القائمة إغلاق

“الدِّفَاعُ عَنْ عَقِيْدَةِ الْمُوَحِّدِيْنَ مِنْ إِغْوَاءِ الْمُضِلِّيْنَ ، وَدَعَاوَى الْمُشَبِّهِيْنَ” .

دِفَاعٌ سُنِّيٌّ ، وَرَدٌّ عِلْمِيٌّ عَلَى دَاعِيَةٍ مِنْ دُعَاةِ الْبِدَعِ فِيْ بِلَادِنَا -وَخَارِجِ بِلَادِنَا- الصَّوُفِيِّ الْأَشْعَرِيِّ : “عَبْدِ الْإِلَهِ الْعَرْفَجِ” ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ مَقْطَعٍ مَرْئِيٍّ مُنْتَشِرٍ لَهُ ، يُشَارِكُ فِيْهِ -عَنْ بُعْدٍ- طَائِفَتَهُ الْأَشْعَرِيَّةَ فِيْ مُؤْتَمَرٍ مَعْقُوْدٍ لَهُمْ فِيْ دَوْلَةِ “لِيْبِيَا” .

-الحلقة السابعة-

نسخة رقمية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :

(مُقَدِّمَةٌ)

هذه هي الحلقة السابعة في الرد على داعية الأشاعرة “العرفج” ، وسأخصص هذه الحلقة -إن شاء الله- في بيان عقيدة أهل الابتداع -الأشاعرة ، والمفوضة- في صفات الله تعالى ، مثبتًا ، مبينًا أنهم سائرون على سَنَن الفرق الضالة المبتدعة ، بعيدون عن سبيل المؤمنين ؛ أهل التوحيد ، والسنة ؛ التي وفَّق أهل الحق إليها ، وثَبَّتهم عليها ، وذلك في الباب الذين وعدت بعقده هنا ، وهو :

الْبَابُ الْخَامِسُ :

بَيَانُ ضَلَالِ الْمُعَطِّلَةِ -الْأَشَاعِرَةِ ، وَالْمُفَوِّضَةِ- وَانْحِرَافِهِمْ عَنِ سَبِيْلِ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ بَابِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى .

فأقول ، وبالله التوفيق ،

(1)

عَقِيْدَةُ أَهْلِ الْاِبْتِدَاعِ الْخَلَفِيِّيْنَ -الْأَشَاعِرَةِ ، وَأَهْلِ التَّفْوِيْضِ-فِيْ صِفَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ .

عقيدتهم عقيدة خلفية ، ضالة ، منحرفة ، مستقاة من عقائد الفرق المنحرفة ؛ كالجهمية ، والمعتزلة ، قائمة على التشبيه أولاً ، ثم التعطيل ثانيًا ، يعتمدون في هذه العقيدة على رد خبر الآحاد ، وتقديم العقل على النقل عند تعارضهما -على حد زعمهم- .

وأصل المذهب الأشعري يعود إلى :

عبد الله بن سعيد بن كلَّاب : (ت:245ه) ،

وأبي الحسن الأشعري : (ت:324) ، في طوره الثاني -أي : في طوره الذي كان موافقًا فيه ابن منهج كلَّاب-  .

وأما أئمة هذا المذهب -المنظرون ؛ الذين أصلوا ، وقعدوا في مذهب إمامهم “الأشعري”- ، وهم معتمد الأشاعرة المتأخرين ؛ كدعاة الأشاعرة -المعاصرين- المنتشرين في بلاد المسلمين ، فهم كثير منهم :

أبو بكر الباقلاني : (ت:402ه)  ،

وأبو بكر ابن فورك : (ت:406ه)  ،

وهما قد وافقا الأشعري -في بعض منهجه- في طوره الثاني ،

وعبد القاهر البغدادي (429ه) ،

وأبو بكر البيهقي (ت:458ه) ،

وأبو إسحاق الشيرازي : (ت:476ه) ،

وأبو إسحاق الإسفراييني : (ت:418هـ) ،

وأبو المعالي الجويني -إمام الحرمين- : (ت:478ه) ،

وأبو حامد الغزالي : (ت:505ه) ،

والفخر الرازي : (ت:606ه) ،

وأبو الحسن الآمدي (ت:631ه) ،

(إِيْرَادُ بَعْضِ أَقْوَالِهِمُ التَّأْصِيْلِيَّةِ فِيْ الْعَقِيْدَةِ) :

ومن ذلك :

يَقُوْلُ أَبُوْ بَكْرِ بْنِ فَوْرَكٍ : “وأمَّا ما كان من نوع الآحاد ممَّا صحَّت الحجة به من طريق وثاقة النقلة ، وعدالة الرواة ، واتصال نقلهم ؛ فإنَّ ذلك وإنْ لم يوجب العلم ، والقطع ، فإنَّه يقتضي غالب الظن ، وتجويز حكم ، حتى يصحَّ أنْ يحكم أنَّه من باب الجائز الممكن ، دون المستحيل الممتنع”[1]. 

وَيَقُوْلُ الْجُوَيْنِيُّ -في معرض رده على مثبتي الصفات الخبرية- : “وأما الأحاديث التي يتمسكون بها فآحاد ، لا تفضي إلى العلم، ولو أضربنا عن جميعها كان سائغاً”[2]، 

وَيَقُوْلُ الرَّازِيُّ : “أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى ؛ فغير جائز ، يدل عليه وجوه : الأول : أن أخبار الآحاد مظنونة، فلم يجز التمسك بها في معرفة الله تعالى ، وصفاته ، وإنما قلنا إنها مظنونة لأنا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين …”[3]،

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- : “اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك ، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة :

الأول : إما أن يصدق مقتضى العقل ، والنقل ؛ فيلزم تصديق النقيضين ، وهو محال ،

والثاني : وإما أن نبطلهــــما ؛ فيلزم تكذيب النقيضين ، وهو محال ،

والثالث : وإما أن نكذب الظواهر النقلية ، ونصدق الدلائل العقلية ،

والرابع : وإما أن نصدق الظواهر النقلية ، ونكذب الدلائل العقلية ، وذلك باطل ؛ لأنه لا يمكنــنا

أن نعرف صحة الظواهر النقلية ، إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع ، وصفاته ، وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول ، وظهور المعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو ساغ القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول ، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول ، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة ، فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل ، والنقل معاً ، وإنه باطل”[4].

وَيَقُوْلُ الْغَزَالِيُّ : “فصل : فيما يستدرك بمحض العقل ، دون السمع ، وما يشتركان فيه ، والقول الضابط في ذلك : كل ما يمكن إثباته دون إثبات كلام الباري ؛ كمعرفة الله تعالى ، وصفاته ، ودرك استحالة المستحيلات ، وجواز الجائزات ، ووجوب الواجبات العقلية ، دون التكليفية بأسرها ، فيستحيل دركه من السمع ، وأما الذي لا يدرك إلا بالسمع : فكل ما لا يمكن إثباته إلا بعد إثبات الكلام ، وتردد بين جهة الجواز ، فمأخذه السمع على التجرد ، ومنها ما يجوز أن يؤخذ منهما : كخلق الأعمال ، وجواز الرؤية ، وكذا كل ما يجول العقل فيه فلا نتوقف في ترتيبه على تقديمه على الكلام ، ثم السمعيات مراتب ؛ فما قرب من المعجزة كان أوضح ، فإنها من أدلة السمع ، وهي كالبديهة في المعقولات ، ثم دونها القرآن ، ثم الأخبار المتواترة ، وقربه من المعجزات كقرب النظريات من البداية”[5]،

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا– : “الفصل الأول : في التعارض ، اعلم أن المهم الأول معرفة محل التعارض ، فنقول كلُّ ما دلَّ العقل فيه على أحد الجانبين ؛ فليس للتعارض فيه مجال ؛ إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها ، وتكاذبها ، فإن ورد دليل سمعيٌّ على خلاف العقل ؛ فإمـا ألا يــكون مــتواترًا فيــعلم أنه غير صحيح ، وإما أن يكون متواترًا فيكون مؤوَّلًا ، ولا يكون متعارضًا ، وأما نصٌّ متواتر لا يحتمل الخطأ ، والتأويل وهو على خلاف دليل العقل فذلك محال ؛ لأن دليل العقل لا يقبل الفسخ ، والبطلان”[6].

