القائمة إغلاق

“الرَّدُّ الْعِلْمِيُّ الْمُخْتَصَرُ”

رُدُوْدٌ عِلْمِيَّةٌ مُخْتَصَرَةٌ ، أَتَنَاوَلُ فِيْهَا -أُسْبُوْعِيًّا- كِتَابًا ، أَوْ مَقَالًا ، أَوْ مُحْتَوًى مِنْ مُحْتَوَيَاتِ شَبَكَاتِ التَّوَاصُلِ ؛ مِمَّا يُنْتِجُهُ الْمُخَالِفُوْنَ ؛ سَوَاءً كَانُوْا مُبْتَدِعَةً مُحْدِثِيْنَ ، أَوْ لِيِبْرَالِيِّيْنَ ضَالِّيْنَ ، أَوْ مَنْ جَانَبَهُ الصَّوَابُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُوَحِّدِيْنَ .

نسخة رقمية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ ، وَعَلَى آلِهِ ، وَصَحَابَتِهِ ، وَالتَّابِعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :

الرَّدُّ الثَّالِثُ :

عَلَى مَقْطَعٍ صَوْتِيٍ بِعُنْوَانِ : “الدُّرُوْسُ الرَّمَضَانِيَّةُ”؛

[الدَّرْسُ الخَّامِسَ عَشَرَ][1].

لِمُلْقِيْهَا : عَبْدِ الْحَمِيْدِ الْمُبَارَكٍ الْأَحْسَائِيِّ الْمَالِكِيِّ .

-(1)-

وَبَعْدَ اِطْلِاعِي عَلَى هَذِا الدَّرْسِ -فِيْ الْمَوْضِعِ الْمَذْكُوْرِ- خَرَجْتُ مِنْهُ بِمُلَاحَظَاتٍ ، مِنْ أَهَمِّهَا مَا يَلِي :

1] تَجْوِيْزُهُ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى قَبْرِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزِيَارَتِهِ ، وَذَكَرَ :

أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُوْرِ الْأُمَّةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِيْ ذَلِكَ خِلَافًا ، وَلَمْ يَشُذُّ فِيْ ذَلِكَ إِلَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ[2]، وَهَذَا مِنْهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ ، وَلَا شَكَّ ، فَلَيْسَ فِيْ الْمَسْأَلَةِ إِجْمَاعٌ ، وَلَا اِتْفَاقٌ ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ،

قَالَ اِبْنُ بَطَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “وَمِنَ الْبِدَعِ الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُوْرِ ، وَتَجْصِيْصُهَا ، وَشَدُّ الرَّحْلِ إِلَى زِيَارَتِهَا”[3].

وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : “وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شَدِّ الرِّحَالِ ، وَإِعْمَالِ الْمَطِيِّ إِلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ كَالذَّهَابِ إِلَى قُبُورِ الصَّالِحِينَ ، وَإِلَى الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : هُوَ حَرَامٌ ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ …”[4].

وَقَالَ اِبْنُ قُدَامَةَ رَحِمَهُ اللهُ : “فَصْلٌ : حُكْم الْقَصْر إذَا سَافَرَ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ ، وَالْمَشَاهِدِ ، …

فَإِنْ سَافَرَ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ ؛ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا يُبَاحُ لَهُ التَّرَخُّصُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَالصَّحِيحُ إبَاحَتُهُ ، وَجَوَازُ الْقَصْرِ فِيهِ”[5]،

وَقَالَ اِبْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ : “وَاخْتُلِفَ فِي شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى غَيْرِهَا ؛ كَالذَّهَابِ إِلَى زِيَارَةِ الصَّالِحِينَ ؛ أَحْيَاءً ، وَأَمْوَاتًا ، وَإِلَى الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ ؛ لِقَصْدِ التَّبَرُّكِ بِهَا ، وَالصَّلَاةِ فِيهَا ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ : يَحْرُمُ شَدُّ الرِّحَالِ إِلَى غَيْرِهَا ؛ عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَأَشَارَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ ، وَبِهِ قَالَ عِيَاضٌ ، وَطَائِفَةٌ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ إِنْكَارِ بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ خُرُوجَهُ إِلَى الطُّورِ ، وَقَالَ لَهُ : «لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مَا خَرَجْتُ»[6]، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ ، وَوَافَقَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ”[7]،

