تَحْذِيْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَالْإِيْمَانِ مِنْ مَكْرِ ، وَخِدَاعِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ ، وَالنِّفَاقِ .
رَدٌّ عِلْمِيٌّ عَلَى كِتَابٍ يَحْتَفِي بِهِ الْمُبْتَدِعَةُ عِنْدَنَا -فِيْ هَذِهِ الْأَيَّامِ- يُرَوِّجُوْنَ لَهُ ؛ لِيُخَادِعُوْا بِهِ الْأَغْمَارَ ، وَأَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْجَهَلَةِ الرَّعَاعِ .
[الجزء الخامس]
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
(مُقَدِّمَةٌ)
في هذه الحلقة -وهي الخامسة- في الرد على كتاب ابن قديش اليافعي اليمني : “مَسَائِلُ فِيْ الْمَنْهَجِيَّةِ الْعَامَّةِ ؛ فِيْ الْعَقِيْدَةِ ، وَالْفِقْهِ ، وَالسُّلُوْكِ ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ ، وَالْمَاتُرِيْدِيَّةَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ …” ، فنقول ، وبالله التوفيق ،
(4)
الْبَيَانُ بِأَنَّ أَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِيْنَ -وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ- أَطْهَارٌ أَنْقِيَاءُ مِمَّا يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْاِبْتِدَاعِ ؛ مِنْ أَنَّهُمْ مُوَافِقُوْنَ لَهُمْ فِيْ التَّوَسُّلَاتِ الْبِدْعِيَّةِ ، أَوِ الْاِسْتِغَاثَاتِ الشِّرْكِيَّةِ ، أَوْ فِيْ الثَّنَاءِ عَلَى الصُّوْفِيَّةِ ، أَوْ فِيْ تَفْوِيْضِ مَعَانِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ ، أَوْ فِيْ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ بِدَعِهِمْ الرَّدِيَّةِ ،
– وفي هذه الفقرة سنبين فيها :
1] حكم التوسل ، من حيث الجواز ، أو المنع ،
2] الجواب عن أقوال الأئمة الذين ادعى عليهم مؤلف الكتاب أنهم يجيزون التوسلات البدعية ،
أَمَّا حُكْمُ التَّوَسُّلِ ؛ فـ:
التوسل -كما هو معلوم- نوعان ، مشروع ، وممنوع ؛ والممنوع قسمان -أيضًا- : شركي ، وبدعي ، فـ:
أَمَّا التوسل المشروع ؛ فهو التقرب إلى الله تعالى بما شرعه في كتابه ، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ؛ كالتوسل بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، أو توسل الإنسان بعمله الصالح ، أو بدعاء الرجل الحي الصالح ، فهذا مشروع بإجماع ،
وَأَمَّا التوسل الشركي ؛ فهو التوسل بالأضرحة ؛ يدعو المتوسل أصحابها ، ويستغيث بهم في الشدائد ، ويتقرب إليهم بألوان من العبادات ؛ كالطواف ، والنذر ، والذبح وغير ذلك ، فهذا من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام ، وذلك لما فيه من عبادة غير الله تعالى ، ومنه : طلب الداعين من الأموات أن يشفعوا لهم عند ربهم .
وَأَمَّا التوسل الـمبتدع ؛ فهو التـوسل بـجـاه الرسـول صلى الله عليـه وسلم ، أو بـحقه ، أو بذاته ، أو بـجاه أحـد مـن الأنـبـيـاء ، أو الأولـياء ، والصـالـحين ، وأمثال ذلك ، فهذا بدعة ، ومن وسائل الشرك ؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز فعل شيء منها إلا ما دل عليه الشرع ،
وَمِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيْ ذَلِكَ :
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : “لفظ : «الوسيلة» ، و«التوسل» فيه إجمال ، واشتباه ، يـجب أن تـعرف مـعـانـيـه ، ويـعـطـى كـل ذي حـق حـقـه ، فـيـعـرف ما ورد به الكتاب ، والسنة من ذلك ، ومعناه ، وما كان يتكلم به الصحابة ، ويفعلونه ، ومعنى ذلك ، يعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ، ومعناه ، فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال ، والاشتراك في الألفاظ ، ومعانيها ، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب… ، وحينئذ فلفظ التوسل له معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة ، فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فـ:
أَحَدُهُمَا : هو أصل الإيمان ، والإسلام ، وهو التوسل بالإيمان به ، وبطاعته ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}المائدة:35]؛ أي : القربة إليه بطاعته ، وطاعة رسوله طاعته ، قال تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاع الله}[النساء:80] ، فهذا التوسل الأول هو أصل الدين ، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين .
وَالثَّانِي : دعاؤه ، وشفاعته كما تقدم -أي : التوسل بدعائه ، وشفاعته – كما قال عمر رضي الله عنه- فإنه توسل بدعائه لا بذاته ؛ ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس رضي الله عنه ، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس ، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته ؛ بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به ، والطاعة له فإنه مشروع دائمًا- فهذان جائزان ؛ بإجماع المسلمين …
وَالثَّالِثُ : التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته ، والسؤال بذاته -أي : نقسم عليك يا الله بنبيك محمد صلى لله عليه وسلم أن تنصرنا ، أو : نسألك أن تسقينا المطر بنبيم محمد صلى الله عليه وسلم- فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ، ولا بعد مماته ، لا عند قبره ، ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم ، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة ، وموقوفة ، أو عمن ليس قوله حجة … ، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه : إنه لا يجوز ، ونهوا عنه حيث قالوا : لا يُسأل بمخلوق ، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك”[1].
وَقَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيْزِ اِبْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ : “التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه تفـصيـل ، فإن كان ذلك باتبـاعه ، ومـحبـتـه ، وطـاعة أوامـره ، وترك نواهيه ، والإخلاص لله فـي العبادة ، فهــذا هـو الإســلام ، وهـو دين الله الذي بعث به أنبياءه ، وهو الواجب على كل مكلف ، وهو الوسيلة للسعادة في الدنيا ، والآخرة ، أما التوسل بدعائه ، والاستغاثة به ، وطلبه النصر على الأعداء ، والشفاء للمرضى ؛ فهذا هو الشرك الأكبر ، وهو دين أبي جهل ، وأشباهه من عبدة الأوثان ، وهكذا فعل ذلك مع غيره من الأنبياء ، والأولياء ، أو الجن ، أو الملائكة ، أو الأشجار ، أو الأحجار ، أو الأصنام ، وهناك نوع ثالث يسمى التوسل ، وهو التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم ، أو بحقه ، أو بذاته مثل أن يقول الإنسان : أسألك يا الله بنبيك ، أو جاه نبيك ، أو حق نبيك ، أو جاه الأنبياء ، أو حق الأنبياء ، أو جاه الأولياء ، والصالحين ، وأمثال ذلك ، فهـذا بدعة ، ومن وسائـل الشرك ، ولا يـجوز فعله معه صلى الله عليه وسلم ، ولا مع غيره ؛ لأن الله سبحانه ، وتعالى لم يشرع ذلك ، والعبادات توقيفية ، لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع المطهر“[2].
ومن التوسل الشركي طلب الداعين من الأموات أن يشفعوا لهم عند ربهم .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “ومنهم من يتأول قوله تعالى : «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا»[النساء:64] ، ويقولون : إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة ، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة ، والتابعين لهم بإحسان ، وسائر المسلمين ، فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ، ولا سأله شيئاً ، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم ، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء ، وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه ، … ، فهذه الأنواع من خطاب الملائكة ، والأنبياء ، والصالحين بعد موتهم عند قبورهم ، وفي مغيبهم ، وخطاب تماثيلهم هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب ، وفي مبتدعة أهل الكتاب ، والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك ، والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى ، قال الله تعالى : “أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ”[الشورى:21]”[3].
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “وقد كان جماعة يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويطلبون منه الرقية ، ويطلبون ذلك من بعض أصحابه ، وهذا وإن كان جائزًا لكن أولئك لا يسألون إلا الله ، فدرجتهم أعلى ، وأما بعد موته ، فلم يكن الصحابة يطلبون منه ما كانوا يطلبون منه في حياته ، لا من دعاء ، ولا من غير دعاء البتة ، ولا كان السلف في القرون الثلاثة يأتون إلى قبر أحدٍ من الأنبياء ، والصالحين ، يطلبون منه حاجة ، ولا دعاء ، ولا غيره ، ولا يسافرون إلى قبره ، بل إذا زاروا قبور المؤمنين كان مقصودهم الدعاء لهم ؛ كالصلاة على جنائزهم ، لا دعاؤهم ، ولا الدعاء بهم ، فتبين أن قول جـمهور العلماء الذين لا يستحبون أن يطلب منه بعد موته استغفار ، ولا غيره ، هو المشروع الذي كان عليه الصحابة ، وأيضًا ؛ فلو شرع أن يطلب من الميت الدعاء ، والشفاعة ، كما كان يطلب منه في حياته ؛ كان ذلك مشروعًا في حق الأنبياء ، والصالحين ، فكان يسن أن يأتي الرجل قبر الرجل الصالح ، نبيًّا كان ، أو غيره ، فيقول ادع لي بالمغفرة ، والنصر ، والهدى ، والرزق ، اشفع لي إلى ربك ، فيتخذ الرجل الصالح شفيعًا بعد الموت ، كما يفعل ذلك النصارى ، وكما تفعل كثير من مبتدعة المسلمين ، وإذا جاز طلب هذا منه جاز أن يطلب ذلك من الملائكة ، فيقال : يا جبريل ، يا ميكائيل ، اشفع لنا إلى ربك ، ادع لنا ، ومعلوم أن هذا ليس من دين المسلمين ، ولا دين أحد من الرسل ، لم يسنّ أحد من الأنبياء للخلق أن يطلبوا من الصالحين الموتى ، والغائبين ، والملائكة ، دعاء ، ولا شفاعة ، بل هذا أصل الشرك ، فإن المشركين إنما اتخذوهم شفعاء ، قال تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ»[يونس: 18] ، وقال: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ»[الأنعام: 94] ، وقال تعالى: «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى»[النجم: 26] ، وقال تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» [سبأ: 22-23] ، وقال : «وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ» [الأنعام: 51] ، وقال: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ» [السجدة: 4] ، وقال: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ»[يونس:3]”[4].
وَقَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيْزِ اِبْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ : “طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من غيره من الأموات لا يجوز ، وهو شرك أكبر عند أهل العلم ؛ لأنه لا يملك شيئاً بعدما مات عليه الصلاة والسلام ، والله يقول : «قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا» [الزمر: 44] ، الشفاعة ملكه سبحانه وتعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، وغيره من الأموات لا يملكون التصرف بعد الموت في شفاعة ، ولا في دعاء ، ولا في غير ذلك“[5].
وَقَالَ -أَيْضًا- رَحِمَهُ اللهُ : “طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من غيره من الأموات أمر لا يجوز ، وهو على القاعدة الشرعية ، من الشرك الأكبر ، لأنه طلب من الميت شيئًا لا يقدر عليه ، كما لو طلب منه شفاء المريض ، أو النصر على الأعداء ، أو غوث المكروبين ، وما أشبه ذلك ، فكل هذا من أنواع الشرك الأكبر ، ولا فرق بين طلب هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من الشيخ عبد القادر ، أو فلان ، أو فلان ، أو من البدوي ، أو من الحسين ، أو من غير ذلك ، طلب هذا من الموتى أمر لا يجوز ، وهو من أقسام الشرك ، وإنما الميت يترحم عليه إذا كان مسلمًا ، ويدعى له بالمغفرة ، والرحمة“[6].
سُئِلَ فَضِيْلَةُ الشَّيْخِ صَالِحٌ آلُ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ : من سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ، وأن يطلب له المغفرة من الله بعد موته هل هذا شرك ؟
فأجاب : “نعم هو شرك أكبر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعى بعد موته ، فطلب الدعاء من الميت ، وطلب الدعاء بالإغاثة ، أو الاستسقاء ، يعني أن يدعو الله أن يغيث ، أو أن يدعو الله أن يغفر أن يدعو الله أن يعطي ، ونحو ذلك ، هذا كله داخل في لفظ الدعاء ، والله عز وجل قال :{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[ الجن:18] والذي يقول : إن هذه الصورة وهي طلب الدعاء يخرج عن الطلب الذي به يكون الشرك شركًا ؛ فإنه ينقض أصل التوحيد كله في هذا الباب ، فكل انواع الطلب ، طلب الدعاء ؛ يعني طلب الدعاء من الميت ، طلب المغفرة من الميت ، أو طلب الإعانة ، أو نحو ذلك كلها باب واحد هي طلب ، والطلب دعاء ؛ فداخلة في قوله تعالى :{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[ المؤمنون:117] ، وفي قوله : {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}[فاطر:13] ، ونحو ذلك من الآيات ، فالتفريق مضاد للدليل ، ومن فهم من كلام بعض أئمتنا التفريق ، أو أن هذا طلب الدعاء من الميت أنه بدعة ، لا يعني أنه ليس بشرك ، بل بدعة شركية ؛ يعني : ما كان أهل الجاهلية يفعلونه ، وإنما كانوا يتقربون ليدعوا لهم ، لكن أن يطلب من الميت : هذا بدعة ، ما كانت أصلا موجودة ، لا عند الجاهلين ، ولا عند المسلمين ، فحدثت ؛ فهي بدعة ، ولا شك ، ولكنها بدعة شركية كفرية ، وهي معنى الشفاعة ، ما معنى الشفاعة التي من طلبها من غير الله فقد أشرك ؟ الشفاعة : طلب الدعاء ، طلب الدعاء من الميت هو الشفاعة”[7].
وَيَنْبَغِي التَّنْبِيْهُ -هُنَا- عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ :
الْأُوْلَى : قـد جـرى خـلاف بيـن أهـل العـلم فـي حــكم الـتـوســل بــذوات الأنبـيـاء ، والصـالـحيـن ، أو
بجاههم ؛ فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه ؛ والصواب مع من منعه ؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه رضوان الله عليهم ، وهو وسيلة موصلة إلى الشرك .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ :”والسائل لله بغير الله ؛ إما أن يكون مقسمًا عليه ، وإما أن يكون طالبًا بذلـك السبـب ؛ كمـا تـوسل الثلاثة في الغار بأعمالـهم ، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء ، والصالحين ، فإن كان إقسامًا على الله بغيره : فهذا لا يجوز ، وإن كان سؤالا بسبب يقتضى المطلوب ؛ كالسؤال بالأعمال التي فيها طاعة الله ، ورسوله ، مثل السؤال بالإيمان بالرسول ، ومحبته ، وموالاته ، ونحو ذلك : فهذا جائز ، وإن كان سؤالا بمجرد ذات الأنبياء ، والصالحين : فهذا غير مشروع ، وقد نهى عنه غير واحد من العلماء ، وقالوا : إنه لا يجوز ، ورخص فيه بعضهم ، والأول أرجح كما تقدم ؛ وهو سؤال بسبب لا يقتضى حصول المطلوب ،
بخلاف من كان طالبًا بالسبب المقتضى لحصول المطلوب ؛ كالطلب منه سبحانه بدعاء الصالـحين ، وبالأعمال الصالحة فهذا جائز ، لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دَعَوا به ، وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا ، وإذا توسلنا بدعائهم وأعمالنا : كنا متوسلين إليه تعالى بوسيلة ، كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}[المائدة:35] ، والوسيلة هي الأعمال الصالحة ، وقال تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}[الإسراء:57] ، وأما إذا لـم نتوسل إليه سبحـانـه بدعائـهم ، ولا بأعمالنا ، ولكن توسلنا بنفس ذواتهم لم يكن نفس ذواتهم سببًا يقتضى إجابة دعائنا ، فكنا متوسلين بغير وسيلة ، ولهذا لم يكن هذا منقولًا عن النبي صلى الله عليه و سلم نقلًا صحيحًا ، ولا مشهورًا عن السلف“[8]،
وَقَالَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ آلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ : “وأما التوسل بجاه المخلوقين ؛ كمن يقول : اللهم إني أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، ونحو ذلك ، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر العلماء على النهي عنه ، وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى أنه بدعة ؛ إجماعًا ، ولو كان الأنبياء ، والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه ، وتعالى فلا يقتضى ذلك جواز التوسل بذواتهم ، وجاههم ؛ لأن الذي لـهم من الجاه ، والدرجات أمر يعـود نفعه إليهم ، ولا ننتفع من ذلك إلا باتباعنا لهم ـ ومحبتنا لهم ، والله المجازي لنا على ذلك”[9].
وَسُئِلَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَنٍ آلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ عن دعاء الزائر بقوله : يا ربنا ، بحرمة نبيك ، ووليك ، اقض حاجتي … إلخ ؟
فأجاب :
“هذا من التوسل بذوات الأموات ، وهو من البـدع الـمنكرة ، والـذرائـع الـموصلة إلى الشرك ؛ ولذلك لم يفعله أحد ؛ من الخلفاء الراشدين ، ولا من الصحابة ؛ فلو كان حقاً لسبقونا إليه ، فإنهم أعظم الناس سبقاً إلى كل خير ، فتركهم ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم مع قربهم من قبره يدل على أنه من البدع التي يجب تركها”[10].
وَسُئِلَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ لِلْإِفْتَاءِ بِرِئَاسَةِ سَمَاحَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيْزِ بْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ عن حكم دعاء الله عند الأضرحة والقبور ؟
فأجابت :
“دعاء الله عند الأضرحة ، والقبور بدعة ، وهو من وسائل الشرك ؛ لأن تحري دعاء الله عند القبور وسيلة إلى الشرك بالله ؛ لإفضائه إلى دعاء الأموات ، ولهذا أنكر علي بن الحسين عـلى الرجــل الذي كان يـأتـي إلى فـرجة عنـد قبـر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتحرى الدعاء عندها ، وساق له حديث النبـي صلى الله عليه وسلم ، وقال : ألا أحدثكم حديثًا سـمعته من أبي ، عن جدي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا ، وَلا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا ، وَصَلُّوا عَليَّ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُم يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُم»[11]، فإذا كان هذا فيمن يتحرى الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف بغيره من الناس”[12].
الثَّانِيَةُ : لما تكلم المؤلف عن التوسل ، وأحكامه ، وخلاف العلماء فيه احتال بحيل عدة ؛
الْحِيْلَةُ الْأُوْلَى : أورد نوع التوسل الشركي ؛ لكنه قال فيه : هو عبادة غير الله ؛ الذي هو عمل المشركين القدامى ، وأخرج التوسل الشركي المتأخر ، وصورته : أن يأتي الرجل إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم -أو غيره- طالباً منه الشفاعة ، وتفريج الكربات[13]،
الْحِيْلَةُ الثَّانِيَةُ : لما جعل التوسل بذوات الأنبياء ، والصالحين من المختلف فيه جعل من أمثلته الطلب من الأموات الشفاعة ، وهذا -كما مر بنا- شرك أكبر[14]، وإنما المثال الذي ينطبق عليه أن يقول الداعي : أسألك يا رب بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، أو بجاهه ، أو أسألك بالولي فلان ، أو بجاهه ، أو نحو ذلك .
الْحِيْلَةُ الثَّالِثَةُ : أظهر للقراء بعبارات -ملتوية- أن التوسل بالذوات أمر متفق عليه بين أئمة المذاهب ، ولم يخالف فيه إلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وبعض العلماء المتأخرين[15]، يدل على هذا ما نقله عن التقي السبكي[16]، والحق -أن هذا النوع من التوسلات- لم يمنعه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقط ، بل منعه غيره من العلماء ، ومن أقوالهم في ذلك :
قَالَ أَبُوْ بَكْرٍ بْنُ مَسْعُوْدٍ الْكَاسَانِيُّ الْحَنَفِيُّ : “ ويكره للرجل أن يقول في دعائه : أسألك بحق أنبيائك ، ورسلك ، وبحق فلان ؛ لأنه لا حق لأحد على الله سبحانه ، وتعالى جل شأنه”[17].
وَقَالَ اِبْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : “الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز ، فكيف على الخالق ؟! … ، ولهذا قال أبو حنيفة ، وصاحباه رضي الله عنهم : يكره أن يقول الداعي : أسألك بحق فلان ، أو بحق أنبيائك ، ورسلك ، وبحق البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، …”[18]،
وَقَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْهَادِي الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ -معلقاً على القصة التي رويت عن مالك ، لما سأله أبو جعفر المنصور ، وقال : يا أبا عبد الله ، أأستقبل القبلة ، وأدنو ، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : «ولم تصرف وجهك عنه ، وهو وسيلتك ، ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى إلى يوم القيامة ؟ بل استقبله ، واستشفع به ، فيشفعك الله»- قال : “ذكرها القاضي عياض ، ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه ، وقد ذكر المعترض -يعني السبكي- فـي موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد ، وهو مـخطىء في هذا القول خطأ فاحشًا ، بل إسنادها إسناد ليس بجيد ، بل هو إسناد مظلم منقطع ، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب ، وعلى من يجهل حاله ، وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي ، وهو ضعيف كثير المناكير ، غير محتج بروايته ، ولم يسمع من مالك شيئًا ، ولم يلقه ، بل روايته عنه منقطعة ، غير متصلة ، وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرج لهم في صحيح مسلم ، قال : فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك ، وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشًا ووهم وهمًا قبيحًا ، فإن محمد بن حميد المعمري رجل متقدم ، لم يدركه يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، راوي الحكاية عن ابن حميد ، بل بينهما مفازة بعيدة ، وقد روى المعمري عن هشام بن حسان ، ومعمر الثوري ، وتوفي سنة اثنتي وثمانين ومائة قبل أن يولد يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، وأما محمد بن حميد الرازي فإنه في طبقة الرواة عن المعمري … ، وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية من غير واحد من الأئمة ، ونسبه بعضهم إلى الكذب”[19]،
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ السَّلَفِيِّيْنَ ، والذي ادعى عليهم مؤلف الكتاب أنهم يذهبون إلى جواز التوسل بالذوات ، فهو كالآتي ؛
أمَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ ، فكلامه بالمنع واضح وضوح الشمس ، لكن المؤلف كعادته يبحث عن المتشابهات -غير الصريحة- من أقوال الآئمة ، ويـخرجها ، ولا يردها إلى الـمحكمات من أقوالهم ، ومن ذلك ما نقله عن ابن كثير ، وابن رجب ، وابن عبد الهادي رحمهم الله أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال : “لا يُستغاثُ إلا بالله ، لا يُستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبادة ، ولكن يتوسل به ، ويستشفع به إلى الله ، فبعض الحاضرين قال : ليس عليه في هذا شيء”[20]،
وَلِلْجَوَابِ عَلَى هَذَا أَقُوْلُ :
أَوَّلًا : ما نقل عن شيخ الإسلام رحمه الله ليس هو من قوله بلسانه ، بل هو منقول عنه بالمعنى ، خاصة إذا علمنا أن المصادر المنقول منها كلامه -آنف الذكر- هي كتب التراجم ، والسير ، والتي في العادة يتساهل أصحابها في ذكر أسانيد ما يروونه فيها .
ثَانِيًا : يحمل قوله -إن صح عنه- أنه :
يُرِيْدُ بالتوسل التوسل المشروع ؛ وهو التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم ، لا بذاته ،
وَيُرِيْدُ بالاستشفاع به صلى الله عليه وسلم الاستشفاع المشروع -أيضًا- وهو : طلب الشفاعة من الله ، بأن يدعو الْمُسْتَشْفِعُ رَبَّهُ بأن يُشَفِّعَ فيه نبيه صلى الله عليه وسلم ، أما أنه يريد بالاستشفاع سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة بعد وفاته ، فهذا شرك أكبر ، وقد تقدم النقل عنه -رحمه الله- بتحريم ذلك[21]، وأنه شرك أكبر .
أَوْ تَكُوْنُ العبارة -من أصلها- مرادًا بها ما كان يفعله الصحابه -رضي الله عنهم- به صلى الله عليه وسلم في حياته ؛ يسألونه أن يدعو الله تعالى لهم بأدعية مختلفة ، سقيا المطر ، أو الصحة في البدن ، أو نحو ذلك ،
وَعَلَى كُلٍّ فكلام شيخ الإسلام رحمه الله -فيما كتب ، وقرر في هذه المسألة- محكم واضح ، فلا حاجة لنا أن ندخل في مضايق لا داعي للدخول فيها ، وأما أهل الأهواء فلن نخلص من تشغيباتهم ، والله يتولاهم .
وأَمَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ : فسأنقله بتمامه ، وأتكلم عليه بما فيه الفائدة إن شاء الله :
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ : “العاشرة : قولهم في الاستسقاء : لا بأس بالتوسل بالصالحين ، وقول أحمد : يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، مع قولهم : إنه لا يستغاث بمخلوق ، فالفرق ظاهر جدًا ، وليس الكلام مما نحن فيه ؛ فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين ، وبعضهم يـخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ، ويكرهه ، فهذه المسألة من مسائل الفقه ، ولو كان الصواب عندنا : قول الجمهور : إنه مكروه ، فلا ننكر على من فعله ؛ ولا إنكار في مسائل الاجتهاد ، لكن إنكارنا على من دعا لمخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى ، ويقصد القبر ؛ يتضرع عند ضريح الشيخ عبد القادر ، أو غيره ، يطلب فيه تفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، وإعطاء الرغبات ، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصًا له الدين ، لا يدعو مع الله أحدًا ، ولكن يقول في دعائه : أسألك بنبيك ، أو بالمرسلين ، أو بعبادك الصالحين ، أو يقصد قبر معروف ، أو غيره يدعو عنده ، لكن لا يدعو إلا الله مخلصًا له الدين ، فأين هذا مما نحن فيه ؟”[22].
فالشيخ الإمام رحمه الله -من خلال مقولته السابقة- يفرق بين أمرين ، ويوازن بين مسألتين : مسألة التوسل بذوات الصالحين ، وبين الاستغاثة بهم ، وذكر أن :
مَسْأَلَةَ التوسل بذوات الصالحين قد ورد فيها خلاف ؛ والصواب المنع ، وهو قول الجمهور .
وَأَمَّا الاستغاثة بغير الله ؛ فهي شرك أكبر مخرج من الملة ، ولا خلاف في ذلك .
فهوَّن -رحمه الله- من المسألة الأولى مقارنة بالثانية ؛ فالأولى مكروهة -كراهة تحريم- والثانية كفر مخرج من الملة .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ في مسألة التوسل بالجاه ، والذات : “فهذه المسألة من مسائل الفقه … فلا ننكر على من فعله ؛ ولا إنكار في مسائل الاجتهاد” : فهذه الجملة التي تشبث بها المبتدعة ؛ لينفذوا من خلاله إلى مرادهم السيء ، وكلامه رحمه الله -على حسب ما أفهمه من سياقه- يشمل أمرين :
الْأَوَّلُ : التخطئة ،
الثَّانِي : الإنكار ،
فَالتَّخْطِئَةُ ؛ هي أن تقول بعد أن يجتهد مجتهد ما -في المسائل الاجتهادية الفقهية- : قد أخطأ فلان في اجتهاده ، ولا نتابعه عليه ، ويدل على ذلك قوله -نفسه- رحمه الله : “وليس الكلام مما نحن فيه ؛ فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالـحين ، وبعضهم يـخصه بالنبـي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ، ويكرهه ، فهذه المسألة من مسائل الفقه ، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور : إنه مكروه” ، وهذا واضح ، بل على المفتي المعين ألا يكتفي بالتخطئة ، يجب عليه أن يفتي الناس بخلاف ما ذهب إليه القائل بالجواز ، قائلاً لمن يستفتيه : إن ما قاله ذلك العالم يعتبر من المحرمات ، فاحذروا أن تتابعوه عليه .
أَمَّا الْإِنْكَارُ ؛ فهي درجة أعلى من التخطئة ، وهو تخطئة ، وزيادة ، وهذه تكون في المسائل القطعية ، التي لا خلاف فيها ؛ فنقول لفاعل المنكرات القطعية ؛ كالشرك ، ونحوه من الكبائر ، قد أخطأت ، وكفرت ، أو فسقت ، وفعلك يوجب العقوبة ، ويجب على من كان له الولاية أن يعاقبه .
فمراد الشيخ بقوله السابق -والله أعلم- هو : الإنكار الذي بمعنى العقوبة ، في مسائل الشرك ، والكفر ؛ ومسألة التوسل بالذوات لم تصل إلى حد الشرك ، فاكتفى بالتخطئة ؛ لأنها من المسائل الاجتهادية ، والله أعلم .
ويوضح ذلك ما قاله :
شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : “وأما القسم الثالث مما يسمى “توسلًا” ، فلا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا يحتج به أهل العلم – كما تقدم بسط الكلام على ذلك- وهو الإقسام على الله عز وجل بالأنبياء ، والصالحين ، أو السؤال بأنفسهم ؛ فإنه لا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ثابتًا لا في الإقسام ، أو السؤال به ، ولا في الإقسام ، أو السؤال بغيره من المخلوقين ، وإن كان في العلماء من سوغه ؛ فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى عنه ؛ فتكون مسألة نزاع كما تقدم بيانه ؛ فيرد ما تنازعوا فيه إلى الله ، ورسوله ، ويبدي كل واحد حجته ؛ كما في سائر مسائل النزاع ، وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين ، بل المعاقب على ذلك معتد جاهل ظالم ؛ فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء ، والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه ؛ لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة ، وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله ؛ لا بالأنبياء ولا بغيرهم ؛ كما سبق بسط الكلام في تقرير ذلك”[23].
وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ -وغيره من الأئمة المتبوعين -مما ظاهره القول بجواز التوسل بذوات الصالحين- فيحمل على “أنه أراد : إني أسألك بإيماني به ، وبمحبته ، وأتوسل إليك بإيماني به ، ومحبته ، ونحو ذلك ، … ، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف -كما نقل عن بعض الصحابة ، والتابعين ، وعن الإمام أحمد ، وغيره- كان هذا حسنًا ، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع”[24]،
وَعَلَى هَذِهِ الْمَحَامِلِ -ونحوها- نحمل ما أورده المؤلف من نقول عن العلماء تجيز التوسل[25]، والاستشفاع به صلى الله عليه وسلم ، أما التوسل الذي بمعنى سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة بعد موته ؛ فهذا -كما قدمنا- توسل شركي ، والأئمة الأثبات ، والمجتهدون الكبار لم يجيزوا هذا النوع من التوسل ، بل عدوه من الشرك الأكبر ، والله أعلى ، وأعلم .
وَبَعْدُ ،
ما كان سلفنا الكرام ، ولا من تبعهم بإحسان -والحمد لله- ليقرروا فعلات المتصوفة الشركية ، والبدعية ، من توسلات ، واستغاثات ، ولم يكونوا ليصححوا عقائدهم المخالفة في صفات الله ، من تفويض ، أو تأويل ، بل ردوها ، وأبانوا الحق في كل مخالفة تصدر من مخالفيهم بياناً شافيًا ، كافياً ، نافعًا ؛ فرحمهم الله رحمة واسعة .
يَتْبَعُ …
([4]) قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام ، والإيمان ، وعبادات أهل الشرك ، والنفاق ، ص : (120) .
([13]) انظر الكتاب : ص (83) ، وما بعدها ، لما نقل أمثلة للتوسل المشروع ، والمختلف فيه عن علماء المذاهب .