تَحْذِيْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَالْإِيْمَانِ مِنْ مَكْرِ ، وَخِدَاعِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ ، وَالنِّفَاقِ .
رَدٌّ عِلْمِيٌّ عَلَى كِتَابٍ يَحْتَفِي بِهِ الْمُبْتَدِعَةُ عِنْدَنَا -فِيْ هَذِهِ الْأَيَّامِ- يُرَوِّجُوْنَ لَهُ ؛ لِيُخَادِعُوْا بِهِ الْأَغْمَارَ ، وَأَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْجَهَلَةِ الرَّعَاعِ .
[الجزء الرابع]
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
(مُقَدِّمَةٌ)
في هذه الحلقة -وهي الرابعة- في الرد على كتاب ابن قديش اليافعي اليمني : “مَسَائِلُ فِيْ الْمَنْهَجِيَّةِ الْعَامَّةِ ؛ فِيْ الْعَقِيْدَةِ ، وَالْفِقْهِ ، وَالسُّلُوْكِ ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ ، وَالْمَاتُرِيْدِيَّةَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ …” ، فنقول ، وبالله التوفيق ،
(3)
الْبَيَانُ بِأَنَّ مَنْهَجَ السَّلَفِ فِيْ مَعَانِي صِفَاتِ اللهِ بَرِيٌ مِنَ التَّفْوِيْضِ ، وَالتَّأْوِيْلِ كُلَّ الْبَرَاءَةِ ؛ وَأَنَّهُ لَا يَمُتُّ لَهُمَا بِأَيِّ صِلَةٍ ، أَوْ عَلَاقَةٍ ، وَبَرِيْءٌ -أَيْضًا- مِنْ مَنْهَجِ الْـمُجَسِّمَةِ الْمُشَبِّهَةِ ؛ الَّذِي يَدَّعِيْهِ عَلَيْهِمْ -زُوْرًا ، وَبُهْتَانًا- أَهْلُ الْأَهْوَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ ،
– وفي هذه الفقرة سنبين فيها :
1] منهج السلف باختصار في صفات الله ، وأنه بريئ كل البراءة من منهج الأشاعرة ؛ تفويضًا ، وتأويلاً- ، وبريء -أيضًا- من منهج المجسمة المشبهة ،
2] وسنبين -كذلك – مدى الخيانة العلمية التي اتبعها المؤلف في كتابه آنف الذكر ، عندما سرد جملة من أقوال العلماء يظهر فيها لقرائه أن السلف قائلون بتفويض صفات الله ، وتأويلها ، والحقيقة أنها خلاف ذلك ،
فَأَمَّا مَنْهَجُ السَّلَفِ فِيْ صِفَاتِ اللهِ فهو إثباتها على الحقيقة كما جاءت في الكتاب ، والسنة ، إثباتًا بلا تشبيه ، وتنزيهاً بلا تعطيل ، وما جاء في الكتاب ، والسنة من بيان للصفات ؛ فهو من الكلام العربي ؛ ألفاظه ، ومعانيه ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، وهو أس البلاغة عند العرب ، وأساسها ، فهم يفهمون الكلام بمعانيه -فطرة- ، و”الله -جل ثناؤه- إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن بما يعرفون من لغاتهم ، ويستعملون بينهم من منطقهم في جميع آيه ، … ؛ لأن ذلك لو كان معدولًا به عن سبيل لغاتهم ، ومنطقهم كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عز وجل بها القرآن ، فقال تعالى ذكره : {نَزَل بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193] ، وأنى يكون مبينًا ما لا يعقله ، ولا يفقهه أحد من العالمين في قول قائل هذه المقالة ، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين في قوله ؟ وفي إخبار الله جل ثناؤه عنه أنه عربي مبين ما يكذب هذه المقالة ، وينبئ عنه أن العرب كانوا به عالمين ، وهو لها مستبين”[1].
قَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}[النساء:174] ،
وَقَالَ تَعَالَى : {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة :15] ،
وَقَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين}[يونس:57] ،
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : ألم يقل الله تعالى في كتابه : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران:5] ، والتي تقتضي أن هناك في القرآن ألفاظًا متشابهة ، لا يعرف معناها إلا الله؟
الْجَوَابُ : لا يوجد شيء في القرآن -ألبتة- شيء لا يُعرف معناه ، كل له معنى واضح ، بين ، والآية ليست واردة في الألفاظ ، وإنما هي واردة فيما تؤول إليه الأمور ، التي لا يعلمها إلا الله ، وهي غيبيات لا يعلم متى تقع إلا هو جل وعلا ؛ كقيام الساعة ، وظهور الدجال ، ونحو ذلك ، أو كيفيات من أمور الغيب لا يعلم كيف هي إلا هو سبحانه ، وتعالى ؛ ككيفية صفاته ، جل ، وعلا ،
يَقُوْلُ ابن قتيبة رَحِمَهُ اللهُ (ت:276ه) : “ولسنا ممن يزعم أنّ المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم ، وهذا غلط من متأوليه على اللغة ، والمعنى ، ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفـع به عباده ، ويدل به على معنـى أراده ، فلو كان الـمتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال ، وتعلق علينا بعلة ، وهل يجوز لأحد أن يقول : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه ؟! وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى : {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران: 7] جاز أن يعرفه الربَّانيون من صحابته ، فقد علَّمَ عليًّا -رضي الله عنه- التفسير ، ودعا لابن عباس -رضي الله عنه- ، فقال : «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيْلَ ، وَفَقِّهْهُ فِيْ الدِّيْنِ»[2]،…”[3].
وَيَقُوْلُ اِبْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:310ه) : “فقد تبين ببيان الله جل ذكره أن مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْقُرْآنِ على نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك تأويل جميع ما فيه ، من وجوه أمره ، وواجبه ، وندبه ، وإرشاده ، وصنوف نهيه ، ووظائف حقوقه ، وحدوده ، ومبالغ فرائضه ، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه ، … ، وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بتأويله ، بنص منه عليه ، أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله ، وَأَنَّ مِنْهُ ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار ؛ وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة ، وأوقات آتية ، كوقت قيام الساعة ، والنفخ في الصور ، ونزول عيسى ابن مريم ، وما أشبه ذلك ؛ فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها ، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها ، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه”[4]،
وَيَقُوْلُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ (ت:751) : “اللاأدرية” ؛ الذين يقولون : لا ندري معاني هذه الألفاظ ، ولا ما أريد منها ، ولا ما دلت عليه ، وهؤلاء ينسبون طريقتهم إلى السلف ، وهي التي يقول المتأولون إنـها أسلم ، ويحتجون عليها بقوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}[آل عمران:7] ، ويقولون : هذا هو الوقف التام عند جمهور السلف ، وهو قول أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وغيـرهم ؛ من السلف ، والخلف ، وعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء ، والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ، ولا الصحابة ، والتابعون لهم بإحسان ، بل يقرؤون كلامًا لا يعقلون معناه ، … وقول هؤلاء -أيضًا- باطل ؛ فــإن الله سبــحانه أمــر بتــدبر كتابه ، وتفهـمه ، وتعقــله ، وأخبـر أنه بيــان ، وهـدى ، وشفـاء لـمــا في الصدور ، وحاكم بين الناس فيمـا اختلفوا فيه ، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات ، والقدر ، والأفعال ، واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ، ولا هدى ، ولا شفاء ، ولا بيان … ، وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ؛ فإن التأويل في عرف السلف المراد به التأويل في مثل قوله تعالى : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف53] … فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به ، والمنهي عنه ؛ كما قال ابن عيينة : السنة تأويل الأمر ، والنهي”[5].
وصفات الله تحمل على الحقيقة ، لا على المجاز ؛ إجماعًا ، وأما الكيفية فلا يعلمها إلا الله ، وما خالف في ذلك إلا أهل الأهواء المبتدعة ،
قَالَ الْإِمَامُ إِسْمَاعِيْلَ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ الْمِصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:264ه) : “عال على عرشه -في مجده- بذاته ، وهو دان بعلمه من خلقه ، أحـاط علـمه بالأمـور ، وأنفذ في خلقه سابق المقدور ، وهو الجواد الغفور {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُوْرُ}[غافر:19] ، … ،
وبعد ما ذكر جملة من اعتقاد أهل السنة ،
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ : “هذه مقالات ، وأفعال اجتمع عليها الماضون الأولون ؛ من أئمة الهدى ، وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون ؛ قدوة ، ورضى ، وجانبوا التكلف فيما كفوا”[6].
وَقَالَ أَبُوْ عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ الْأَنْدَلَسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:429) : “وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى :{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}[الحديد:4]، ونحو ذلك من القرآن : بأن ذلك علمه ، وأن الله فوق السماوات بذاته ، مستو على عرشه ، كيف شاء ، وقال أهل السنة في قوله : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى}[طه:5] أن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة ، لا على المجاز ، فقد قال قوم من المعتزلة ، والجهمية : لا يجوز أن يسمى الله عز وجل بهذه الأسماء على الحقيقة”[7].
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “وقال أهل السنة في قوله : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى}[طه:5] أن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة ، لا على المجاز ، فقد قال قوم من المعتزلة ، والجهمية : «لا يجوز أن يسمى الله عزوجل بهذه الأسماء على الحقيقة ، ويسمى بها المخلوق» ، فنفوا عن الله الحقـائق مـن أسـمـائه ، وأثبتوها لخلقه ؛ فإذا سئلوا : ما حملهم على هذا الزيغ ؟ قالوا : «الإجتماع في التسمية يوجب التشبيه» !! قلنا : هذا خروج عن اللغة التي خوطبنا بها ؛ لأن المعقول في اللغة أن الاشتباه في اللغة لا تحصل بالتسمية ، وإنما تشبيه الأشياء بأنفسها ، أو بـهـيـئات فيهـا ؛ كالبيـاض بالبيـاض ، والسـواد بالسـواد ، والطويل بالطويل ، والقصير بالقصير ، ولو كانت الأسماء توجب اشتباها لاشتبهت الأشياء كلها ؛ لشمول اسم الشيء لها ، وعموم تسمية الأشياء به ، فنسألهم : أتقولون إن الله موجود ؟ فإن قالوا : «نعم» ، قيل لهم : يلزمكم على دعواكم أن يكون مشبهًا للموجودين ، وإن قالوا : «موجود ، ولا يوجب وجوده الاشتباه بينه ، وبين الموجودات» ، قلنا : فكذلك ؛ هو : حي ، عالم ، قادر ، مريد ، سميع ، بصير ، متكلم ؛ يعني : ولا يلزم اشتباهه بمن اتصف بهذه الصفات”[8].
وَيَقُوْلُ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:463) : ” أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن ، والسنة ، والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة ، لا على المجاز ؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ، ولا يحدون فيه صفة مـحصورة ، وأما أهل البدع ، والجهمية ، والمعتزلة كلها ، والخوارج ؛ فكلهم ينكرها ، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقر بها مشبه”[9].
وَيَقُوْلُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : “ وكذلك قولنا في وجهه تبارك ، وتعالى ، ويديه ، وسمعه ، وبصره ، وكلامه ، واستوائه ، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصفات ، وحـقائقها ؛ كما لـم يمنع ذلك من أثبت لله شيئًا من صفات الـكـمال ؛ من فهم معنى الصفة ، وتحقيقها ؛ فإن من أثبت له سبحانه السمع ، والبصر أثبتهما حقيقة ، وفهم معناهما ؛ فهكذا سائر صفاته المقدسة ، يجب أن تجري هذا المجرى ، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها ، وكيفيتها ؛ فإن الله سبحانه لم يكلف عباده بذلك ، ولا أراده منهم ، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا ، بل كثير من مخلوقاته ، أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلًا إلى معرفة كنهه ، وكيفيته ، وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان قد حجب عنهم معرفة كنهها ، وكيفيتها ، وجعل لهم السبيل إلى معرفتها ، والتمييز بينها ، وبين أرواح البهائم ، وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة ، وما في الجنة ، والنار ؛ فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان ، وشاهدته عقولهم ، ولم يعرفوا كيفيته ، وكنهه ؛ فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمر ، وأنهارًا من عسل ، وأنهارًا من لبن ، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ، ومادته ، وكيفيته ؛ إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب ، والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها ، واللبن إلا ما خرج من الضروع ، والحرير إلا ما خرج من فم دود القز ، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكـون مماثلًا لـما في الدنيا ؛ كما قال ابن عباس : «لَيْسَ فِيْ الدُّنْيَا مِمَّا فِيْ الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ»[10]، ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك ؛ فهكذا الأسماء ، والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ، ومثالها من فهم حقائقـها ، ومعانـيها …”[11]،
ومن أوضح نصوص الأئمة الصريحة ؛ والتي تبين أنهم يريدون حقيقة المعنى في نصوص صفات الله تعالى -بلا تأويل ، ولا تفويض ، ولا تشبيه ، ولا كيفية- ما جاء عنهم في صفتي : علو الله على خلقه ، وكلامه جل ، وعلا ؛ ففي :
صِفَةِ الْعُلُوِّ :
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ (ت:179ه) : “الله عز وجل في السماء ، وعلمه في كل مكان ، لا يخلو منه شيء ، وتلا هذه الآية : {مَا يَكُوْنُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ}[المجادلة: 7] ، وعظم عليه الكلام في هذا ، واستشنعه”[12].
وَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ (ت:181ه) – كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا عز وجل؟ قال : على السماء السابعة ، على عرشه ، ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا في الأرض”[13].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ (ت:241ه) -وقد سئل : الله عز وجل فوق السماء السابعة ، على عرشه ، بائن من خلقه ، وقدرته ، وعلمه في كل مكان ؟- قال : نعم ، على العرش ، وعلمه لا يخلو منه مكان”[14]،
وَقَالَ اِبْنُ بَطَّةَ العكبري رَحِمَهُ اللهُ (ت:387ه) : “أجمع المسلمون ؛ من الصحابة ، والتابعين ، وجميع أهل العلم من المؤمنين : أن الله تبارك وتعالى على عرشه ، فوق سمواته ، بائن من خلقه ، وعلمه محيط بجميع خلقه ، ولا يأبى ذلك ، ولا ينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية ، وهم قوم زاغت قلوبهم ، واستهوتهم الشياطين ، فمرقوا من الدين ، وقالوا : إن الله ذاته لا يخلو منه مكان“[15]،
وَفِيْ صِفَةِ الْكَلَامِ :
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى (ت:290ه) : “سألت أبي رحمه الله عن قوم يقولون : لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ؟ فقال أبي : بلى إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت”[16]،
وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:256ه) : “وإنَّ الله عزَّ وجلَّ ينادي بصوتٍ يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب ، فليس هذا لغير الله جل ذكره ، وفي هذا -يعني: حديث عبد الله بن أنيس المتقدم ذكره- دليل أنَّ صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ؛ لأنَّ صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأنَّ الملائكة يصعقون من صوته ؛ فإذا تنادى الملائكة ؛ لم يصعقوا”[17].
وَرَوَى الْخَلَّالُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت:311ه) بسنده ، عن صالح بن أحمد بن حنبل رحمهما الله ، قال : سمعت أبي ، والمعنى واحد ، يقول : “افترقت الجهمية على ثلاث فرق ، فرقة قالوا : القرآن مخلوق ، وفرقة قالوا : كلام الله ونسكت ، وفرقة قالوا : ألفاظنا مخلوقة” ، زاد صالح بن أحمد عن أبيه ، قال : “وقال الله في كتابه : {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة:6] ، فجبريل سمعه من الله عز وجل ، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل صلى الله عليه وسلم ، وسمعه أصحاب النبي من النبي ، فالقرآن كلام الله ، غير مخلوق”([18]).
وَيَقُوْلُ الْإِمَامُ أَبُوْ نَصْرٍ السِّجْزِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:444) : “ينبغي أن ينظر في كتب من درج ، وأخبار السلف ؛ هل قال أحد منهم : إن الحروف المتسقة التي يتأتى سماعها ، وفهمها ليست بكلام الله سبحانه على الحقيقة ؟ وأن الكلام غيرها ، ومخالف لها ، وأنه معنى لا يدرى ما هو ، غير محتمل شرحاً ، وتفسيراً ؟ فإن جاء ذلك عن أحد من الأوائل ، والسلف ، وأهل النحل قبل مخالفينا الكلابية ، والأشعرية عذروا في موافقتهم إياه ، وإن لم يرد ذلك عمن سلف من القرون ، والأمم ، ولا نطق به كتاب منزل ، ولا فاه به نبي مرسل ، ولا اقتضاه عقل عُلم جهل مخالفينا ، وإبداعهم ، ولن يقدر أحد في علمي على إيراد ذلك عن الأوائل ، ولا اتخاذه إياه دينًا ، في أثر ، ولا عقل … ، فقول خصومنا : إن أحداً لم يقل إن القرآن كلام الله حرف ، وصوت كذب ، وزور ، بل السلف كلهم كانوا قائلين بذلك ، وإذا أوردنا فيه المسند ، وقول الصحابة من غير مخالفة وقعت بينهم في ذلك صار كالإجماع”[19]،
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحابة ، والتابعين ومن بعدهم من أئمة السُّنَّة ؛ أنه سبحانه ينادي بصوت ؛ نادى موسى ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ، ويتكلم بالوحي بصوت ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال : إنَّ الله يتكلم بلا صوت ، أو بلا حرف ، ولا أنَه أنكر أن يتكلم الله بصوت ، أو بحرف ؛ كما لم يقل أحد منهم إن الصوت الذي سمعه موسى قديم ، ولا إن ذلك النداء قديم … ، وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت من الجهمية ، كما قال الإمام أحمد لما سئل عمن قال إن الله لا يتكلم بصوت ؟ فقال : هؤلاء جهمية ، إنما يدورون على التعطيل ، وذكر بعض الآثار المروية في أنه سبحانه يتكلم بصوت”[20]،
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “والنداء لا يكون إلا صوتًا مسموعًا ، ولا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع ؛ لا حقيقة ، ولا مجازًا”[21]،
وإثبات الصفات على حقيقتها لا يلزم منه تجسيم المشبهة ؛ لأن الله لا يشبهه شيء من خلقه ، فإنما يثبتون له ما أثبته لنفسه من صفات ، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتًا حقيقياً ، بلا تمثيل ، ولا تكييف ، ولا تحريف ، ولا تعطيل ، ومن سوى بين المعنى ، والكيفية فقد ضل سواء السبيل ، وما أتي أهل الأهواء -في هذا الباب خاصة- إلا من جهلهم ، أو تعصبهم ، وتقليدهم الأعمى ، وإلا فإن الصغير قبل الكبير -من أهل الفطر السوية النقية- يعلمون أن بين الخالق ، والمخلوق قدرًا مشتركًا من الألفاظ ؛ لكن للخالق معناه الذي يليق به ، وللمخلوق معناه الذي يليق به ؛ “فـإذا كان القـدر الـمشتـرك الذي اشتـركا فيـه صفة كمال ؛ كالوجود ، والحياة ، والعلم ، والقدرة ، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين ، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق ، لم يكن في إثبات هذا محذور أصلًا ، بل إثبات هذا من لوازم الوجود ، فـكل مـوجـودَين لا بد بينـهما مـن مثـل هـذا ، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجـود كل موجود ؛ ولهذا لما اطَّلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطِّلة … ، والمعاني التي يوصف بـهـا الـرب سبـحانه ، وتـعالـى ؛ كـالحيـاة ، والعـلم ، والـقدرة ، بـل الـوجود ، والـثبوت ، والحقيقة ، ونحو ذلك تجب له لوازمها ؛ فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم ، وخصائص المخلوق التي يجب تنزيـه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلًا ، بل تلك من لوازم ما يختص بالـمخلوق ؛ من وجود ، وحيــاة ، وعلم ، ونحو ذلك ، والله سبحانه ، وتعالى منزه عن خصائص المخلوق ، وملزومات خصائصه”[22]، “والمقصود هنا أن أهل السنة متفقون على أن الله ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، ولكن لفظ التشبيه في كلام الناس لفظٌ مجمل ، فإن أراد بنفي التشبيه ما نفاه القرآن ، ودل عليه العقل فهذا حق ، فإن خصائص الرب لا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته ، … ، وإن كان أراد بالتشبيه أنه لا يثبت لله شيء من الصفات ، فلا يقال له علم ، ولا قدرة ، ولا حياة ، لأن العبد موصوف بهذه الصفات ، فيلزم ألا يقال له : حي ، عليم ، قدير لأن العبد يسمى بهذه الأسماء ، وكذلك في كلامه ، وسمعه ، وبصره ، ورؤيته وغير ذلك”[23].
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُوْيَهْ رَحِمَهُ اللهُ (ت: 238ه) :”علامة جهم ، وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ، وما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة ، بل هم المعطلة ، ولو جاز أن يقال لهم هم المشبهة لاحتمل ذلك ، وذلك أنهم يقولون : إن الرب تبارك وتعالى في كل مكان بكماله في أسفل الأرضين ، وأعلى السماوات على معنى واحد ، وكذبوا في ذلك ، ولزمهم الكفر”[24].
وَقَالَ أَبُوْ زُرْعَةَ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت: 264ه) : “المعطلة النافية الذين ينكرون صفات الله عز وجل التي وصف الله بها نفسه في كتابه ، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويكذبون بالأخبار الصحاح التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات ، ويتأولونها بآرائهم المنكوسة ، على موافقة ما اعتقدوا من الضلالة ، وينسبون رواتها إلى التشبيه ، فمن نسب الواصفين ربهم تبارك وتعالى بما وصف به نفسه في كتابه ، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل ، ولا تشبيه إلى التشبيه فهو معطل نافٍ ، ويستدل عليهم بنسبتهم إياهم إلى التشبيه أنهم معطلة نافية”[25]،
وَقَالَ الْإِمَامُ الدَّارِمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:280ه) “فهذه الأحاديث قد جاءت كلها ، وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن ، وعلى تصديقها ، والإيمان بها أدركنا أهل الفقه ، والبصر من مشايخنا ، لا ينكرها منهم أحد ، ولا يمتنع من روايتها ، حتى ظهرت هذه العصابة الجهمية فعارضت آثار رسول الله برد ، وتشمروا لدفعها بجد ، فقالوا : «كيف نزوله هذا؟» ، قلنا : لم نُكلف معرفة كيفية نزوله في ديننا ، ولا تعقله قلوبنا ، وليس كمثله شيء من خلقه فنشبه منه فعلًا ، أو صفة بفعالهم ، وصفتهم”[26].
وَقَالَ اِبْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:311ه) : “وزعمت الجهمية -عليهم لعائن الله- أن أهل السنة ومتبعي الآثار ، القائلين بكتاب ربهم ، وسنة نبيهم صلّى الله عليه وسلّم ، المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله ، المثبت بين الدفتين ، وعلى لسان نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه مشبهةٌ ، جهلاً منهم بكتاب ربنا ، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وقلة معرفتهم بلغة العرب الذين بلغتهم خوطبنا ، … ، فاسمعوا الآن أيها العقلاء ، ما نذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب ، هل يقع اسم المشبهة على أهل الآثار ، ومتبعي السنن ؟!
نحن نقول ، وعلماؤنا جميعًا في جميع الأقطار : إن لمعبودنا عز وجل وجهاً ؛ كما أعلمنا الله في محكم تنزيله ، فذواه بالجلال ، والإكرام ، وحكم له بالبقاء ، ونفى عنه الهلاك ، ونقول : إن لوجه ربنا عز وجل من النور ، والضياء ، والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ، محجوب عن أبصار أهل الدنيا ، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية ، ونقول: إن وجه ربنا القديم لا يزال باقياً ، فنفى عنه الهلاك والفناء ، ونقول : إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك ، ونفى عنها الجلال ، والإكرام ، غير موصوفة بالنور ، والضياء ، والبهاء التي وصف الله بها وجهه ، تدرك وجوه بني آدم أبصار أهل الدنيا ، لا تحرق لأحد شعرة فما فوقها ، لنفي السبحات عنها ، التي بينها نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم لوجه خالقنا ، ونقول : إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة ، لم تكن ، فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة ، أوجدها بعد ما كانت عدماً ، وإن جميع وجوه بني آدم فانية ، غير باقية ، تصير جميعاً ميتاً ، ثم تصير رميماً ، ثم ينشئها الله بعد ما قد صارت رميماً ، فتلقى من النشور ، والحشر ، والوقوف بين يدي خالقها في القيامة ، ومن المحاسبة بما قدمت يداه ، وكسبه في الدنيا ما لا يعلم صفته غير الخالق البارئ ، ثم تصير إما إلى جنة ، منعمة فيها ، أو إلى النار معذبة فيها ، فهل يخطر يا ذوي الحجا ببال عاقل مركب فيه العقل ، يفهم لغة العرب ، ويعرف خطابها ، ويعلم التشبيه ، أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه ؟ وهل ها هنا أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا ، وبينا صفته من الكتاب ، والسنة بتشبيه وجوه بني آدم ، التي ذكرناها ، ووصفناها ؟ غير اتفاق اسم الوجه ، وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم ، كما سمى الله وجهه وجهاً ، ….
نحن نثبت لخالقنا جل وعلا صفاته التي وصف الله عز وجل بها نفسه في محكم تنزيله ، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم مما ثبت بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه ، ونقول كلاماً مفهوماً موزوناً يفهمه كل عاقل ، نقول : ليس إيقاع اسم الوجه للخالق البارئ بموجب عند ذوي الحجا ، والنهى أنه يشبه وجه الخالق بوجوه بني آدم ، قد أعلمنا الله جل وعلا في الآي التي تلوناها قبل أن الله وجهاً ذواه بالجلال ، والإكرام ، ونفى الهلاك عنه … ، ولو لزم -يا ذوي الحجا- أهل السنة ، والآثار إذا أثبتوا لمعبودهم يدين كما ثبتهما الله لنفسه ، وثبتوا له نفسًا عز ربنا وجل ، وإنه سميع ، بصير ، يسمع ، ويرى ، ما ادعى هؤلاء الجهلة عليهم أنهم مشبهة للزم كل من سمى الله ملكاً ، أو عظيماً ، ورؤوفاً ، ورحيماً ، وجباراً ، ومتكبراً أنه قد شبه خالقه عز وجل بخلقه ، حاشا لله أن يكون من وصف الله عز وعلا بما وصف الله به نفسه في كتابه ، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم مشبهاً خالقه بخلقه … “[27].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُوْ عُثْمَانَ الصَّابُوْنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:449ه) : “أصحاب الحديث -حفظ الله تعالى أحياءهم ، ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية ، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة ، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه ، وتنزيله ، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ، ونقلت العدول الثقات عنه ، ويثبتون له جل جلاله ما أثبته لنفسه في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه ، فيقولون : إنه خلق آدم بيديه كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل : {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:75] ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ؛ بحمل اليدين على النعمتين ، أو القوتين ؛ تحريف المعتزلة ، والجهمية -أهلكهم الله- ولا يكيفونهما بكيف ، أو شبهها بأيدي المخلوقين ؛ تشبيه المشبهة -خذلهم الله- وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة مـن التـحريـف ، والتـشبـيه ، والتـكيـيف ، ومـنَّ عليـهم بالتعريـف ، والتفهيم ، حتى سلكوا سبل التوحيد ، والتنزيه ، وتركوا القول بالتعطيل ، والتشبيه ، واتبعوا قول الله عز وجل : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى:11]”[28].
وَقَالَ قَوَّامُ السُّنَّةِ الْأَصْبَهَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:535ه) : “الكلام في صفات الله عز وجل ما جاء منها في كتاب الله ، أو روي بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمذهب السلف -رحمة الله عليهم أجمعين- إثباتها ، وإجراؤها على ظاهرها ، ونفي الكيفية عنها … ونقول : إنما وجب إثباتها -أي : الصفات- ؛ لأن الشرع ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11]”[29].
وأما كلامه عن : “الجسم” ، والجارحة” ؛ فهو ناقص ، غير تمام ، بل يظهر فيه لمز السلفيين ، أهل الإثبات بأنهم من المجسمة المشبهة ، والقول الفصل في ضبط هذه المسألة أن نقول : إن لفظ الجسم -ومثله لفظ : “الجارحة”- من الألفاظ المحدثة ، التي لم ترد في الكتاب ، ولا السنة ، وأما معناهـما فإنه مـجمل ، يـجب أن يتحقق من المراد منه من قبل القائل به ؛ فإن أراد به معنى باطلاً رد ، وإن أراد به معنى صحيحًا قبل[30]،
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:728ه) : “وأما الشرع ؛ فالرسل ، وأتباعهم الذين من أمة موسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يقولوا : إن الله جسم ، ولا إنه ليس بجسم ، ولا إنه جوهر ، ولا إنه ليس بجوهر ، لكن النزاع اللغوي ، والعقلي ، والشرعي في هذه الأسماء هو بما أحدث في الملل الثلاث ، بعد انقراض الصدر الأول …”[31]،
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “فيقال لمن سأل بلفظ الجسم : ما تعني بقولك ؟ أتعني بذلك أنه من جنس شيء من المخلوقات ؟ فإن عنيت ذلك ؛ فالله تعالى قد بين في كتابه : أنه لا مثل له ، ولا كفو له ، ولا ند له ، وقال : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل:17] ، فالقرآن يدل على أن الله لا يماثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فإن كنت تريد بلفظ الجسم ما يتضمن مماثلة الله لشيء من المخلوقات ، فالله منزه عن ذلك ، وجوابك في القرآن ، والسنة ، وإذا كان الله ليس من جنس الماء ، والهواء ، ولا الروح المنفوخة فينا ، ولا من جنس الملائكة ، ولا الأفلاك ، فلأن لا يكون من جنس بدن الإنسان ، ولحمه ، وعصبه ، وعظامه ، ويده ، ورجله ، ووجهه ، وغير ذلك ؛ من أعضائه ، وأبعاضه أولى ، وأحرى ، فهذا الضرب ، ونحوه مما قد يسمى تشبيهًا ، وتجسيمًا ، كله منتف في كتاب الله ، وليس في كتاب الله آية واحدة تدل ؛ لا نصًا ، ولا ظاهرًا على إثبات شيء من ذلك لله ، فإن الله إنما أثبت له صفات مضافة إليه ، كقوله : {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ، و:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين}[الذاريات:58] ، و{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:75] ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}[الرحمن:27] ، {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر:67] ، كما قال : {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب}[المائدة:116] ، ومعلوم أن نفس الله التي هي ذاته المقدسة الموصوفة بصفات الكمال ليست مثل نفس أحد من المخلوقين…
وإن عنيت بلفظ الجسم : الموصوف بالصفات القائم بنفسه المباين لغيره ، الذي يمكن أن يشار إليه ، وترفع إليه الأيدي فلا ريب أن القرآن قد أخبر أن الله له العلم ، والقوة ، والرحمة ، والوجه ، واليدان ، وغير ذلك ، وأخبر أنه إليه يصعد الكلم الطيب ، والعمل الصالح يرفعه ، وأنه : {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الأعراف:54] ، وأنه : {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}[المعارج:4] ، فالقرآن مملوء من بيان علوه على خلقه ، والصعود إليه ، والنزول منه ، ومن عنده ، وإثبات علمه ، ورحمته ، وغير ذلك من صفاته ، وإذا سميت ما هو كذلك جسمًا ، وسئلت : هل هم جسم ؟ كان الجواب : أن المعنى الذي سئلت عنه ، وأردته بهذا اللفظ قد بينه الله ، وأثبته في كتابه ، وأما إطلاق لفظ الجسم على الله : فهو كإطلاق الفلاسفة لفظ العقل ، ونحو ذلك ، وهذه العبارات في لغة العرب تتضمن معاني ناقصة ؛ ينزه الله عنها ، فالعقل هو المصدر ؛ الذي هو عرض ، والله سبحانه منزه عن ما هو فوق ذلك ، بل نفس تسميته عاقلًا ، ليس معروفًا في شرع المسلمين ، فقد تبين أن ما يعني بلفظ الجسم من تمثيل الله بخلقه ، ووصفه بالنقـائـص فقـد بيـن الله فـي كتابـه أنه منـزه عنه ، وما يعنـي به من إثبات أنه قائم بنفسه ، مباين لخلقه ، عال عليهم ، يرفعون إليه أيديهم عند الدعاء ، ويعرج إليه بنبيه ليلة الإسراء ، موصوف بصفات الكمال ، منزه عما يستلزم العدم ، والإبطال فقد بين الله في كتابه إثباته لنفسه ، فلا يقال : إنه ليس في القرآن جواب هذا السؤال …”[32].
وَقَدَ خَانَ الْمُؤَلِّفُ الْأَمَانَةَ عِنْدَمَا سَرَدَ جُمْلَةً مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ يُظْهِرُ فِيْهَا أَنَّ السَّلَفَ قَائِلُوْنَ بِتَفْوِيْضِ صِفَاتِ اللهِ[33]، وَتَأْوِيْلِهَا ، وَالْحَقِيْقَةُ أَنَّهَا خَلَافُ ذَلِكَ ، ومن المعلوم المتقرر عند الثقات ؛ أولي الإخلاص ، والنزاهة ، أنهم يردون المتشابهات من أقوال العلماء إلى المحكمات منها ، لتتجلى الحقيقة واضحة ، ولم يفعل المؤلف من ذلك شيئاً ، بل انتقى من أقوالهم المجملة انتقاءات توافق ما يهواه ، وتميل له نفسه الأمارة ، وأظهر للناس أن السلف عقيدتهم في صفات الله : التأويل ، أو التفويض ، وهذا -لعمر الله- كذب عليهم ؛ فـ:
مما أورده عنهم قولهم : “نمرها كما جاءت ، بلا كيف ، ولا معنى” ، فزعم المؤلف أن هذا منهم دليل على أنهم يفوضون الصفات ، وهذا -ولا ريب- زعم باطل ؛ فإن السلف رحمهم الله إنما أرادوا من قولهم : “نمرها كما جاءت ، بلا كيف ، ولا معنى” ؛ أي : إننا نؤمن بصفات الله ، ونصدق بـها ، ولا كيف ، ولا معنـى يـخالف ظاهرها ، على نحو ما أولت به الـمعطلة يد الله بالنعمة ، وكلامه بالكلام النفسي ، ونزوله بنزول أمره ، واستواءه على عرشه بالاستيلاء ، ونحو ذلك من نصوص الصفات ، بل نمرها كما جاءت ، وهذه النصوص إنما جاءت حين جاءت باللسان العربي المبين ، الفصيح ، المعقول ، المفهوم ، بخلاف كيفيته ، فإنه لا يعرف كيف هي صفات الله إلا الله ؛ هذا اعتقاد السلف ، ومن سار على طريقهم ، أما المخالفون ، المختلفون فقد عطلوها بـ: التعطيل ، أو التشبيه ، أو التأويل ، أو التفويض ، فضلوا عن سواء السبيل ، ومما يؤيد ما قلناه هنا :
قَوْلُ اِبْنِ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:276ه) : “الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله حيث انتهى في صفته ، أو حيث انتهى رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا نزيل اللفظ عمَّا تعرفه العرب ، وتضعه عليه ، ونمسك عمَّا سوى ذلك”[34].
وَقَوْلُ أَبِي طَاهِرٍ الْكَرْجِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت:489ه) : “وكل صفة وصف بها نفسه ، أو وصفه بها رسوله فهي صفة حقيقية لا مجازية”[35].
وَقَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيْلَ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّيْمِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:535ه) -وقد سئل عن صفات الله تعالى- فقال : “مذهب مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وحماد بن سلمة ، وحماد بن زيد ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وإسحاق بن راهويه : أن صفات الله التي وصف بـها نفسه ، أو وصفه بها رسوله ؛ من السمع ، والبصر ، والوجه ، واليدين ، وسائر أوصافه ، إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور ، من غير كيف يتوهم فيه ، ولا تشبيه ، ولا تأويل ، قال سفيان بن عيينة : «كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره» ، أي : على ظاهره ، لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل”[36]،
قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه ، وأنه لا يسكت عن بيانه ، وتفسيره ، بل يبين ، ويفسر باتفاق الأئمة ، من غير تحريف له عن مواضعه ، أو إلحاد في أسماء الله ، وآياته”[37].
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “والمنتسبون إلى السنة من الحنابلة ، وغيرهم الذين جعلوا لفظ التأويل يعم القسمين -يعني : النفي ، والإثبات في صفات الله تعالى- يتمسكون بما يجدونه في كلام الأئمة في المتشابه ؛ مثل قول أحمد -في رواية حنبل –«لا كيف ، ولا معنى» ، ظنُّوا أن مراده أنَّا لا نعرف معناها ، وكلام أحمد صريح بخلاف هذا في غير موضع ، وقد بين أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية ، ونحوهم الذين يتأولون القرآن على غير تأويله ، وصنف كتابه في : «الرد على الزنادقة ، والجهمية فيما أنكرته من متشابه القرآن ، وتأولته على غير تأويله» ، فأنكر عليهم تأويل القرآن على غير مراد الله ، ورسوله ، وهم إذا تأولوه يقولون : معنى هذه الآية كذا ، والمكيفون يثبتون كيفية ؛ يقولون : إنهم علموا كيفية ما أخبر به من صفات الرب ؛ فنفى أحمد قول هؤلاء ، وقول هؤلاء قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية ، وقول المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويقولون : معناه كذا ، وكذا”[38]،
ومن المحكمات في ذلك من أقوال الأئمة الأثبات -والتي يجب رد المتشابه إليها- ما تقدم في صفتي العلو ، والكلام[39]، ونزيد هنا ما :
قَالَ الْإِمَامُ أَبُوْ حَنِيْفَةَ رَحِمَهُ اللهُ (ت:150ه) : “وله يد ، ووجه ، ونفس ؛ كما ذكره الله تعالى في القرآن ، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه ، واليد ، والنفس فهو له صفات بلا كيف ، ولا يقال : إن يده قدرته ، أو نعمته ؛ لأن فيه إبطال الصفة ، وهو قول أهل القدر ، والاعتزال ، ولكن يده صفته ، بلا كيف ، وغضبه ، ورضاه صفتان من صفاته تعالى ، بلا كيف”[40].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ : “مَن قال : لا أعرف ربي ؛ في السماء ، أم في الأرض ، فقد كفر ، وكذا مَن قال : إنه على العرش ، ولا أدري العرش ؛ أفي السماء ، أم في الأرض”[41]،
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ (ت:179ه) ، –وقد سأله رجل ، فقال : يا أبا عبد الله ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[سورة طه:5] كيف استوى ؟- قال : “الكيف منه غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأظنك صاحب بدعة ، وأمر به فأخرج”[42].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ : “الله عز وجل في السماء ، وعلمه في كل مكان ، لا يخلو منه شيء ، وتلا هذه الآية : {مَا يَكُوْنُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ}[المجادلة:7]”[43].
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (ت:204ه) : “القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيت أصحابنا عليها ؛ أهل الحديث الذين رأيتهم ، وأخذت عنهم ؛ مثل : سفيـان ، ومالك ، وغيرهـما : الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأن اللهَ تعالى على عرشه ، في سمائه ، يقرب من خلقه كيف شاء ، وأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا ؛ كيف شاء”[44]،
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ (ت:241ه) -وقد سأله ابنه عبد الله عن قوم يقولون : لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ؟- فقال : بلى إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت”[45]،
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ -وقيل له : واللَّه تعالى فوق السماء السابعة ، على عرشه ، بائن من خلقه ، وقدرته ، وعلمه بكل مكان ؟- قال : نعم ، على عرشه ، لا يخلو شيء من علمه”[46]،
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ : -وقد سئل : ما تقول فيمن يقول : إن اللَّه ليس على العرش ؟- قال : كلامهم كله يدور على الكفر”[47].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ : “من زعم أن يديه نعمتاه فكيف يصنع بقوله : ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[ص:75] مشددة”[48].
وَأَمَّا مَا أَوْرَدَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ نُقُوْلٍ عَنِ السَّلَفِ -رحمهم الله تعالى- تبين أنهم يؤولون بعض الصفات ، فهذا منه من أبطل الباطل ، وذلك للأسباب التالية :
السَّبَبُ الْأَوَّلُ : ما تقدم من نقول مستفيضة عن السلف أنهم يجرون معاني الصفات على ظاهرها الحقيقي ، ويبدعون من عطَّلها ، أو حرَّف معانيها ، وهذا منهم إجماع ، وقد نقلنا إجماعهم في ذلك .
السَّبَبُ الثَّانِي : ما يعلم من أن بعض الآثار التي نقلت عن السلف في تأويل بعض الصفات ضعيف ؛ كضعف تفسير ابن عباس رضي الله عنه للكرسي بالعلم ، والإتيان بإتيان الأمر .
السَّبَبُ الثَّالِثُ : ما يعلم من السلف قد يفسرون الصفة بآثارها ، ودلالة اللازم منها ، بعد إثباتهم للمعنى الحقيقي ، وربما يكون هذا هو السبب في أن ابن عباس رضي الله عنه -وغيره من السلف- فسر الساق في قوله تعالى : {يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٍ}[القلم:42] بالشدة ؛ تفسير منهم للصفة باللازم ؛ لأن الأمر يوم القيامة يوم كرب ، وشدة .
السَّبَبُ الرَّابِعُ : ما يعلم من أن بعض ما فسره السلف -رحمهم الله تعالى – لا يدخل في باب الصفات ، ومن أمثلته : قوله تعالى : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47] ؛ فإن الأيد هنا ليس هو جمعًا لليد ، بل هو من الأَيْدِ ، والآدِ ؛ أي : القوة[49].
ومن أمثلته -أيضًا- ما جاء -في الآية السابقة- في قوله تعالى : {يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٍ}[القلم:42] ؛ فلعل ابن عباس رضي عنه -لما فسر الساق بالشدة- لم يعد الآية من آيات الصفات أصلاً ؛ وذلك لأنه لم يبلغه الحديث المصرح فيه أن الآية من آيات الصفات[50].
فهذه أسباب أربعة ، لا يخرج عنها – إن شاء الله- ما ادعاه المؤلف من أن السلف يؤولون صفات الله تعالى[51].
يَتْبَعُ …