وَقَالَ الصَّنْعَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : “ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْمَسَاجِدِ هَذِهِ ، وَدَلَّ بِمَفْهُومِ الْحَصْرِ أَنَّهُ يُحَرَّمُ شَدُّ الرِّحَالِ لِقَصْدِ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ ؛ كَزِيَارَةِ الصَّالِحِينَ أَحْيَاءً ، وَأَمْوَاتًا ، لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ ، وَلِقَصْدِ الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ ، لِقَصْدِ التَّبَرُّكِ بِهَا ، وَالصَّلَاةِ فِيهَا ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَطَائِفَةٌ … “[8]،

فَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَ فِيْهَا اِتْفِاقٌ -يَا عَبْدَ الْحَمِيْدِ- فَلِمَاذَا هَذِهِ الْمُجَازَفَةُ ، وَالتَّهْوِيْلُ ؟! وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ أَنْ تَكُوْنَ صَادِقًا أَمْيْنًا فِيْ نَقْلِ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، هَدَاكَ اللهُ ، وَأَصْلَحَكَ !!

مَعَ أَنَّ الصَّحِيْحَ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الْمَنْعُ مِنْ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَّا إِلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَسِيْلَةٌ إِلَى الشِّرْكِ ، وَالْأَصْلُ فِيْ هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ فِيْ الْحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ : « لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ … الْحَدِيْثَ»[9]،

وَمَـا قَالَـهُ عَبْدُ الْحَمِيْـدِ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى فِيْ الْحَدِيْثِ مِــنْ جِنْــسِ الْمُسْتَثْنـَى مِنْهُ فَلَيْسَ بِصَحِيْحٍ ؛ فَقَدْ يَكُوْنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ؛ وَهُوَ جَائِزٌ فِيْ اللُّغَةِ ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْاِسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ ، وَمِنْهُ :

قَوْلُهُ تَعَالَى : {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}[الواقعة:25-26] ،

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ،

وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ ؛ فَالْمَنْعُ حَاصِلٌ مِنْ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى الْقُبُوْرِ ، وَالْمَشَاهَدِ ، وَحُذِفَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، وقُدِّر -وَاللهُ أَعْلَمُ- لِإِرَادَةِ عُمُوْمِ الْأَمَاكِنِ ، أَوْ عُمُوْمِ الْمَسَاجِدِ ، فـَ:

عَلَى تَقْدِيْرِ جَوَازِ أَنْ يَكُوْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَكُوْنُ الْمَعْنَى : مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَشُدُّوْا الرِّحَالَ -لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ ، وَالْعِبَادَةِ- لِمَسْجِدٍ ، أَوْ قَبْرٍ ، أَوْ أَيِّ بُقْعَةٍ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَسَاجِدِ .

وَعَلَى تَقْدِيْرِ وُجُوْبِ أَنْ يَكُوْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَكُوْنُ الْمَعْنَى : مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَشُدُّوْا الرِّحَالَ -لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ ، وَالْعِبَادَةِ- لِمَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَسَاجِدِ ، وَمَا دَامَ أَنَّ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللهِ قَدْ مُنِعَ مِنْ شَدِّ الرَّحْلِ إِلَيْهَا -حَاشَا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ- فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْأَوْلَى يكونُ شَّدُّ الرَّحْلِ إِلَى أَيِّ بُقْعَةٍ دُوْنَهَا فِيْ الْفَضْلِ مُحَرَّمٌ كَذَلِكَ[10].

وَيَجِبُ التَّنْبِيْهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَنْ قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ ، وَالْعِبَادَةَ ، مِنْ صَلَاةٍ ، أَوْ دُعَاءٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَعَلَيْهِ : لَا يَدْخُلُ فِيْهِ مَنْ شَدَّ الرِّحَالَ لِلتِّجَارَةِ ، أَوِ لِزِيَارَةِ صَدِيْقٍ ، أَوْ قَرِيْبٍ .  

2] وَأَمَّا قَوْلُهُ -عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ الْعُتْبِيِّ– : “الرِّوَايَةُ ضَعِيْفَةٌ ، مَقْبُوْلَةٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ ، لَمْ يُنْكِرْهَا إِلَّا الْمُبْتَدِعَةُ فِيْ هَذَا الْعَصْرِ” ، فَهَذَا مِنْهُ غَرِيْبٌ ، عَجِيْبٌ ، كَيْفَ تَكُوْنُ الرِّوَايَةُ ضَعِيْفَةً ، مَقْبُوْلَةً عِنْدُ الْأُمَّةِ ؟!

الرِّوَايَةُ -يَا عَبْدَ الْحَمِيْدِ- ضَعِيْفَةٌ مَرْدُوْدَةٌ ، غَيْرُ مَقْبُوْلَةٍ ، “قَدْ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِيْ كِتَابِ شُعَبِ الْإِيْمَانِ بِإِسْنَادٍ مُظْلِمٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَوْحِ بْنِ يَزِيدَ الْبَصْرِيِّ ، قَالَ : «حَدَّثَنِي أَبُو حَرْبٍ الْهِلَالِيُّ ، قَالَ : حَجَّ أَعْرَابِيٌّ ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى بَابِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ، فَعَقْلَهَا ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ حَتَّى أَتَى الْقَبْرَ ، وَوَقَفَ بِـحِذَاءِ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَـالَ : بِأَبِي أَنْتَ ، وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ ، جِئْتُكَ مُثْقَلًا بالذُّنُوبِ ، وَالْخَطَايَا ، مُسْتَشْفِعًا بِكَ عَلَى رَبِّكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}[النساء:64] ، وَقَدْ جِئْتُكَ بِأَبِي أَنْتَ ، وَأُمِّي مُثْقَلًا بالذُّنُوبِ ، وَالْخَطَايَا أَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى رَبِّكَ أَنْ يَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي ، وَأَنْ تَشْفَعَ فِيَّ …» [11]،

فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ الْمَنْكُوْرَةُ عَنِ الْأَعْرَابِيِّ مِمَّا تَقُوْمُ بِهِ حُجَّةٌ ، وَإِسْنَادُهَا مُظْلِمٌ مُخْتَلَفٌ[12]، وَلَفْظُهَا مُخْتَلَفٌ -أَيْضًا- … ، وَلَمْ يَفْهَمْ مِنْهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ -مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيْمَةِ الْوَارِدَةِ فِيْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ- إِلَّا الْمَجِيءَ إِلَيْهِ فِيْ حَيَاتِهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ، وَقَدْ ذَمَّ تَعَالَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ هَذَا الْمَجِيْءِ إِذَا ظَلَمَ نَفْسَهُ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ ، فَقَالَ تَعَالَى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}[المنافقون:5] ؛ … ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَةُ الصَّحَابَةِ مَعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَدَهُمْ مَتَى صَدَرَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّوْبَةَ جَاءَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُوْلَ اللهِ ، فَعَلْتُ كَذَا ، وَكَذَا ، فَاسْتَغْفِرْ لَيْ ، وَكَانَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ الْمُنَافِقِيْنَ ، فَلَمَّا اِسْتَأَثَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَقَلَهُ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُ يَأْتِي إِلَى قَبْرِهِ ، وَيَقُوْلُ : يَا رَسُوْلَ اللهِ ، فَعَلْتُ كَذَا ، وَكَذَا ، فَاسْتَغْفِرْ لِيْ ، وَمَنْ نَقَلَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُـمْ فَقَدْ جَاهَرَ بِالْكَذِبِ ، وَالْبُهْتِ ، أَفَتَرَى عَطَّلَ الصَّحَابَةُ ، وَالتَّابِعُوْنَ -وَهُمْ خَيْرُ الْقُرُوْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ- هَذَا الْوَاجِبَ الَّذِيْ ذَمَّ اللهُ سُبْحَانَهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ ، وَجَعَلَ التَّخَلُّفَ عَنْهُ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ ، وَوُفِّقَ لَهُ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِنَ النَّاسِ ، وَلَا يُعَدُّ فِيْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؟! وَكَيْفَ أَغْفَلَ هَذَا الْأَمْرَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَهُدَاةُ الْأَنَامِ ؛ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيْثِ ، وَالْفِقْهِ ، وَالتَّفْسِيْرِ ، وَمَنْ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِيْ الْأُمَّةِ ، فَلَمْ يَدْعُوْا إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَحُضُوْا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُرْشِدُوْا إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْبَتَةَ”([13])، وَلَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَمْ تَكُنْ حُجَّةً ؛ لِأَنَّ “ أَصْحَابَ تِلْكَ الْحِكَايَاتِ لَيْسُوْا مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ ، فَهُمْ لَيْسُوْا بِأَنْبِيَاءَ ، وَلَا صَحَابَةً ، وَلَا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِيْنَ الْمَشْهُوْرِيْنَ ، … ،

الدَّلِيْلُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُوْنَ مِنْ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِيْنَ ، وَالْفُقَهَاءِ”[14].

وَأَمَّا مَنْ نَقَلَهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ -كَابْنِ قُدَامَةَ ، وَغَيْرِهِ- أَوِ اِسْتَحْسَنَهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ تُعَارَضُ بِهَا النُّصُوْصَ الصَّحِيْحَةَ ، وَتُخَالَفُ مِنْ أَجْلِهَا عَقِيْدَةُ السَّلَفِ ، فَقَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَا هُوَ وَاضِحٌ لِغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ يُخْطِئُوْنَ فِيْ نَقْلِهِمْ ، وَرَأْيِهِمْ ، وَتَكُوْنُ الْحُجَّةُ مَعَ مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَمَا دُمْنَا قَدْ عَلِمْنَا طَرِيْقَ الصَّوَابِ فَلَا شَأْنَ لَنَا بِمَا قَالَهُ فُلَانٌ ، أَوْ حَكَاهُ فُلَانٌ ، فَلَيْسَ دِيْنُنَا مَبْنِيًّا عَلَى الْحِكَايَاتِ ، وَالْمَنَامَاتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْبَرَاهِيْنِ الصَّحِيْحَةِ …”[15]،

وَأَمَّا طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كُفْرٌ أَكْبَرُ ، مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا بَعْدَ مَا مَاتَ ، وَأَيْضًا الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ ، لَا تُطْلَبُ إِلَّا مْنْهُ ؛ جَلَّ وَعَلَا ، قَالَ تَعَالَى : {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزمر:44][16]،

“وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}[النساء:64] ، وَيَقُولُونَ : إذَا طَلَبْنَا مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ كُنَّا بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَيُخَالِفُونَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَـابَةِ ، وَالتَّـابِـعِينَ لَهـُمْ بِإِحْسَــانِ ، وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ ، وَلَا سَأَلَهُ شَيْئًا ، وَلَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُتُبِهِمْ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ ، وَحَكَوْا حِكَايَةً مَكْذُوبَةً عَلَى مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ …، فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ ، وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ ، وَفِي مَغِيبِهِمْ ، وَخِطَابِ تَمَاثِيلِهِمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الْمَوْجُودِ فِي الْمُشْرِكِينَ ؛ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَفِي مُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَحْدَثُوا مِنْ الشِّرْكِ ، وَالْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى:21][17].

-(2)-

وَأَمَّا غَمْزُكَ -يَا عَبْدَ الْحَمِيْدِ- شَيْخَ الْإِسْلَامِ اِبْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِعِبَارَاتٍ تُقَلِّلُ ، وَتُحَقِّرُ مِنْ شَأْنِهِ فَلَيْسَتْ -وَالْحَمْدُ لِلَّهِ- تَضِيْرُهُ شَيْئًا ، فَقَدْ تَتَابَعَ فِيْ الْقَدْحِ فِيْهِ -قَبْلَكَ- أُمَمٌّ مِنَ النَّاسِ مُنْذُ قُرُوْنٍ مُتَطَاوِلَةٍ ، فَلَـمْ يَظْفَرُوْا بِشَـيْءٍ ، وَلَمْ يُفْلِـحُوَا ، وَلَمْ يَنْجَـحُوْا ، بِـلْ رَجَعَتْ طُعُوْنُهُمْ فـِيْ نُحُوْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ رَجُلٌ -فِيْمَا نَحْسَبُهُ ، وَلَا نُزَكِّي عَلَى اللهِ تَعَالَى أَحَدًا- مُسَدَّدٌ ، مُوَفَّقٌ ، مَحْفُوْظٌ ، صَادِقٌ فِيْمَا يَكْتُبُ ، وَيَقُوْلُ ، رَحِيْمٌ بِالْأَنَامِ ، شَفُوْقٌ ، وَهُوَ شَيْخٌ لِلْإِسْلَامِ ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوْفٌ ، قَدْ “نَصَرَ السُّنَّةَ بِأَوْضَحِ حُجَجٍ ، وَأَبْهَرَ بَرَاهِيْنَ ، وَأُوْذِيَ فِيْ ذَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمُخَالِفِيْنَ ، وَأُخِيْفَ فِيْ نَصْرِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ ، حَتَّى أَعْلَى اللهُ مَنَارَهُ ، وَجَمَعَ قُلُوْبَ أَهْلِ التَّقْوَى عَلَى مَحَبَّتِهِ ، وَالدُّعَاءِ لَهُ ، وَكَبَتَ أَعْدَاءَهُ ، وَهَدَى بِهِ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ ، وَالنِّحَلِ ، وَجَبَل قُلُوْبَ الْمُلُوْكِ ، وَالْأُمَرَاءِ عَلَى الْاِنْقِيَادِ لَهُ -غَالِبًا- وَعَلَى طَاعَتِهِ ، أَحْيَا بِهِ الشَّامَ ، بَلْ وَالْإِسْلَامَ ، بَعْدَ أَنْ كَادَ يَنْثَلِمَ”[18]، قَدْ بَارَكَ اللهُ فِيْ عُلُوْمِهِ ، وَكُتُبِهِ فَسَارَتْ فِيْ الْأَنَامِ كَسَيْرِ الرِّيَاحِ ، فَمَا تَرَكَتْ بَيْتَ طَالِبِ عِلْمٍ -بِحَقٍّ- إِلَّا دَخَلَتْهُ ، فَأَفَادَ مِنْهَا ، وَاسْتَنَارَ ، فَلِلَّهِ دَرُّهُ مِنْ إِمَامٍ ، وَإِنِّي لَا أَرَى حَالَكَ -يَا عَبْدَ الْحَمِيْدِ- فِيْ غَمْزِكَ ، وَلَمْزِكَ شَيْخَ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ إِلَّا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :

كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمُا ليُوهِنَهَا … فَلَمْ يَضِرْهَا ، وَأَوْهَى قَرنَهُ الوَعِلُ[19].

وَبَعْدُ ، يَا عَبْدَ الْحَمِيْدِ ، إِنِّي لَكَ نَاصِحٌ ، تُبْ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِمَّا وَقَعْتَ فِيْهِ مِنْ أَخْطَاءٍ عِظَامٍ قَبْل أَنْ يَفْجَأَكَ هَاذِمُ اللَّذَاتِ ، فَأَخْطَاؤُكَ خَطِيْرَةٌ ؛ لِأَنَّهَا فِيْ الْعَقِيْدَةِ ، وَأَعْلِنْ تَرَاجُعَكَ عَلَى الْمَلَأِ ، حَتَّى لَا تَتَحَمَّلْ أَوْزَارَ مَنْ إِلَى دُرُوْسِكَ ، وَمَقَاطِعَكَ اِسْتَمَعَ ، ثُمَّ اِتَّبِعْ ، وَلَا تَبْتَدِعْ ، وَالْزَمِ الْعُلَمَاءَ الْأَثْبَاتَ ، وَاحْذَرِ الْأَصَاغِرَ ، وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ ، وَاثْبُتْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَلْقَى اللهَ تَعَالَى وَأَنْتَ بِأَحْسَنِ حَالٍ .

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ مَنْ ضَلَّ عَنِ الصِّرَاطِ ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا سُبُلَ الْغِوَايَةِ ، وَالْهَلَاكِ ،

وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ، وَعَلَى آلِهِ ، وَصَحَابَتِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ،

وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ .   



([1]) وهو يتكلم عن حديث : “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد …” [رواه البخاري (1189) ، ومسلم (3364)] .

([2]) وهذا رابطها : [https://youtu.be/4nYBR-HdGt0] ، وردت هذه المسألة على الرابط السابق في الدقيقة : (10:44) ، وما بعدها .

([3]) “الإبانة الصغرى” ، ص : (92) .

([4]) “شرح صحيح مسلم” (9/106) .

([5]) “المغني” (2/100) .

([6]) رواه النسائي (1430) 

([7]) فتح الباري (3/65) .

([8]) “سبل السلام” (1/598) .

([9]) انظر : “فتاوى نور على الدرب” ؛ لسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله (2/207) .

 ([10]) انظر : “فتح الباري” (3/65) .

([11]) رواه البيهقي (3880) .

([12]) فيها رواة ضعفاء ، ومجاهيل ؛ كأيوب الهلالي ، ويزيد الرقاشي ، وغيرهم .

([13]) “الصاررم المنكي” ؛ لابن عبد الهادي ، بتصرف (253) ، (317-318) .

([14]) “غاية الأماني في الرد على النبهاني” (2/338-339) .

([15]) “هذه مفاهيمنا” ؛ للشيخ صالح آل الشيخ ، ص : (80) .

([16]) انظر : “فتاوى نور على الدرب” ؛ لسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله (2/105) .

([17]) “مجموع الفتاوى” ؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1/159) .

([18]) انظر : “ذيل طبقات الجنابلة” ؛ لابن رجب رحمه الله (4/497) .

([19]) من شعر الأعشى .

%d مدونون معجبون بهذه: