما يعني به من إثبات أنه قائم بنفسه ، مباين لخلقه ، عال عليهم ، يرفعون إليه أيديهم عند الدعاء ، ويعرج إليه بنبيه ليلة الإسراء ، موصوف بصفات الكمال ، منزه عما يستلزم العدم ، والإبطال فقد بين الله في كتابه إثباته لنفسه ، فلا يقال : إنه ليس في القرآن جواب هذا السؤال …”[32].
– وأما ما أتى به داعية الأشاعرة “العرفج” من كلام لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، وهو قوله : «الصمد الذي لا جوف له ، ولا يأكل ، ولا يشرب ، والكبد ، والطحال ، ونحو ذلك ، هي أعضاء الأكل ، والشرب ، فالغني المنزه عن ذلك ، منزه عن آلات ذلك ، بخلاف اليد فإنها للعمل ، والفعل ، وهو سبحانه وتعالى موصوف بالعمل ، والفعل ، وهي من صفات الكمال» ، وهذا يقتضي -عند داعية الأشاعرة ، وحزبه- بأن شيخ الإسلام يقول بلوازم الجسمية ؛ من الأدوات ، والأعضاء ، فـ:
الْجَوَابُ عَلَى مَا قَالَهُ هُنَا -بِمَفْهُوْمِهِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ- أَنْ نَقُوْلَ :
ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله صواب ، لا شك فيه ، فالله موصوف بالعمل ، والفعل ، غير معطل منهما ، وهو جل وعلا {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيْدُ}[البروج:16] ، يفعل أفعالاً عديدة ، ومن أفعاله ما تكون بيده ؛ فقد خلق آدم ، وكتب التوراة بيده ، وفي الأخرة بقبض السموات بيمينه ، ونحو ذلك من صفات الفعل ، ولا ينكر هذا ، ولا يفرق منه ، وينتفض إلا المعطلة ، وإني أقول لداعية الأشاعرة “العرفج” : ما المستنكر من قول شيخ الإسلام رحمه الله هذا ؟ شيخ الإسلام أثبت لله يدًا ، يخلق ، ويقبض بها ، ويفعل بها ما يشاء ، على نحو ما ورد في الأصلين المكرمين ، على نفس الطريقة ، والمنهجية السلفية ، فلماذا تلومه ؟ !لكن العارف بك لا يستغرب منك هذا ، لأن أصولك الأشعرية ، المأخوذة من المعطلة الجهمية تقتضي إنكار الحق ، ولو كان كالعسل المصفى ، وأرى أن أحق وصف توصف به -هنا- ما قاله ابن عباس رضي الله عنه للرجل الذي انتفض -استنكاراً- حين سمعه يروي حديث وضع قدم الرب عز وجل في النار ، قال له : “مَا فَرَقُ هَؤُلَاءِ ، يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ ، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ”[33]،
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض ؛ كالحياة ، والعلم ، والقدرة ، ولم يثبت ما هو فينا أبعاض ؛ كاليد ، والقدم : هذه أجزاء ، وأبعاض تستلزم التركيب ، والتجسيم ، قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم ، والتركيب العقلي ، كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي ،
فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضًا ، أو تسميتها أعراضًا لا يمنع ثبوتها ،
قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبًا ، وأبعاضًا ، أو تسميتها تركيبا ، وأبعاضًا لا يمنع ثبوتها ،
فإن قيل : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء ،
قيل له : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض ،
فإن قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية ،
قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة ، وذلك في حق الله محال ، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقًا ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه ، وأبعاضه ،
فإن قال : ذلك تجسيم ، والتجسيم منتف ، قيل : وهذا تجسيم ، والتجسيم منتف”[34].
– وأما ما أتى به داعية الأشاعرة “العرفج” من كلام لفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى ، وهو قوله : “من قال لكم إن الجسم منتف عن الله ، من قال هذا ، هل عندكم دليل على أنه منتف ، فإن كان يلزم من إثبات هذه الصفات أن يكون الله جسماً فهو حق ، ولكنه لا يشبه الأجسام ، وإن كان لا يلزم فإن إلزامكم إيانا بما لا يلزم هو عين الجور ، والظلم” ، فـ :
الْجَوَابُ عَلَى مَا قَالَهُ هُنَا أَنْ نَقُوْلَ :
كلام الشيخ -هنا- في المعاني ، لا في إطلاق الألفاظ التي لم ترد في الكتاب ، ولا في السنة ؛ نفيًا ، أو إثباتًا ، وله رحمه الله تعالى في هذا الشأن كلام صريح يجلي الحقيقة ، ويظهرها ، من ذلك :
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “وأما الجسم ، فنقول : ماذا تريدون بالجسم ؟ أتريدون أنه جسم مركب من عظم ، ولحم ، وجلد ونحو ذلك ؟ فهذا باطل ، ومنتف عن الله ؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى:11] ، أم تريدون بالجسم ما هو قائم بنفسه ، متصف بما يليق به؟ فهذا حق من حيث المعنى ، لكن لا نطلق لفظه ؛ نفياً ، ولا إثباتاً ، لما سبق”[35].
وأما ما أتى به داعية الأشاعرة “العرفج” من أن الله منزه مـما يدعـيه السـلفـيون مـن صفـات الأجسـام له جل وعلا ؛ من الحركة ، والسكون ، والزوال ، والانتقال ، ونحو ذلك ، وما يدعيه السلفيون -أيضًا- في ذات الله ، وصفاته ، من الحدود ، والجهات ، والغايات ، والإحاطة ، ونحو ذلك ، فـ
الْجَوَابُ عَلَى مَا قَالَهُ هُنَا أَنْ نَقُوْلَ :
هذه -كذلك من الألفاظ المجملة ، المحتملة حقاً ، ملتبسًا بباطل ، فلا بد من التفصيل ، فإن أريد به معنى صحيحاً ، فهو صحيح ، وإن إريد معنى باطلاً رد ، “واعلم أن اللازم من قول الله تعالى ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ إذا صح أن يكون لازمًا فهو حق ، وذلك لأن كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حقٌ ، ولازمُ لحق حق ، ولأن الله تعالى عالم بما يكون لازمًا من كلامه ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيكون مرادًا”[36].
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “ لفظ «الحركة» : هل يوصف الله بها، أم يجب نفيه عنه ؟ اختلف فيه المسلمون ، وغيرهم من أهل الملل ، وغير أهل الملل ؛ من أهل الحديث ، وأهل الكلام ، وأهل الفلسفة ، وغيرهم على ثلاثة أقوال ، وهذه الثلاثة موجودة في أصحاب الأئمة الأربعة ؛ من أصحاب الإمام أحمد ، وغيرهم ، وقد ذكر القاضي أبو يعلى الأقوال الثلاثة عن أصحاب الإمام أحمد في «الروايتين والوجهين» ، وغير ذلك من الكتب ، وقبل ذلك ينبغي أن يعرف أن لفظ الحركة ، والانتقال ، والتغير ، والتحول ، ونحو ذلك ألفاظ مجملة ؛ فإن المتكلمين إنما يطلقون لفظ الحركة على الحركة المكانية ، وهو انتقال الجسم من مكان إلى مكان ؛ بحيث يكون قد فرغ الحيز الأول ، وشغل الثاني ؛ كحركة أجسامنا ، من حيز إلى حيز ، وحركة الهواء ، والماء ، والتراب ، والسحاب من حيز إلى حيز ؛ بحيث يفرغ الأول ، ويشغل الثاني ؛ فأكثر المتكلمين لا يعرفون للحركة معنى إلا هذا ، ومن هنا نفوا ما جاءت به النصوص من أنواع جنس الحركة ؛ فإنهم ظنوا أن جميعها إنما تدل على هذا ، وكذلك من أثبتها ، وفهم منها كلها هذا ؛ كالذين فهموا من نزوله إلى السماء الدنيا أنه يبقى فوقه بعض مخلوقاته ، فلا يكون هو الظاهر ؛ الذي ليس فوقه شيء ، ولا يكون هو العلي الأعلى ، ويلزمهم أن لا يكون مستويًا على العرش بحال كما تقدم”[37]،
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “ فيقال لمن نفى الجهة : أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق ؟ فالله ليس داخلًا في المخلوقات ، أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ فلا ريب أن الله فوق العالم ، مباين للمخلوقات ، وكذلك يقال لمن قال الله في جهة : أتريد بذلك أن الله فوق العالم ؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات ؟ فإن أردت الأول فهو حق ، وإن أردت الثاني فهو باطل”[38]،
وَقَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيْزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ اِبْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ (ت:1420ه) -معلقاً عند قول الطحاوي رحمه الله في متنه المسمى بـ : “الطحاوية” : «تعالى عن الحدود ، والغايات ، والأركان ، والأعضاء ، والأدوات ، والجهات الست ؛ كسائر المبتدعات»– قال رحمه الله :
“هذا الكلام فيه إجمال ، قد يستغله أهل التأويل ، والإلحاد في أسماء الله ، وصفاته ، وليس لهم بذلك حجة ؛ لأن مراده رحمه الله تنزيه الباري سبحانه عن مشابهة المخلوقات ، لكنه أتى بعبارة مجملة تحتاج إلى تفصيل ، حتى يزول الاشتباه ؛ فمراده بالحدود ؛ يعني : التي يعلمها البشر ، فهو سبحانه لا يعلم حدوده إلا هو سبحانه ؛ لأن الخلق لا يحيطون به علماً ؛ كما قال عز وجل في سورة طه : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] ، ومن قال من السلف بإثبات الحد في الاستواء ، أو غيره ؛ فمراده حد يعلمه الله سبحانه ، ولا يعلمه العباد ، وأما : «الغايات والأركان والأعضاء والأدوات» ؛ فمراده رحمه الله تنزيهه عن مشابهة المخلوقات في حكمته ، وصفاته الذاتية ؛ من الوجه ، واليد ، والقدم ، ونحو ذلك ؛ فهو سبحانه موصوف بذلك ، لكن ليست صفاته مثل صفات الخلق ، ولايعلم كيفيتها إلا هو سبحانه ، وأهل البدع يطلقون مثل هذه الألفاظ لينفوا بها الصفات بغير الألفاظ ؛ التي تكلم الله بها ، وأثبتها لنفسه ، حتى لا يفتضحوا ، وحتى لا يشنع عليهم أهل الحق ، والمؤلف الطحاوي رحمه الله لم يقصد هذا المقصد لكونه من أهل السنة ، المثبتين لصفات الله ، وكلامه في هذه العقيدة يفسر بعضه بعضاً ، ويصدق بعضه بعضاً ، ويفسر مشتبهه بمحكمه ،
وهكذا قوله : «لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات» ؛ مراده : الجهات الست المخلوقة ، وليس مراد نفي علو الله واستوائه على عرشه ؛ لأن ذلك ليس داخلاً في الجهات الست ، بل هو فوق العالم ، ومحيط به ، وقد فطر الله عباده على الإيمان بعلوه سبحانه ، وأنه في جهة العلو ، وأجمع أهل السنة ، والجماعة ؛ من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأتباعهم بإحسان على ذلك ، والأدلة من الكتاب ، والسنة الصحيحة المتواترة كلها تدل على أنه في العلو سبحانه، فتنبه لهذا الأمر العظيم أيها القاريء الكريم ، واعلم أنه الحق وما سواه باطل ، والله ولي التوفيق”[39].
ثَانيًا : ومن المسائل التي افتراها أهل الابتداع على أهل السنة -كما فعل داعيتهم “العرفج”- مسألة حلول الحوادث في ذات الله جل وعلا ، ويستدلون لذلك بصفة الكلام لله جل وعلا ، فهم يعيبون على أهل السنة بقولهم أن كلام الله قديم النوع متجدد الآحاد ؛ أي أن له علاقة بمشيئة الله ، يتكلم متى شاء إذا شاء ، والحقيقة أن هؤلاء المفترون المبتدعة أرادوا بعقيدتهم في كلام الله أن يشبهوا الله بالجمادات ، التي لا مشيئة لها ، تعالى الله وجل عما يقوله الظالمون علواً كبيراً ، وقد حاز الفضل أهل السنة -والحمد لله- فهم يعتقدون أن الله “يتكلم بمشيئته ، وقدرته ، عندهم -أن الله- لم يزل متكلماً إذا شاء ، فكلامه قديم النوع ، وأما نفس النداء الذي نادى به موسى ، ونحو ذلك فحينئذ ناداه كما قال تعالى : {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى}[طه:11] ، وكذلك نظائره ، فكان السلف يفرقون بين نوع الكلام ، وبين الكلمة المعينة”[40]، وهذا يقال في كل صفات الله التي لها علاقة بمشيئته سبحانه وتعالى ، ومن أصرح الأدلة في ذلك :
قَوْلُهُ تَعَالَى : {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}[الأعراف: 143] ،
فإن هذه الآية صريحة في أن كلام الله تعالى لموسى عليه السلام كان بعد مجيئه للميقات .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ ، كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ : الحَقَّ ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ -وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ ، وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ ، وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ اليُمْنَى ، نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ- فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ ، وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ ، إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ ، حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى الأَرْضِ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ : حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الأَرْضِ- فَتُلْقَى عَلَى فَمِ السَّاحِرِ ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ ، فَيُصَدَّقُ فَيَقُولُونَ : أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ، يَكُونُ كَذَا وَكَذَا ، فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا ؟ لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ”[41]،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ ، وَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ”[42].
وَقَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (241ه) : “إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء”[43]،
وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : “باب قول الله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوِ فِي شَأْنٍ}[الرحمن:29] ، وقوله تعالى : {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ}[الأنبياء:2] ، وقوله تعالى: {لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}[الطلاق: 1] ، وأن حدثه تعالى لا يُشبه حدث المخلوقين ، قال ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَلَّا تَكَلَّمُوْا فِيْ الصَّلَاةِ»[44]“[45].
وَقَالَ اِبْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:311ه) : “الذي أقول به أن القرآن كلام الله ، ووحيه ، وتنزيله ، غير مخلوق ، ومن قال : إن القرآن ، أو شيئاً منه ، ومن وحيه ، وتنزيله مخلوق ، أو يقول : إن الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل ، أو يقول : إن أفعال الله مخلوقة ، أو يقول : إن القرآن محدث ، أو يقول : إن شيئاً من صفات الله -صفات الذات- ، أو اسماً من أسماء الله مخلوق ، فهو عندي جهمي يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه ، هذا مذهبي ، ومذهب من رأيت من أهل الأثر ؛ في الشرق ، والغرب من أهل العلم ، ومن حكى عني خلاف هذا فهو كاذب باهت ، ومن نظر في كتبي المصنفة ظهر له ، وبان أن الكلابية كذبة فيما يحكون عني مما هو خلاف أصلي ، وديانتي”[46].
وَقَالَ الْإِمَامُ السِّجْزِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:444ه)-لما قيل له : إن القراءة عمل ، والعمل لا يكون صفة لله ، والدليل على أنها عمل أنك تقول : قرأ فلان يقرأ ، وما حسن فيه ذكر المستقبل ، فهو عند العرب عمل- قال رحمه الله : “هذا لا يلزم ؛ لأنك تقول : «قال الله عز وجل» ، و «يقول الله عز وجل» ، والله تعالى قال : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}[البقرة:35] ، وقال تعالى : {يَوْمَ نَقُوْلُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَتَقُوْلُ هَلْ مِنْ مَزِيْدٍ}[ق:30] ، فقد حسن في القول ذكر المستقبل ؛ فإن ارتكبوا العظمى ، وقالوا : «كلام الله شيء واحد على أصلنا ، لا يتجزأ ، وليس بلغة ، والله سبحانه من الأزل إلا الأبد متكلم بكلام واحد ، لا أول له ولا آخر ، فقال : ويقول إنما يرجع إلى العبارة لا إلا المعبر عنه« ، قيل لهم : قد بينا مرارًا كثيرة أن قولكم في هذا الباب فاسد ، وأنه مخالف للعقليين ، والشرعيين جميعًا ، وأن نص الكتاب ، والثابت من الأثر قد نطقا بفساده ، قال الله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُوْلَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ} [النحل:40] ، فبين الله سبحانه أنه يقول للشيء كن إذا أراد كونه ، فعلم بذلك أنه لم يقل للقيامة بعد كوني… “[47].
وَقَالَ قَوَّامُ السُّنَّةِ الْأَصْبَهَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:535ه) : “فصل يدل على أن الله تعالى إذا أراد أن يحدث أمراً سمعه حملة العرش ، ثم يسمعه أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا ، قال الله عز وجل : {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}[سبأ:23]”[48]،
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة «حلول الحوادث» ، وكانت المعتزلة تقول : إن الله منزه عن الأعراض ، والأبعاض ، والحوادث ، والحدود ، ومقصودهم نفي الصفات ، ونفـي الأفعـال ، ونـفـي مبـاينتـه للخـلق ، وعـلوه على العـرش ، وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات ؛ أهل السنة بـ: «العبادات المجملة» ؛ التي تشعر الناس بفساد المذهب ، فـ :
إنهم إذا قالوا : «إن الله منزه عن الأعراض» لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر ؛ لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة ، والفساد ؛ كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض ، والأسقـام ، ولا ريب أن الله منزه عن ذلك ، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ، ولا قدرة ، ولا حياة ، ولا كلام قائم به ، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضاً .
وكذلك إذا قالوا : «إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات» : أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات ، ولا تحوزه المصنوعات ، وهذا المعنى صحيح ، ومقصودهم : أنه ليس مبايناً للخلق ، ولا منفصلاً عنه ، وأنه ليس فوق السماوات رب ، ولا على العرش إله ، وأن محمداً لم يعرج به إليه ، ولم ينزل منه شيء ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا يتقرب إليه شيء ، ولا يتقرب إلى شيء ، ولا ترفع إليه الأيدي في الدعاء ، ولا غيره ، ونحو ذلك من معاني الجهمية ،
وإذا قالوا : «إنه ليس بجسم» أوهمـوا الـناس أنـه ليـس مـن جـنـس الـمــخلوقـات ، ولا مثل أبدان الخلق ، وهذا المعنى صحيح ، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى ، ولا يتكلم بنفسه ، ولا يقوم به صفة ، ولا هو مباين للخلق ، وأمثال ذلك ،
وإذا قالوا : «لا تحله الحوادث» أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلاً للتغيرات ، والاستحالات ، ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين ، فتحيلهم ، وتفسدهم ، وهذا معنى صحيح ، ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ، ولا له كلام ، ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته ، وقدرته ، وأنه لا يقـدر عـلى استـواء ، أو نـزول ، أو إتيـان ، أو مـجيء ، وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلاً ، بل عين المخلوقات هي الفعل ، ليس هناك فعل ، ومفعول ، وخلق ، ومخلوق ، بل المخلوق عين الخلق ، والمفعول عين الفعل ، ونحو ذلك”[49].
نُكْمِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ :
([15]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/299) .
([16]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/308) .
([18]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/374) .
([19]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/219) .
([20]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/303) .
([21]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/270) .
([22]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (2/828) .