(إِيْرَادُ بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ فِيْ صِفَاتِ اللهِ) :

ومن ذلك :

يَقُوْل اِبْنُ كُلَّابٍ -إمام الطائفة الكلابية ، والذي تبعه قدماء الأشاعرة ؛ كأبي الحسن الأشعري ، وبعض أتباعه- : “إن الله سبحانه لم يزل متكلماً  ، وأن كلام الله سبحانه صفة له قائمة به ، وأنه قديم بكلامه ، وأن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به ، والقدرة قائمة به ، وهو قديم بعلمه ، وقدرته ، وأن الكلام ليس بحروف ، ولا صوت ، ولا ينقسم ، ولا يتجزأ ، ولا يتبعض ، ولا يتغــاير ، وأنه معنى واحد بالله عز وجل … ، وأن ما نسمع التالين يتلونه هو عبارة عن كلام الله عز وجل ، وأن موسى عليه السلام سمع الله متكلماً بكلامه ، وأن معنى قوله {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة:9] ، معناه : حتى يفهم كلام الله ، ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه : حتى يسمع التالين يتلونه[7].

وَيَقُوْلُ البَاقِلَّانِيُّ : “ولا يجوز أن يطلق على كلامه شيء من أمارات الحدث ؛ من حرف ، ولا صوت[8]،

وَيَقُوْلُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ : “المسألة الأولى من هذا الأصل ، في بيان عدد صفات الله الأزلية. .. ، أجمع أصحابنا على : قدرة الله تـعالى عـز ، وجـل ، وعلـمه ، وحياتـه ، وإرادته ، وسمعـه ، وبصره ، وكلامه ، صفات له أزلية ... ، وأصحابنا مجمعون على أن الله تعالى  :حي بحياة ، وقادر بقدرة ، وعالم بعلم ، ومريد بإرادة ، وسامع بسمع لا بإذن ، وباصر ببصر ، هو رؤية العين لا عين ، ومتكلم بكلام ، لا من جنس الأصوات والحروف ، وأجمعوا أن هذه الصفات السبع أزلية ، وسموها قديمة”[9].

وَيَقُوْلُ الْبَيْهَقِيُّ : “فأما الاستواء ؛ فالمتقدمون من أصحابنا رضي الله عنهم كانوا لا يفسرونه ، ولا يتكلمون فيه ؛ كنحو مذهبهم في أمثال ذلك”[10]،

وَيَقُوْلُ الْجُوَيْنِيُّ : “اختلفت مسالكُ العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب ، والسنة ، وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها، وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان منها ، فرأى بعضهم تأويلها ، والتزم هذا المنهج في آي الكتاب ، وما يصح من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل ، وإجراء الظواهر على مواردها ، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى”[11]،

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- : “فإن معنى قولهم-أي المعتزلة- هذه العبارات كلام الله : أنها خلقه ، ونحن لا ننكر أنها خلق الله[12].

 وَيَقُوْلُ الْغَزَالِيُّ : “فإنا معترفون باستحالة قيام الأصوات بذاته ، وباستحالة كونه متكلماً بهذا الاعتبار ، ولكنا نقول الإنسان يسمى متكلماً باعتبارين ؛ أحدهما : بالصوت ، والحـرف ، والآخر : بكلام النفس الذي ليس بصوت ، وحرف ، وذلك كمال وهو في حق الله تعالى ، غير محال ، ولا هو دال على الحدوث ، ونحن لا نثبت في حق الله تعالى إلا كلام النفس ، وكلام النفس لا سبيل إلى إنكاره في حق الإنسان زائداً على القدرة ، والصوت ، حتى يقول الانسان زورت البارحة في نفسي كلاماً ، ويقال في نفس فلان كلام ، وهو يريد أن ينطق به ، وأما الحروف فهي حادثة …”[13].

وَيَقُوْلُ الرَّازِيُّ : “ولما بطلت الأقسام الأربعة -التي ذكرت في النقل السابق عنه- لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية ؛ إما أن يقال أنها غير صحيحة ، أو يقال : إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها ، ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل ، وإن لم تجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى، فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات ، وبالله التوفيق”[14]،

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- : “إنه تعالى إذا أراد شيئًا ، أو كره شيــئًا خــلق هــذه الأصــوات المخصوصــة -أي : كلام الله- في جسم من الأجسام لتدل هذه الأصوات على كونه تعالى مريدًا لذلك الشيء المعين ، أو كارها له”[15].

وَيَقُوْلُ الآمِدِيُّ : “وفي الاستواء قوله تعالى : {ثُمَّ اِسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[طه:5] ـ وإلى غير ذلك من الآيات ، واعلم أن هذه الظواهر ؛ وإن وقع الاغترار بها بحيث يقال بمدلولها اللغوي ، والعرف الاصطلاحي فذلك لا محالة انخراط في سلك التجسيم ، ودخول في طرف دائرة التشبيه”[16]،

التعليق :

هذه بعض أقوال القوم ، ومن قارن بينها ، وبين ما نقلنا عن داعية الأشاعرة “العرفج” -في مقطعه المذكور آنفاً- رأى أنها هي هي ، لا تخرج عنها .

والأشاعرة طوائف شتى ، بعضهم متأثر بالجهمية ؛ كالرازي ، وبعضهم متأثر بالمعتزلة ؛ كالجويني ، وبعضهم متأثر بالفلاسفة ؛ كالغزالي ، وصاحب المذهب متأثر بالكلابية -ومن رحمها خرجت الأشعرية- وتبعه على ذلك : الباقلاني ، وابن فورك ، وكان ابن كلَّاب يثبت قيام الصفات اللازمة بالله تعالى ، وينفى أن يقوم به -سبحانه- ما يتعلق بمشيئته ، وقدرته من الأفعال ، وغيرها ، ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي ، وأبو الحسن الأشعري ، وأبو الحسن علي بن مهدي الطبري ، والقاضي أبو بكر ابن الباقلاني ، وغيرهم[17]، ومع تعظيم الأشاعرة ، وتقديسهم للعقل إلا إنه قد توغل التصوف في صفوفهم توغلاً بالغًا ، فقلما تجد -الآن- أشعريًا إلا متبعًا لإحدى الطرق الصوفية ، وأما التوحيد -عندهم ، خاصة المتأخرين منـهم- فـهـو محصـور فـي توحيـد الربوبيـة ، أما الشرك -عندهم- ففي إنكار وجود الله فقط ، لا اعتبار بتوحيد الألوهية ، وسيأتي من كلام أهل العلم الشيء الكثير في التحذير منهم ، والرد على بعض شبهاتهم ،

(إِيْرَادُ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِيْ التَّحْذِيْرِ مِنْ خَطَرِ الْأَشَاعِرَةِ)

مِنْ ذَلِكَ :

الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ (ت:241ه) : فقد كان يحذر من ابن كلاب ، وأتباعه ؛ كالحارث المحاسبي ، وغيره[18] .

وَالْإِمَامُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:311ه) : -لما قال له أبو علي الثقفي : ما الذي أنكرت من مذاهبنا حتى نرجع عنه ؟- قال: “ميلكم إلى مذهب الكلابية ، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وعلى أصحابه؛ مثل الحارث ، وغيره”[19]

ويَقُوْلُ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْقَحْطَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:379ه) في نونيته المشهورة[20] :

يا مَعْشَرَ الْمُتَكَلِّمِيْنَ عَدَوْتُمُ

 

عُدْوَانَ أَهْلِ السَبْتِ فِيْ الْحِيْتَانِ

كَفَّرتُمُ أَهْلَ الشَرِيْعَةِ وَالْهُدَى

 

وَطَعَنْتُمُ بِالْبَغِيِّ وَالْعُدْوَانِ

بِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ أُبطِلُ سِحْرَكُمْ

 

وَبِهِ أُزَلزِلُ كُلَّ مَنْ لَاقَانِي

أَحَسِبْتُمُ يَا أَشْعَريَّةُ أَنَّنِي

 

مِمَّنْ يُقَعْقِعُ خَلْفَهُ بِشِنَانِ

أَفَتَسْتُرُ الشَمْسُ الْمُضِيْئَةُ بِالسُهَا

 

أَمْ هَلْ يُقاسُ الْبَحْرُ بِالْخِلْجَانِ

أَزَعَمْتُمُ أَنَّ القُرْآنَ عِبَارَةٌ

 

فَهُمَا كَمَا تَحكُوْنَ قُرْآنَانِ

إِيْمَانُ جِبْرِيْلَ وَإِيْمَانُ الَّذِيْ

 

رَكِبَ الْمَعَاصيَ عِنْدَكُمْ سِيَّانِ

وَيَقُوْلُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خُوْيْزِ مِنْدَادِ رَحِمَهُ اللهُ (ت:390ه) -فقد روى عنه ابن عبد البر رحمه الله أنه قال في كتاب الشهادات ، في تأويل قول مالك : «لا تجوز شهادة أهل البدع ، والأهواء»- قال : “أهل الأهواء عند مالك ، وسائر أصحابنا هم أهل الكلام ، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء ، والبدع ؛ أشعرياً كان ، أو غير أشعري ، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً ، ويهجر ، ويؤدب على بدعته ؛ فإن تمادى عليها استتيب منها”[21].

وَيَقُوْلُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَه رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت:395 ه) : “ليتق الله امرؤ ، وليعتبر بمن تقدم ؛ ممن كان القول باللفظ مذهبه ، ومقالته ، وكيف خرج من الدنيا مهجورًا ، مذمومًا ، مطرودًا من المجالس ، والبلدان ؛ لإعتقاده القبيح ، وقوله الشنيع ، المخالف لدين الله ؛ مثل : الكرابيسى ، والشواط ، وابن كُلَّاب ، وابن الأشعرى ، وأمثالهم ؛ ممن كان الجدال ، والكلام طريقه فى دين الله عز وجل”[22]،

وَيَقُوْلُ أَبُوْ نَصْرٍ السِّجْزِيُّ الْحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت:444ه) -محذراً من منهج الأشعري ، ونحوه-: “ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء ؛ بقوم يدعون أنهم من أهل الإتباع ، وضررهم أكثر من ضرر المعتـزلة ، وغيـرهم ، وهـم : أبو محـمد بـن كـلاب ، وأبو العباس القلانسي ، وأبو الحسن الأشعري … ، وفي وقتنا أبو بكر الباقلاني ؛ ببغداد ، وأبو إسحاق الإسفرائني ، وأبوبكر بن فورك بخراسان ، فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ، ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة ، وظهر بعد هؤلاء الكرامية ، والسالمية ، فأتوا بمنكرات من القول ، وكلهم أئمة ضلالة ؛ يدعون الناس إلى مخالفة السنة ، وترك الحديث ، وإذا خاطبهم من له هيبة ، وحشمة من أهل الاتباع قالوا : الاعتقاد ما تقولونه ، وإنما نتعلم الكلام ؛ لمناظرة الخصوم ، والـذي يقولـونه كـذب ، وإنما يستـترون بهـذا ؛ لئلا يشنع عليهم أصحاب الحديث”[23].

وَيَقُوْلُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْكَرْخِيُّ (ت:532ه) : “وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني الشافعي (ت:406ه)- شديد الإنكار على الباقلاني ، وأصحاب الكلام ، قال : ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ، ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ، ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبـه عليه ، وينهـون أصحـابهم ، وأحبابهم عن الحوم حواليه ، على ما سمعت عدة من المشايخ ، والأئمة ؛ منهم : الحافظ المؤتمن بن أحمد بن على الساجي ، يقولون : سمعنا جماعة من المشايخ الثقات ، قالوا : كان الشيخ أبو حامد ؛ أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني ؛ إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا ، وأصحابًا ، إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي ، المحاذي للجامع ، ويقبل على من حضر ، ويقول اشهدوا علي : بأن القرآن كلام الله ، غير مخلوق ؛ كما قاله الإمام ابن حنبل ، لا كما يقوله الباقلاني ، وتكرر ذلك منه جمعات ، فقيل له في ذلك فقال : حتى ينتشر في الناس ، وفي أهل الصلاح ، ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه -يعني : الأشعرية- وبريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني ، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ، ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه ، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة ، فيظن ظان أنهم مني تعلموه قبل ، وأنا ما قلته،  وأنا بريء من مذهب البلاقلاني ، وعقيدته”[24].

وَيَقُوْلُ اِبْنُ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:536ه) : “وظهرت المعتزلة في زمن المأمون ، وجرى منهم ما جرى ، فكان آخر البدع ظهورًا مذهب الأشعري ، وتولى نصرته الظلمة ، وأرباب الدنيا ، وأصحاب المظالم ؛ القائمين بما يخالف الشَّرع من النجَّامة ، والفلسفة، والإدمان على المظالم ، والفسق ، لتعلم أن هذه البدعة شرُّ البدع بظهورها آخر الزمان ، وانتشارها في فاسد البلدان ، وركوب دعاتها التمويه ، والمحال ، والكلام المزخرف ، وفي باطنه الكفر ، والضلال ، فزمان هذه البدعة أخبث الأزمنة ، وأتباعها أخبث الأمة ، ودعاتها أقل أديان هذه الملة”[25].

وَيَقُوْلُ الْوَزِيْرُ اِبْنُ هُبَيْرَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:560 ه) : “والله ما نترك أمير المومنين علي بن أبى طالب مع الرافضة ، نحن أحق به منهم ؛ لأنه منَّا ، ونحن منه ، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية ، فإنًّا أحق به منهم”[26]،

وَيَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:728ه) : “عمدة النفاة على أنه لو ثبت هذه الصفات : من العلو ، والمباينة ، ونحو ذلك للزم أن يكون جسماً ، وكون الواجب القديم جسماً ممتنع ، وهذه المقدمة هي نظرية باتفاقهم ، وكل طائفة منهم تطعن في طريق الآخرين ، والعمدة فيها طريقان : طريق الجهمية ، والمعتزلة ، وطريق الفلاسفة ، ومن وافق على هذه المقدمة من الفقهاء ، وأهل الكلام ؛ من الأشعرية ، وغيرهم ، فهو تبع فيها ؛ إما للمعتزلة ، والجهمية ، وإما للفلاسفة”[27]،

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “وفي إضافته إلى هذا الرسول تارة -كما في قوله : {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}[الحاقة:40] – ، وإلى هذا تارة -كما في قوله : {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الحاقة:43]- دليل على أنه إضافة بلاغ ، وأداء لا إضافة إحداث لشيء منه ، أو إنشاء ؛ كما يقوله بعض المبتدعة الأشعرية ، من أن حروفه ابتداء جبرائيل ، أو محمد ؛ مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال : إنه قول البشر ، من مشركي العرب ، ممن يزعم أنه أنشأه بفضله ، وقوة نفسه ، ومن المتفلسفة الذين يزعمون أن المعاني ، والحروف تأليفه ؛ لكنها فاضت عليه كما يفيض العلم على غيره من العلماء”[28].

وَيَقُوْلُ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بْنُ سَحْمَانَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:1349ه) -في رده على السفاريني لما أدخل الأشاعرة ، والماتريدية في عداد أهل السنة- قال : “هذا مصانعة من المصنف رحمه الله تعالى في إدخاله الأشعرية ، والماتريدية في أهل السنة والجماعة ، فكيف يكون من أهل السنة والجماعة من لا يثبت علو الرب سبحانه فوق سماواته ، واستواءه على عرشه ، ويقول : حروف القرآن مخلوقة ، وإن الله لا يتكلم بحرف ، ولا صوت ، ولا يثبت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم …”[29].

وقد ذكر الإمام جمال الدين ، يوسف ابن عبدالهادى الصالحي ، ابن الْمِبْرَدِ الحنبلي رحمه الله (ت:909 هـ) ، فى كتابه : “جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر” -في فصله الأخير- أكثر من أربعمائة عالم ورد عنهم ذم الأشاعرة ، والأمر بمجانبتهم .

(إِيْرَادُ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِيْ الرَّدِّ عَلَى بَعْضِ شُبُهَاتِهِمْ) ،

تقدم النقل عن بعض أئمة الأشاعرة أقوالهم :

1] الرافضة خبر الآحاد في العقائد ،

2] والمقدمة للعقل على النقل في النصوص الذي ظاهرها -عندهم- التعارض ،

3] والمؤولة ، أو المفوضة لنصوص الصفات .

وفي هذه الفقرة -إن شاء الله تعالى- سنرد عليهم ما أوردوه بأقوال علماء أهل السنة ،  

أوَّلًا : الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِيْ عَدَمِ قَبُوْلِهِمْ خَبْرَ الْآحَادِ فِيْ مَسَائِلِ الْعَقِيْدَةِ ،

ومن أقوال أهل العلم في ذلك :

قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت:204ه) -بعد أن سرد أسماء السلف ممن يثبت خبر الواحد-قال : ” كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله ، والانتهاء إليه ، والإفتاء به ، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه ، ويقبله عنه من تحته ، ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديماً ، وحديثاً على تثبيت خبر الآحاد ، والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا قد أثبته جاز لي”[30]،

وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ -معلقاً على قول الله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ}[يس:13-14]- ، قال : “فظاهر الحجج عليهم باثنين ، ثم ثالث ، وكذا أقام الحجة على الأمم بواحد ، وليس الزيادة في التأكيد مانعة أن تقوم الحجة بالواحد ، إذ أعطاه ما يباين به الخلق غير النبيين”[31].

وَقَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:463ه)  : “ليس في الاعتقاد كله ؛ في صفات الله ، وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله ، أو صح عن رسول صلى الله عليه وسلم ، أو أجمعت عليه الأمة ، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله ، أو نحوه يسلم له ، ولا يناظر فيه”[32].

وَقَالَ الْخَطِيْبُ الْبَغْدَادِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:463ه) : “وعلى العمل بخبر الواحد كافة ؛ التابعين ، ومن بعدهم ؛ من الفقهاء ، في سائر أمصار المسلمين ، إلى وقتنا هذا ، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ، ولا اعتراض عليه ، فثبت أن من دين جميعهم وجوبه ، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه”[33]،

وَقَالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ (ت:751ه) : “ وأما المقام الثامن : وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث ، وإثبات صفات الرب تعالى بها ، فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول ، فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث ، وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول ، ولم ينكرها أحد منهم على من رواها ، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم ، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول ، والتصديق لهم ، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك ، وكذلك تابع التابعين مع التابعين ، هذا أمر يعلمه ضرورة أهل الحديث ؛ كما يعلمون عدالة الصحابة ، وصدقهم ، وأمانتهم ، ونقلهم ذلك عن نبيهم صـلى الله عليــه وســلم ؛ كـنـقلـهم الوضـوء ، والغسل من الجنابة ، وأعداد الصلوات ، وأوقاتها ، ونقل الأذان ، والتشهد ، والجمعة، والعيدين ، فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أحاديث الصفات ، فإن جاز عليهم الخطأ ، والكذب في نقلها جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرنا ، [وحينئذ] فلا وثوق لنا بشيء نقل لنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم البتة ، وهذا انسلاخ من الدين والعلم ، والعقل”[34].

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “وقد ذهب جماعة من أصحاب أحمد ، وغيرهم إلى تكفير من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل ، والتكفير مذهب إسحاق بن راهويه ، وإنما أتي منكر إفادة خبر الواحد للعلم من جهة القياس الفاسد ، فإنه قاس المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرع عام للأمة ، أو بصفة من صفات الرب تعالى على خبر الشاهد على قضية معينة ، ويا بعد ما بينهما ؛ فإن المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قدر أنه كذب عمدًا ، أو خطأ ولم يظهر ما يدل على كذبه لزم على ذلك إضلال الخلق ، إذ الكلام في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول ، وعملت بموجبه ، وأثبتت به صفات الرب ، وأفعاله فإن ما يجب قبوله شرعًا من الأخبار لا يكون باطلًا في نفس الأمر ، ولا سيما إذا قبلته الأمة كلهم ، وهكذا يجب أن يقال في كل دليل يجب اتباعه شرعًا لا يكون إلا حقًا ، فيكون مدلوله ثابتًا في نفس الأمر ، هذا فيما يخبر به عن شرع الرب تعالى ، وأسمائه ، وصفاته بخلاف الشهادة المعينة على مشهود عليه معين فهذه قد لا يكون مقتضاها ثابتًا في نفس الأمر”[35].

وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ، ورجوعهم إليها ، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد ، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ، ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعـالى ، وفـي مسـائـل القـدر ، والـرؤية ، وأصول الإيمان ، والشفاعة ، والحوض ، وإخراج الموحدين من المذنبين من النار ، وفي صفة الجنة ، والنار ، وفي الترغيب ، والترهيب ، والوعد ، والوعيد ، وفي فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ، ومناقب أصحابه ، وأخبار الأنبياء المتقدمين ، وأخبار الرقاق ، وغيرها ما يكثر ذكره”[36]،

ثَانِيًا : الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِيْ تَقْدِيْمِهِمْ الْعَقْلَ عَلَى النَّقْلِ ،

ومن أقوال أهل العلم في ذلك :

يَقُوْلُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ (241ه) : “ليس في السنة قياس ، ولا يضرب لها الأمثال ، ولا تُدرَكُ بالعقول ، ولا الأهواء ؛ إنما هو الاتباع ، وترك الهوى”[37]،

وَيَقُوْلُ قَوَّامُ السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت:535ه) -ناقلاً عن أبي المظفر السمعاني رحمه الله تعالى قوله-: “فصلُ ما بيننا ، وبين المبتدعة هو : مسألة العقل ؛ فإنهم أسَّسوا دينهم على المعقول ، وجعلوا الاتباع ، والمأثور تبعًا للمعقول ، وأما أهل السنة قالوا : الأصل في الدين الاتباع ، والمعقول تَبَعٌ ، ولو كان أساس الدين على المعقول لاسـتغـنى الخـلـق عـن الـوحـي ، وعـن الأنبـياء ، ولبـطل الأمر ، والنهي ، ولقال من شاء ما شاء ، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئًا حتى يعقلوا ، ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين ؛ من ذكر صفات الله ، وما تعبد الناس به من اعتقاده ، وكـذلـك ما ظـهر بين المسـلـمـين ، وتـداولوه بينهم ، ونقـلوه عـن سلفهم ، إلى أن أسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  ؛ من ذكر عذاب القبر ، وسؤال منكر ونكير ، والحوض ، والميزان ، والصراط ، وصفات الجنة ، وصفات النار ، وتخليد الفريقين فيهما أمور لا ندرك حقائقها بعقولنا ، وإنما ورد الأمر بقبولها ، والإيمان بها ، فإذا سمعنا شيئًا من أمور الدين ، وعقلناه ، وفهمناه ، فلله الحمد في ذلك ، والشكر، ومنه التوفيق ، وما لم يمكنا إدراكه وفهمه ، ولم تبلغه عقولنا آمنا به ، وصدقناه ، واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته ، وقدرته ، واكتفينا في ذلك بعلمه ، ومشيئته”[38].

وَيَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره كله حق ، يصدق بعضه بعضًا ، وهو موافق لفطرة الخلائق ، وما جعل فيهم من العقول الصريحة ، والقصود الصحيحة لا يخالف العقل الصريح ، ولا القصد الصحيح ، ولا الفطرة المستقيمة ، ولا النقل الصحيح ؛ الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يظن تعارضها من صدق بباطل من النقول ، أو فهم منه ما لم يدل عليه ، أو اعتقد شيئًا ظنه من العقليات وهو من الجهليـات ، أو من الكشـوفات ، وهـو من الكـسوفـات ؛ إن كـان ذلك مـعارضًا لـمـنقول صحيح ، وإلا عارض بالعقل الصريح ، أو الكشف الصحيح ما يظنه منقولًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون كذبًا عليه ، أو ما يظنه لفظًا دالا على شيء ، ولا يكون دالا عليه”[39].

ويَقُوْلُ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “إذا تعارض العقل ، والنقل وجب تقديم النقل ؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين ، ورفعهما رفع للنقيضين ، وتقديم العقل ممتنع ؛ لأن العقل قد دل على صحَّة السمع ، ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضًا للنقل ؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيءٍ من الأشياء ، فكان تقديم العقل موجبًا عدم تقديمه فلا يجوز تقديمه ، وهذا بيِّن واضح ؛ فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع ، وصحته ، وأنَّ خبره مطابق لمخبره ، فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحًا ، وإذا لم يكن دليلًا صحيحًا لم يجز أن يتبع بحال فضلاً عن أن يُقدَّم ، فصار تقديم العقل علي النقل قدحًا في العقل بانتفاء لوازمه ، ومدلوله ، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه ، والقدح فيه يمنع دلالته ، والقدح في دلالته يقدح في معارضته كان تقديمه عند المعارضة مبطلاً للمعارضة ، فامتنع تقديمه على النقل ، وهو المطلوب”[40].

وَيَقُوْلُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “فالفطر مركوز فيها معرفته ، ومحبته ، والإخلاص له ، والإقرار بشرعه ، وإيثاره على غيره فهي تعرف ذلك ، وتشعر به مجملًا ، ومفصلًا بعض التفصيل ، فجاءت الرسل تذكرها بذلك ، وتنبهها عليه ، وتفصله لها ، وتبينه ، وتعرفها الأسباب المعارضة لموجب الفطرة المانعة من اقتفائها أثرها ، وهكذا شأن الشرائع التي جاءت بها الرسل ؛ فإنها أمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وإباحة طيب ، وتحريم خبيث ، وأمر بعدل ، ونهي عن ظلم ، وهذا كله مركوز في الفطرة ، وكمال تفصيله ، وتبيينه موقوف على الرسل ، وهكذا باب التوحيد ، وإثبات الصفات ؛ فإن في الفطرة الإقرار بالكمال المطلق ؛ الذي لا نقص فيه للخالق سبحانه ، ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مما يتوقف على الرسل ، وكذلك تنزيهه عن النقائص ، والعيوب هو أمر مستقر في فطر الخلائق خلافًا لمن قال من المتكلمين أنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن النقائص ، وإنما علم بالإجماع :

قُبْحًا لِهَاتِيْكَ الْعُقُوْلِ فَإِنَّهَا … عِقَالٌ عَلَى أَصْحَابِهَا وَوَبَالٌ

فليس في العقول أبين ، ولا أجلى من معرفتها بكمال خالق هذا العالم ، وتنزيهه عن العيوب ، والنقائص ، وجاءت الرسل بالتذكرة بهذه المعرفة ، وتفصيلها ، وكذلك في الفطر الإقرار بسعادة النفوس البشرية ، وشقاوتها ، وجزائها بكسبها في غير هذه الدار ، وأما تفصيل ذلك الجزاء ، والسعادة ، والشقاوة فلا تعلم إلا بالرسل ، وكذلك فيها معرفة العدل ، ومحبته ، وإيثاره ، وأما تفاصيل العدل الذي هو شرع الرب تعالى فلا يعلم إلا بالرسل ؛ فالرسل تذكر بما في الفطر ، وتفصله ، وتبينه ولهذا كان العقل الصريح موافقًا للنقل الصحيح ، والشرعة مطابقة للفطرة ؛ يتصادقان ، ولا يتعارضان ؛ خلافًا لمن قال : إذا تعارض العقل ، والوحي قدمنا العقل على الوحي :

فَقُبْحًا لِعَقْلٍ يَنْقُضُ الْوَحْيُّ حُكْمَهُ … وَيَشْهَدُ حَقًّا أَنَّهُ هُوَ كَاذِبُ “[41].

ثَالِثًا : الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِيْ تَأْوِيْلِهِمْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى ،

قد تقدم في الحلقات السابقة نقول عن العلماء في الرد على مؤولة الصفات ، الذين أخرجوها عن ظاهرها ، وجعلوا لها معان مجازية ، أو أنهم أبقوا ألفاظها كما هي ، دون التعرض لمعناها المعروف من لغة العرب ، وفي هذا الفقرة سوف نزيد النقل عن العلماء الذين ردوا على الأشاعرة ، وعن من أخذوا عنهم ؛ من الجهمية ، والمعتزلة ،

ومن أقوال أهل العلم في ذلك :

يَقُوْلُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ : “وقلنا للجهمية حين زعموا أن الله في كل مكان لا يخلو منه مكان ، فقلنا : أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: ١٣٤] ، لِمَ يتجلى للجبل إن كان فيه بزعمهم ؟! فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن يتجلى لشيء هو فيه ، ولكن الله -جل ثناؤه- على العرش ، وتجلى لشيء لم يكن فيه ، ورأى الجبل شيئًا لم يكن رآه قبل ذلك ، وقلنا للجهم : فالله نور ؟ فقال : هو نور كله ، فقلنا : فالله قال : {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: ٦٩] ، فقد أخبر الله -جل ثناؤه- أن له نورًا ، فقلنا: أخبرونا حين زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور ، فلِمَ لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إن زعمتم أن الله في كل مكان ؟! وما بال السراج إن أدخل البيت يضيء ؟! فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى ، فرحم الله من عقل عن الله ، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول العلماء ، وهو قول المهاجرين ، والأنصار ، وترك دين الشيطان ، ودين جهم ، وشيعته”[42]،

وَيَقُوْلُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:311ه) : “قد بين الله عز وجل في محكم تنزيله الذي هو مثبت بين الدفتين أن له وجهًا ، وصَفَه بالجلال ، والإكرام ، والبقاء ، فقال جل وعلا : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن:27] ، ونفى ربنا جل وعلا عن وجهه الهلاك في قوله : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[القصص:88] ، وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية نفسه التي أضاف إليها الجلال بقوله : {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن:78] ، وزعمت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام لا الوجه!! ، قال أبو بكر : أقول ، وبالله توفيقي : هذه دعوى يدعيها جاهل بلغة العرب ؛ لأن الله جل وعلا قال : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، فذكر الوجه مضمومًا في هذا الموضع مرفوعًا ، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه ، ولو كان قوله : {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} مردودًا إلى ذكر الرب في هذا الموضع لكانت القراءة : ذي الجلال والإكرام ، مخفوضًا كما كان الباء … ، فتفهموا يا ذوي الحجا هذا البيان ، الذي هو مفهوم في خطاب العرب ، ولا تغالطوا ، فتتركوا سواء السبيل ، وفي هاتين الآيتين دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله ، صفات الذات ، لا أن وجه الله هو الله ، ولا أن وجهه غيره ، كما زعمت المعطلة الجهمية”[43]،

وَقَالَ أَبُوْ نَصْرٍ السِّجْزِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:444ه): “في التدليل على أنّ مقالة الكلابية ، وأضرابهم مؤدية إلى نفي القرآن أصلاً ، وإلى التكذيب بالنصوص الواردة فيه والرد لصحيح الأخبار ، ورفع أحكام الشريعة ، لا خلاف بين المسلمين أجمع في أن القرآن كلام الله عز وجل ، وأنه الكتاب المنزل بلسان عربي مبين ، الذي له أوَّل ، وآخر … ،

وقال أبو محمد بن كلاب ومن وافقه ، والأشعري ، وغيرهم : «القرآن غير مخلوق ، ومن قال بخلقه كافر ، إلا أن الله لا يتكلم بالعربية ، ولا بغيرها من اللغات ، ولا يدخل كلامه النظم ، والتأليف ، والتعاقب ، ولا يكون حرفاً ، ولا صوتاً» ، فقد بان بما قالوه أن القرآن الذي نفوا الخلق عنه ليس بعربي ، وليس له أول ولا آخر ، ومنكر القرآن العربي وأنه كلام الله كافر بإجماع الفقهاء ، ومثبت قرآن لا أول له ، ولا آخر كافر بإجماعهم ، ومدعي قرآن لا لغة فيه جاهل غبي عند العرب ، لأن القرآن اسم لكتاب الله عز وجل العربي ، مختص به عند كثير من العلماء …

وقول الأشعري : «إنّ كلام الله شيء واحد، لا يدخله التبعيض» ؛ فإذا قال : «إن الله أفهم موسى كلامه» : لم يخل أمر من أن يكون قد أفهمه كلامه مطلقاً ، فصار موسى عليه السلام عالماً بكلام الله ، حتى لم يبق له كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه ، وفي ذلك اشتراك مع الله في علم الغيب ، وذلك كفر بالاتفاق ، وفيه أيضاً رد لقول الله عز وجل : {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}[المائدة:116] ،  فبيَّن أن الرسل عليهم السلام لا يعلمون ما في نفسه عز وجل ، والأشعري يقول:«إن الكلام معنى قائم بنفس ليس بلغة ولا حرف»  ، فإذا فهمه موسى صار عالماً لما في نفس الله ، وذاك غير جائز بالاتفاق ، ثم إذا لم يكن الكلام حرفاً ، ولا صوتاً ، وكان معنى قائماً بالنفس ، فهو والإرادة شيء واحد ، وإن قالوا : أفهمه ما شاء من كلامه ، رجعوا إلى التبعيض الذي يكفِّرون به أهل الحق ، ويخالفون فيه نص الكتاب حيث قال الله سبحانه : {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}[الرعد:36] ، وقال : {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}[البقرة:58]”[44].

وَيَقُوْلُ اِبْنُ بَطَّةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:387ه) : “فمن أنكر أن الله كلم موسى كلامًا بصوت تسمعه الآذنان ، وتعيه القلوب ، لا واسطة بينهما ، ولا ترجمان ، ولا رسول ، فقد كفر بالله العظيم ، وجحد بالقرآن ، وعلى إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن تاب ، ورجع عن مقالته ، وإلا ضرب عنقه ، فإن لم يقتله الإمام ، وصح عند المسلمين أن هذه مقالته ففرض على المسلمين هجرانه ، وقطيعته ، فلا يكلمونه ، ولا يعاملونه ، ولا يعودونه إذا مرض ، ولا يشهدونه إذا مات ، ولا يصلى خلفه ، ومن صلى خلفه أعاد الصلاة ، ولا تقبل شهادته ، ولا يزوج ، وإن مات لم ترثه عصبته من المسلمين إلا أن يتوب”[45]،

 وَيَقُوْلُ قَوَّامُ السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللهُ -ناقلاً عن ابن منده رحمه الله قوله- : “إن ‌الأخبار ‌في ‌صفات ‌الله ‌عز ‌وجل ‌جاءت ‌متواترة ‌عن ‌النبي صلى الله عليه وسلم‌ ، موافقة لكتاب الله عز وجل ، فنقلها الخلف عن السلف قرنًا بعد قرن ؛ من لدن الصحابة ، والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل : إثبات الصفات لله ، والمعرفة ، والإيمان به ، والتسليم لما أخبر الله به فـي تنـزيـله ، وبينـه الرسـول عـن كتابه ، مع اجتناب التأويل ، والجحود ، وترك التمثيل ، والتكييف ، وأنه عز وجل أزلي بصفاته ، وأسمائه التي وصف بها نفسه ، ووصفه الرسول صلى الله عليه وسلم ،‌ غير زائلة عنه ، ولا كائنة دونه ، فمن جحد صفة من صفاته بعد الثبوت كان بذلك جاحدًا ، ومن زعم أنها محدثة لم تكن ثم كانت على أي معنى تأوله دخل في حكم التشبيه بالصفات ؛ التي هي محدثة فـي الـمخـلوق ، زائـلة بفنـائه ، غير باقية ، وذلك أن الله عز وجل امتدح نفسه بصفاته تعالى ، ودعا عباده إلى مدحه بذلك ، وصدق المصطفى -صلى الله عليه وسلم-‌ وبين مراد الله فيما أظهر لعباده من ذكر نفسه وأسمائه ، وصفاته ، وكان ذلك مفهومًا عند العرب ، غير محتاج إلى تأويله”[46]،

وَيَقُوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “ولم يقل أحد منهم : أن القرآن قديم ، وأول من شهر عنه أنه قال ذلك هو ابن كلاب ، وكان الإمام أحمد يحذر من الكلابية ، وأمر بهجر الحارث المحاسبي لكونه كان منهم ، وقد قيل عن الحارث أنه رجع في القرآن عن قول ابن كلاب ، وأنه كان يقول إن الله يتكلم بصوت ، وممن ذكر ذلك عنه الكلاباذي في كتاب التعرف لمذهب التصوف”[47].

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “والإمام أحمد بن حنبل ، وغيره من أئمة السنة كانوا يحذرون عن هذا الأصل الذي أحدثه ابن كلاب -وهو الفرق بين الصفات اللازمة ؛ كالحياة ، وأنها قائمة بالله ، بخلاف الصفات الاختيارية ؛ كالنزول ، والاستواء- ويحذرون عن أصحابه ، وهذا هو سبب تحذير الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي ، ونحوه من الكلابية ، … ، ولما ظهر هؤلاء ظهر حينئذ من المنتسبين إلى إثبات الصفات من يقول : إن الله لم يتكلم بصوت، فأنكر أحمد ذلك ، وجهَّم من يقوله ، وقال:  هؤلاء الزنادقة إنما يدورون على التعطيل ، وروى الآثار في أن الله يتكلم بصوت”[48].

 وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “وأما قوله : «وقوم نحوا إلى أنه-أي القرآن- قديم لا بصوت ، ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله، وهم الأشعرية»؛ فهذا صحيح ، ولكن هذا القول أول من قاله فى الإسلام عبدالله بن كلاب ؛ فان السلف ، والأئمة كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات ، والأفعال المتعلقة بمشيئته ، وقدرته ، والجهمية تنكر هذا ، وهذا ، فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة ، وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته ، وقدرته ، وجاء أبو الحسن الأشعري بعده ، وكان تلميذًا لأبى على الجبائي المعتزلى ، ثم إنه رجع عن مقالة المعتزلة ، وبين تناقضهم في مواضع كثيرة ، وبـالغ فـي مخالفـتهم في مسائل القدر ، والإيمان ، والوعد ، والوعيد ، حتى نسبوه بذلك إلى قول المرجئة ، والجبرية ، والواقفة ، وسلك في الصفات طريقة ابن كلاب ، وهذا القول في القرآن هو قول ابن كلاب في الأصل ، وهو قول من اتبعه كالأشعرى وغيره”[49]،

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “فقول ربيعة ومالك : «الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول» موافقٌ لقول الباقين : «أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف» ، فإنما نفوا علم الكيفية ، ولم ينفوا حقيقة الصفة ، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا : «الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول» ، ولما قالوا : «أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف» ، فإن الاستواء حينئذٍ لا يكون معلومًا ، بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم ،

وأيضًا : فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى ، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.

وأيضًا : فإن من ينفي الصفات الخبرية ، أو الصفات مطلقًا لا يحتاج أن يقول : بلا كيف ، فمن قال : إن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش ، لا يحتاج أن يقول : بلا كيف ، فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا : بلا كيف.

وأيضًا : فقولهم : «أمِرُّوها كما جاءت» يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه ، فإنها جاءت ألفاظًا دالة على معاني ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمِرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد ، أو أمِرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يُوصف بما دلت عليه حقيقة ، وحينئذ فلا تكون قد أُمِرّت كما جاءت ، ولا يقال حينئذ : بلا كيف ، إذ نفي الكيفية عما ليس بثابت لغوٌ من القول”[50].

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “هؤلاء أهل التضليل ، والتجهيل الذين حقيقة قولهم : إن الأنبياء جاهلون ضالون ، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه ؛ مــن الآيــات ، وأقوال الأنبيـاء ، ثم هؤلاء منهم من يقول : المراد بها خلاف مدلولها الظاهر ، والمفهوم ، ولا يعرف أحد من الأنبياء ، والملائكة ، والصحابة ، والعلماء ما أراد الله بها ، كما لا يعلمون وقت الساعة، ومنهم من يقول : بل تجري علي ظاهرها ، وتحمل على ظاهرها ، ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله ، فيـتناقـضـون حيـث أثبتـوا لهـا تأويـلًا يخالـف ظـاهـرها ، وقالوا -مع هذا- إنها تحمل عــلى ظـاهرها”[51].

وَيَقُوْلُ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله حي بحياة ، عليم بعلم ، قدير بقدرة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، متكلم بكلام ، مريد بإرادة ، ويجعل ذلك كله حقيقة ، وينازع في محبته ، ورضاه ، وغضبه ، وكراهيته ، فيجعل ذلك مجازًا ، ويفسره ؛ إما بالإرادة ، وإما ببعض المخلوقات من النعم ، والعقوبات ، قيل له : لا فرق بين ما نفيتَه ، وبين ما أثبتَّه ، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر ،

فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين ، فكذلك محبته ، ورضاه ، وغضبه ، وهذا هو التمثيل ، وإن قلت : له إرادة تليق به ، كما أن للمخلوق إرادة تليق به ، قيل لك : وكذلك له محبة ، تليق به ، وللمخلوق محبة تليق به ، وله رضا ، وغضب يليق به ، وللمخلوق رضا ، وغضب يليق به ، وإن قال : الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق. قيل لك: وهذا غضب المخلوق .

وكذلك يُلْزَم بالقول في : كلامه ، وسمعه ، وبصره ، وعلمه ، وقدرته ، إن نفى عن الغضب ، والمحبة ، والرضا ، ونحو ذلك ما هو من خصائص المخلوقين ، فهذا منتف عن السمع ، والبصر ، والكلام ، وجميع الصفات ،

وإن قال : إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه ، قيل له : وهكذا : السمع ، والبصر ، والكلام ، والعلم، والقدرة .

فهذا المفرِّق بين بعض الصفات وبعض ، يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته ، فإذا قال المعتزلي : ليس له إرادة ، ولا كلام قائم به ، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات ، فإنه يُبَيِّن للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم ، ولا تكون كصفات المحدثات ، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة ، والرضا ، ونحو ذلك”[52]،

وَيَقُوْلُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “التأويل شر من التعطيل ؛ فإنه يتضمن التشبيه ، والتعطيل ، والتلاعب بالنصوص ، وإساءة الظن بها ؛ فإن المعطل ، والمؤول قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات ، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص ، وانتهاكه لحرمتها ، وإساءة الظن بها ، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال ، والإضلال ، فجمعوا بين أربعة محاذير :

[المحذور الأول] : اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ، ورسوله المحال الباطل ففهموا التشبيه أولا ، ثم انتقلوا عنه إلى :

المحذور الثاني : وهو التعطيل ، فعطلوا حقائقها ؛ بناء منهم على ذلك الفهم الذي يليق بهم ، ولا يليق بالرب جل جلاله .

المحذور الثالث : نسبة المتكلم الكامل العلم ، الكامل البيان ، التام النصح إلى ضد البيان ، والهدى ، والإرشاد ، وإن المتحيرين المتهوكين أجادوا العبادة في هذا الباب ، وعبروا بعبارة لا توهم من الباطل ما أوهمته عبارة المتكلم بتلك النصوص ، ولا ريب عند كل عاقل أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلم منه ، أو أفصح ، أو أنصح للناس .

المحذور الرابع : تلاعبهم بالنصوص ، وانتهاك حرماتها ، فلو رأيتها ، وهم يلوكونها بأفواههم ، وقد حلت بها المثلات ، وتلاعبت بها أمواج التأويلات ، وتقاذفت بها رياح الآراء ، واحتوشتها رماح الأهواء ، ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد ، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويلات ما يريد ، فلو شاهدتها بينهم ، وقد تخطفتها أيدي الاحتمالات ، ثم قيدت بعدما كانت مطلقة بأنواع الإشكالات ، وعزلت عن سلطنة اليقين ، وجعلت تحت حكم تأويل الجاهلين ، هذا وطالما نصبت لها حبائل الإلحاد ، وبقيت عرضة للمطاعن ، والإفساد ، وقعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها ، والأعجاز ، وقالوا لا طريق لك علينا ، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز ، فنحن أهل المعقولات ، وأصحاب البراهين ، وأنت أدلة لفظية ، وظواهر سمعية ، لا تفيد العلم ، ولا اليقين ، فسندك آحاد ، وهو عرضة للطعن في الناقلين ، وإن صح ، وتواتر ؛ ففهم مراد المتكلم منه موقوف على انتفاء عشرة أشياء لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند الناظرين ، والباحثين”[53] ،

وَيَقُوْلُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “أما السلف فيثبتون لله تعالى أكثر من هذه الصفات ، أكثر من سبع ، أكثر من سبعين صفة ، يثبتونها لله يثبتون لله كل ما وصف به نفسه من الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والإرادة ، والكلام ، والحفظ ، والرضا ، والغضب ، وغير ذلك ، مما وصف الله به نفسه ، لكن الأشاعرة لا يثبتون إلا هذه الصفات السبع فقط ، لماذا ؟

الجواب :

قالوا : لأن هذه الصفات السبع دل عليها العقل ، فأثبتناها ؛ لدلالة العقل عليها ، وأما ما سواها فإن العقل لا يدل عليها ، فيجب أن نؤول ، قيل لهم : اشرحوا لنا كيف دل عليها العقل؟

قالوا : الإيجاد دل على القدرة ، فإيجاد الأشياء يدل على قدرة الموجد ، وهو الله عز وجل ، وأشياء موجودة ، وإحكام هذه الأشياء ؛ إحكامها خلقاً ، وصنعاً يدل على العلم ؛ لأن الجاهل لا يحكم الشيء ، بقي الإرادة ، التخصيص يدل على الإرادة ، يعني : كون هذا ذكر ، وهذه أنثى ، وهذه شمس ، وهذا قمر ، وهذه أرض ، وهذه سماء ، يدل على الإرادة ، أراد الله أن يكون السماء سماءً فكان ، أن تكون الأرض أرضاً فكانت ، أن يكون الإنسان إنساناً فكان ، أن يكون البعير بعيراً فكان ، فالتخصيص يدل على الإرادة .

كم هذه من صفات ؟ ثلاث ، قالوا : وهذه الصفات الثلاث لا تقوم إلا بحي ؛ أي : من لازم المتصف بهذه الصفات الثلاث أن يكون حياً ، فنثبت الحياة ، فتكون الصفات الآن أربعة ، ثم يقولون : إذا ثبت أنه حي فإما أن يتصف بالسمع ، والبصر ، والكلام  ،أو بضد ذلك ، وضد ذلك ممتنع ، لأن ضد السمع الصمم ، وضد الكلام الخرس ، وضد البصر العمى ، وهذه الصفات صفات عيب لا يمكن أن يتصف بها الخالق ، هذا وجه دلالة العقل على هذه الصفات السبع ، الرحمة ؟ قالوا : ما فيه رحمة ، الرضى ؟ قالوا : ما فيه رضى ، الحكمة ؟ ما فيه حكمة ،
الوجه ؟ ما فيه وجه ، اليدان ؟ ما فيه يدان ، كيف ؟ قالوا : لأن هذه الصفات لا يدل عليها العقل ، وإذا لم يدل عليها العقل فإنه لا يمكن أن نثبتها لله عز وجل
كيف نجيبهم ؟

نجيبهم بثلاثة أدلة  :

أولاً : أن الرجوع إلى العقل في هذه الأمور باطل ؛ شرعاً ، وعقلاً :

أما الشرع :  

 فقال الله تعالى : {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]  .
وقال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوْا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُوْلُوْا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُوْنَ}[الأعراف:33]  .
وأما بطلانه عقلاً  :

فلأن هذه الأمور من الأشياء التي تتلقى بالخبر ؛ لأن الخالق عز وجل ليس كمثل الخلق ، فلا يجوز عليه ما يجوز عليهم ، ولا يمتنع عليه ما يمتنع عليهم ، ولا يجب له ما يجب لهم ، فهو مخالف للخلق ، وإذا كان مخالفًا للخلق ، فهل يحكم الخلق عليه بعقولهم ؟ الجواب : لا ، كيف تحكم عليه ، لا شاهدت الله ، ولا شاهدت نظيراً له ، فكيف تحكم عليه بالعقل ؟ فكان في الشرع والعقل ما يبطل الاعتماد على العقل في هذه الأمور ، ثم نقول : ثانياً : هب أن العقل لا يدل على سوى هذه الصفات السبع ، فقد دل عليها الشرع ، وتعدُّد الدليل جائزٌ عقلاً ، وواقعاً ، فإذا انتفى أحد الدليلين ثبت المدلول بالدليل الآخر ، لأن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول ، فقد يكون للمدلول دليلٌ آخر غير الدليل الذي انتفى ، فإذا فرضنا جدلاً أن العقل لا يدل على هذه الصفات ، فإن الشرع دل عليها ، وإذا دل عليها وجب إثباتها بدلالة الشرع ؛ لأن الشيء قد يكون له أكثر من دليل ، فإذا انتفى الدليل المعين قام الدليل الثاني مقامه ؛ لأن بعض الأشياء تتعدد أدلته .

الوجه الثالث : أننا يمكننا أن نثبت بالعقل ما نفيتم أن العقل دال عليه أي أننا نستدل بالعقل كما استدللتم بالعقل ، ونقول : ما نفيتموه قد دل عليه العقل
مثال ذلك : هذه النعم التي نشاهدها ، وهذه النقم التي تندفع عنا مع وجود أسبابها تدل على الرحمة ، فنزول المطر من آثار الرحمة ، ونبات الأرض من آثار الرحمة ، والنوم والراحة من آثار الرحمة ، والعلم ، والرزق من آثار الرحمة ، كل ما بنا من نعمه فهي من آثار الرحمة ، كل ما بنا من نعمة فهو من آثار الرحمة ، ودلالة هذه الأشياء على الرحمة عقلاً أوضح ، وأبين من دلالة التخصيص على الإرادة ، لأن دلالة هذه الأشياء على الرحمة واضحةً للعامي ، والعالم ، ودلالة التخصيص على الإرادة لا يفهمها إلا شخصٌ عالم ، وأنتم الآن لولا أنكم عرفتم ذلك من كتب أهل العلم ما عرفتم كيف تستدلون بالتخصيص على الإرادة، ونقول : إثبات الطائعين وتعلية منازلهم دليل على الرضا عنهم ، لأنه لو كرههم لعاقبهم ، وانتقامه تعالى من المجرمين يدل على الغضب ، {فَلَمَّا آسَفُوْنَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}[الزخرف:55] ، فالمهم أن ما ذكروا أن العقل لا يدل عليه ، فإنه يمكننا أن نثبته نحن بدلالة العقل ، وحينئذِ نجيبهم بثلاثة أجوبة .

وإثبات الأشاعرة لهذه الصفات السبع ليس كإثبات أهل السنة لها يختلف ، فمن ذلك مثلاً : الكلام : الكلام عند أهل السنة ليس هو الكلام عند الأشاعرة ، سبق أن الأشاعرة قالوا في الكلام قولاً لا يقوله من له عقل ، بل قالوا قولاً حقيقته نفي الكلام، لأنهم قالوا : أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ، والمسموع عبارة عن هذا الكلام خلقه الله ليعبر عما في نفسه ، … ، حتى -أيضاً- السمع ، والبصر ؛ يختلف إثباتها لها عن إثبات أهل السنة ، والجماعة”[54].

التَّعْلِيْقُ :

نثبت -بعد هذا التطواف الطويل من نقول أهل العلم الأثبات- أن تأويل الصفات ، أو تفويضها ليسا من الإسلام في شيء ، بل هما معول هدم ؛ للصد عن سبيل الله القويم ، ” فلا إله إلا الله ، والله أكبر ، كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان ، وثلمت بها حصون حقائق السنة ، والقرآن ، وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كل جاهل أخرق ، ومنافق أرعن ، وطرقت لأعداء الدين الطريق ، وفتحت الباب لكل مبتدع ، وزنديق!!

ومن نظر في التأويلات المخالفة لحقائق النصوص رأى من ذلـك مـا يضـحـك عجـبًا ، ويبـكي حزنًا ، ويثير حـميـة للنصـوص ، وغضبًـا ، قد أعاد عذب النصوص ملحًا أجاجًا ، وخرجت الناس من الهدى ، والعلم أفواجًا ، فتحيزت كل طائفة إلى طاغوتها ، وتصادمت تصادم النصارى في شأن ناسوتها ، ولاهوتها ، ثم تمالأ الكل على غزو جند الرحمن ، ومعاداة حزب السـنة ، والقـرآن ، فتداعوا إلى حربهم تداعي الأكلة إلى قصعتها ، وقالوا : نحن وإن كنا مختلفين فإنا على محاربة هذا الجند متفقون ، فميلوا بنا عليهم ميلة واحدة ، حتى تعود دعوتهم باطلة ، وكلمتهم خامدة ، وغر المخدوعين كثرتهم التي ما زادتهم عند الله ورسوله وحزبه إلا قلة ، وقواعدهم التي ما زادتهم إلا ضلالًا وبعدًا عن الملة ، وظنوا أنهم بجموعهم المعلولة يملأون قلوب أهل السنة إرهابا منهم ، وتعظيما ، {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب22] ، وأنت إذا تأملت تأويلات القرامطة ، والملاحدة ، والفلاسفة ، والرافضة ، والقدرية ، والجهمية ، ومن سلك سبيل هؤلاء من المقلدين لهم في الحكم ، والدليل ترى الإخبار بمضمونها عن الله ، ورسوله لا يقصر عن الإخبار عنه بالأحاديث الموضوعة المصنوعة ؛ التي هي مما عملته أيدي الوضاعين ، وصاغته ألسنة الكذابين ، فهؤلاء اختلقوا عليه ألفاظًا وضعوها ، وهؤلاء اخـتلقـوا فـي كـلامـه مـعـانـي ابتـدعـوهـا ، فـيا محـنة الكتاب ، والسنة بين الفريقين ، وما نازلة نزلت بالإسلام إلا من الطائفتين!! فهما عدوان للإسلام كائدان ، وعن الصراط المستقيم ناكبان ، وعن قصد السبيل جائران ، فلو رأيت ما يصرف إليه المحرفون أحسن الكلام ، وأبينه ، وأفصحه ، وأحقه بكل هدى ، وبيان ، وعلم من المعاني الباطلة ، والتأويلات الفاسدة لكدت تقضي من ذلك عجبًا ، وتتخذ في بطن الأرض سـربًـا ؛ فتـارة تـعـجـب ، وتـارة تـغـضـب ، وتـارة تبـكي ، وتـارة تضـحـك ، وتـارة تـتـوجـع لـما نزل بالإسلام ، وحل بساحة الوحي ممن هم أضل من الأنعام”[55].

(2)

أما ما نقله داعية الأشاعرة “العرفج” عن تاج الدين السبكي قوله : إن أصحاب المذاهب كلهم أشاعرة إلا من لحق منهم بتجسيم ، أو اعتزال ، فهذا منه -إن صح- حق ؛ لأن الحق عزيز ، وأهله غرباء ، والغرباء : “نَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ ، فِي نَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ”[56]، وقد حمى الله أهل السنة -والفضل له- من أي تجسيم -مفترى عليهم- أو اعتزال.

نُكْمِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ فِيْ الْحَلْقَةِ التَّالِيَةِ .



([1]) مشكل الحديث وبيانه ، ص : (5) .

([2]) الإرشاد ، ص : (100) .

([3]) أساس التقديس ، ص : (200) .

([4]) أساس التقديس ، ص : (130) .

([5]) المنخول ، ص : (122) .

([6]) المستصفى (2/137-138) .

([7]) انظر : مقالات الإسلاميين ؛ للأشعري ، ص : (584) .

([8]) الإنصاف ، ص : (111) .

([9]) أصول الدين ، ص : (76) .

([10]) الأسماء والصفات ، ص : (514) .

([11]) العقيدة النظامية ، ص : (23) .

([12]) الإرشاد ، ص : (117) .

([13])  الاقتصاد في الاعتقاد ؛ ص : (142-174) .

([14]) أساس التقديس ، ص : (130) .

([15]) كتاب الأربعين في أصول الدين ؛ ص : (177) .

([16]) غاية المرام في علم الكلام ، ص : (137-138) .

([17]) انظر : تعارض العقل والنقل ؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/270) ، (2/6) ، وشرح الأصفهانية له ، ص : (107-108) .

([18]) انظر : تعارض العقل والنقل ؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/6) .

([19]) سير أعلام النبلاء (14/380) .

(20) نونية القحطاني ، ص : (54) .

([21]) جامع بيان العلم وفضله (2/96) .

(22) ذم الكلام (4/424) .

(23) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الصوت والحرف ، ص : (346) .

(24) درء التعارض (2/96) .

(25) الرسالة الواضحة في الرد على الأشاعرة (2/452) .

([26]) ذيل طبقات الحنابلة (2/156) . 

([27]) درء تعارض العق والنقل (6/183) .

([28]) مجموع الفتاوى (2/50-51) .

([29]) حاشية كتاب : لوامع الأنوار البهية (1/73) .

([30]) الرسالة ، ص : (457) .

([31]) الرسالة ، ص : (438) .

([32]) جامع بيان العلم وفضله (2/943) .

([33])  الكفاية في علم الرواية  ، ص : (72) .

([34]) مختصر الصواعق المرسلة ، ص : (605) .

([35]) مختصر الصواعق المرسلة ، ص : (751) .

([36]) مختصر الصواعق المرسلة ، ص : (586) .

([37]) أصول السنة ، ص : (15-16) .

([38]) الحجة في بيان المحجة (1/347-348) .

([39]) الرسالة العرشية ، ص : (35) .

([40]) درء تعارض العق والنقل (1/170) .

([41]) شفاء العليل ، ص: (301-302) .

([42]) الرد على الزنادقة ، والجهمية ، ص : (170-171) .

([43]) التوحيد ؛ لابن خزيمة (1/51) .

([44]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت ، ص : (151-167) .

([45]) الإبانة الكبرى (6/303) .

([46]) الحجة في بيان المحجة (1/101-102) .

([47]) مجموع الفتاوى (5/533) .

([48]) مجموع الفتاوى (12/368) .

([49]) مجموع الفتاوى (12/368) .

([50]) الفتوى الحموية ، ص : (314-315) .

([51]) درء تعارض العقل والنقل (1/16) .

([52]) التدمرية ، ص : (35) .

([53]) الصواعق المرسلة (1/296-298) .

([54]) شرح العقيدة السفارينية (1/200) .

([55]) الصواعق المرسلة (1/298-301) .

([56]) رواه الطبراني في الكبير (14178) .

%d مدونون معجبون بهذه: