“الرَّدُّ الْعِلْمِيُّ الْمُخْتَصَرُ”
رُدُوْدٌ عِلْمِيَّةٌ مُخْتَصَرَةٌ ، أَتَنَاوَلُ فِيْهَا -أُسْبُوْعِيًّا- كِتَابًا ، أَوْ مَقَالًا ، أَوْ مُحْتَوًى مِنْ مُحْتَوَيَاتِ شَبَكَاتِ التَّوَاصُلِ ؛ مِمَّا يُنْتِجُهُ الْمُخَالِفُوْنَ ؛ سَوَاءً كَانُوْا مُبْتَدِعَةً مُحْدِثِيْنَ ، أَوْ لِيِبْرَالِيِّيْنَ ضَالِّيْنَ ، أَوْ مَنْ جَانَبَهُ الصَّوَابُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُوَحِّدِيْنَ .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِيْنَ ، وَعَلَى آلِهِ ، وَصَحَابَتِهِ ، وَالتَّابِعِيْنَ … أَمَّا بَعْدُ :
الرَّدُّ الرَّابِعُ :
عَلَى نَقْلٍ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- أُسِيْءَ فَهْمُهُ .
النَّاقِلُ ، وَالْمُعَلِّقُ : أَحَدُ الْمَشَائِخِ الْأَحَسْائِيَّيْنَ الْمُعَاصِرِيْنَ .
-(1)-
وَسَأَعْرِضُ النَّقْلَ -هُنَا- ثُمَّ تَعْلِيْقَ هَذَا الشَّيْخِ ، ثُمَّ سأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ بِمَا يُيَسِّرُ اللهُ تَعَالَى :
– قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ : “وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ مِنْ الرَّافِضَةِ ، وَالْجَهْمِيَّة ، وَغَيْرِهِمْ إلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ ؛ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ ، وَصَارُوا مُسْلِمِينَ مُبْتَدِعِينَ ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا”[1].
– وَقَدْ عَلَّقَ الشَّيْخُ الْأَحْسَائِيُّ عَلَى كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ السَّابِقِ فَقَالَ :
“شَيْخُ الْإِسْلَامِ يَقُوْلُ عَنِ الرَّافِضَةِ ، وَالْجَهْمِيَّةِ : مُبْتَدِعِيْنَ ، مُسْلِمِيْنَ” .
الْجَوَابُ ، وَالرَّدُّ :
1] لِهَذَا الشَّيْخِ الْأَحْسَائِيِّ طُلَّابٌ ، وَمُتَابِعُوْنَ كُثُرٌّ ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَهُمْ بِنَقْلِهِ -الَّذِيْ نَقَلَ ، ثُمَّ تَعْلِيْقِهِ- فِيْ خَلَلٍ مَنْهَجِيٍّ ، وَاِرْتِيَابٍ ، وَحَيْرَةٍ ؛ فـ:
أَمَّا النُّبَهَاءُ مِنْهُمْ ؛ فَسَيَقُوْلُوْنَ : كَيْفَ يَكُوْنُ هَذَا ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ لشَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ أَقْوَالًا فِيْهَا التَّكْفِيْرُ الصَّرِيْحُ لِهَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ ؛ الرَّافِضَةِ ، وَالْجَهْمِيَّةِ ، وَنَعْلَمُ عَنْهُمْ -أَيْضًا- أَنَّهُمْ وَقَعُوْا فِيْ كُفْرِيَّاتٍ صَرِيْحَةٍ ، مُجْمَعٍ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ فَمِنْ كُفْرِيَّاتِ الرَّافِضَةِ شِرْكُهُمْ بِاللهِ ، وَمِنْ كُفْرِيَّاتِ الْجَهْمِيَّةِ قَوْلُهُمْ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ؟!! .
وَأَمَّا الْمُبْتَدِئُوْنَ مِنْهُمْ ؛ فَسَيَأْخُذُوْنَ تَعْلِيْقَ شَيْخِهِمْ -فِيْمَا فَهِمَهُ مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ- عَلَى إِطْلَاقِهِ ، وَسَيَقَعُوْنَ فِيْ مَغَبَّةِ التَّقْلِيْدِ الْأَعْمَى .
2] التَّكْفِيْرُ لَهُ أُصُوْلُهُ ، وَضَوَابِطُهُ ، فَمَنْ لَمْ يَضْبِطْهَا فَسَيَقَعُ -حَتْمًا- فِيْ مَزَلَّةٍ خَطِيْرَةٍ ؛ إِمَّا فِيْ التَّكْفِيْرِ الْغَالِي ، أَوِ فِيْ الْإِرْجَاءِ الْجَافِي ، وَالْوَسَطُ حَسَنَةٌ بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ ،
3] وَالتَّحْقِيْقُ الْعِلْمِيُّ فِيْ نُقُوْلِ الْعُلَمَاءِ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ ؛ وَالَّتِي يُرَى فِيْ ظَاهِرِهَا التَّعَارُضُ ؛ بِأَنْ نَجْمَعُهَا أَوَّلًا ، لِنَعْرِفَ ، وَنَتَحَقَّقُ مِنْ مُرَادِهِمْ مِنْهَا ؛ وَذَلِكَ بالتَّفْصِيْلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ، وَحَمْلِ الْمُطْلَقَاتِ عَلَى الْمُقَيَّدَاتِ ، ثُمَّ نُنَزِّلَهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةِ بِهَا ، وَالَّتِي تَنْتَظِمُهَا قَوَاعِدِهِمُ السَّلَفِيَّةُ الْمَعْرُوْفَةُ ، أَمَّا أَنْ تُنْقَلَ عِبَارَاتٌ -مِنْ هُنَا ، وَهُنَاكَ- بِلَا تَحْقِيْقٍ ، وَلَا تَدْقِيْقٍ ؛ فَهَذَا خَطَأٌ عِلْمِيٌّ بَيِّنٌ ، نَرْبَأُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّيْخِ الْأَحْسَائِيِّ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ ،
وَمَا أَجْمَلَ مَا قَالَهُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ -فِيْ هَذَا الشَّأْنِ-:
فَعَلَيْكَ بِالتَّفْصِيْلِ وَالتَّمْيِيْزِ فَالْإِ … طْلَاقُ ، وَالْإِجْمَالُ دَوْنَ بَيَانِ
قَدْ أَفْسَدَا هَذَا الْوُجُوْدَ ، وَخَبَّطَا الْـ … أَذْهَانَ ، وَالْآرَاءَ كُلَّ زَمَانِ[2].
4] فَمِنْ أَقْوَالِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِيْ تَكْفِيْرِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ ،
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ فِيْ شَأْنِ الرَّافِضَةِ -وقد سُئِلَ : عَمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ ، وَمَلَائِكَتِهِ ، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَقَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى إمَامَتِهِ ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ ظَلَمُوهُ ، وَمَنَعُوهُ حَقَّهُ ، وَأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ ، فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ ؟ وَيَكْفُرُونَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ أَمْ لَا ؟-
فَأَجَابَ :
“وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا عَيْنُ الْكَذِبِ ؛ بَلْ كَفَرُوا مِمَّا جَاءَ بِهِ بِمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ ؛ فَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ ، وَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِمَعَانِي التَّنْزِيلِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَمَا لَمْ نُذْكَرْهُ مِنْ مَخَازِيهِمْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ مُـخَالِفٌ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّـدًا صَـلَّى اللَّهُ عَلَيْـهِ وَسَـلَّمَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ فـِي كِتَابِهِ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَـابَةِ ، وَالرِّضْوَانِ عَلَيْهِمْ ، وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِحَقِيقَتِهِ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ ، وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ ، وَبِـطَاعَـةِ أُوْلـِي الْأَمْـرِ مَـا هُـمْ خَارِجُـونَ عَنْـهُ ، وَذَكَرَ فـِي كِتَابِـهِ مِـنْ مُـوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمُوَادَّتِهِمْ ، وَمُؤَاخَاتِهِمْ ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ مَا هُمْ عَنْهُ خَارِجُونَ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ ، وَمُوَادَّتِهِمْ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَحْرِيمِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمْوَالِهِمْ ، وَأَعْرَاضِهِمْ ، وَتَحْرِيمِ الْغِيبَةِ ، وَالْهَمْزِ ، وَاللَّمْزِ مَا هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ اسْتِحْلَالًا لَهُ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْـرِ بِالْجَمَاعَةِ ، وَالْاِئْتِلَافِ ، وَالنَّـهْـيِ عَـنْ الْفُرْقَةِ ، وَالِاخْتِـلَافِ مَـا هُـمْ أَبْعَـدُ النَّــاسِ عَنْـهُ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَحَبَّتِهِ ، وَاتِّبَاعِ حُكْمِهِ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ حُقُوقِ أَزْوَاجِهِ مَا هُمْ بَرَاءٌ مِنْهُ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ ، وَإِخْلَاصِ الْمُلْكِ لَهُ ، وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلْمَقَابِرِ ؛ الَّتِي اُتُّخِذَتْ أَوْثَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ ، وَصِفَاتِهِ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ ، وَلَا تَحْتَمِلُ الْفَتْوَى إلَّا الْإِشَارَةَ الْمُخْتَصَرَةَ”[3].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ –فِيْ شَأْنِ الْجَهْمِيَّةِ- : “الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد ، وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة ، وَهُمْ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِ الرَّحْمَنِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْكِتَابِ ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ جُحُودُ الصَّانِعِ ؛ فَفِيهِ جُحُودُ الرَّبِّ ، وَجُحُودُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى ، وَلَا نَسْتَطِيـعُ أَنْ نَـحْكِيَ كَـلَامَ الْـجَهْمِـيَّة ، وَقَـالَ غَيْـرُ وَاحِدٍ مِـنْ الْأَئِمَّةِ : إنَّـهُمْ أَكْـفَرُ مِـنْ الْيَهُـودِ ، وَالنَّصَارَى ؛ يَـعْنُونَ مِـنْ هَذِهِ الْـجِهَةِ ، وَلِـهَذَا كَـفَّـرُوا مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فـِي الْآخِرَةِ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْـسَ عَلَـى الْعَـرْشِ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَـهُ عِلْمٌ ، وَلَا قُدْرَةٌ ، وَلَا رَحْمَةٌ ، وَلَا غَضَبٌ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ“[4].
5] فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ أَقْوَالِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- السَّابِقَةِ ، فِيْ الْحُكْمِ عَلَى الرَّافِضَةِ ، وَالْجَهْمِيَّةِ ، وَالَّتِي يُرَى فِيْ ظَاهِرِهَا التَّعَارُضُ ، فَأَقُوْلُ :
الْأَمْرُ فِيْهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- سَهْلٌ مَيْسُوْرٌ ؛ فَـ:
– هُمْ كُفَّارٌ حَيْثُ قَامَ فِيْهِمْ مُقْتَضَى الْكُفْرِ ، وَلَيْسُوْا بِكُفَّارٍ إِذَا سَلِمُوْا مِنْ مُوْجِبَاتِ الْكُفْرِ ،
– أَوْ هُمْ كُفَّارٌ تَكْفِيْرَ نَوْعٍ ، وَلَيْسُوْا بِكُفَّارٍ تَكْفِيْرَ عَيْنٍ ؛ حَتَّى تَتَوَفَّرَ فِيْهِمْ شُرُوْطٌ مَعْدُوْدَةٌ ، وَمَوَانِعُ مَذْكُوْرَةٌ ؛ فِيْ مُكَفِّرَاتٍ مَعْرُوْفَةٍ ؛ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَالٌ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مَأْثُوْرَةٌ ، فَمِنْ أَقْوَالِهِ فِيْ ذَلِكَ :
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ : “فَإِذَا كَانَ الْخَلِيْفَتَانِ الرَّاشِدَانِ ؛ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَجْلِدَانِ حَدَّ الْمُفْتَرِيِ مَنْ يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، أَوْ مَنْ يُفَضِّلُ عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، مَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّفْضِيْلِ لَيْسَ فِيْهِ سَبٌّ ، وَلَا عَيْبٌ عُلِمَ أَنَّ عُقُوْبَةَ السَّبِّ عِنْدَهُمَا فَوْقَ هَذَا بِكَثِيْرٍ .
فَصْلٌ ، فِيْ تَفْصِيْلِ الْقَوْلِ فِيْهِمْ :
أَمَّا مَنْ اِقْتَرَنَ بِسَبِّهِ دَعْوَى أَنَّ عَلِيًّا إِلَهٌ ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ هُوَ النَّبِيُّ ، وَإِنَّمَا غَلِطَ جِبْرِيْلُ فِيْ الرِّسَالَةِ ؛ فَهَذَا لَاشَكَّ فِيْ كُفْرِهِ ، بَلْ لَاشَكَّ فِيْ كُفْرِ مَنْ تَوَقَّفَ فِيْ تَكْفِيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ نَقَـصَ مِنْـهُ آيَـاتٌ ، وَكُتِـمَتْ ، أَوْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ تَأْوِيْلَاتٍ بَاطِنَةً تُسْقِطُ الْأَعْمَالَ الْمَـشْرُوْعَةَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ الْقَرَامِطَةَ ، وَالْبَاطِنِيَّةَ ، وَمِنْهُمْ التَّنَاسُخِيَّةُ ، وَهَؤُلَاءِ لَا خِلَافَ فِيْ كُفْرِهِمْ ، وَأَمَّا مَنْ سَبَّهُمْ سَبًّا لَا يَقْدَحُ فـِيْ عَدَالَتِـهِمْ ، وَلَا فِيْ دِيْنِهِمْ ؛ مِثْلُ وَصْفِ بَعْضِـهِمْ بِالْبُخْـلِ ، أَوِ الْجُبْنِ ، أَوْ قِلَّةِ الْعِلْمِ ، أَوْ عَدَمِ الزُّهْدِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيْبَ ، وَالْتَّعْزِيْرَ ، وَلَا نَحْكُمُ بِكُفْرِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ”[5].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ –أَيْضًا- : “وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّوْعِ ، وَالْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا حَكَى طَائِفَةٌ عَنْهُمْ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يَفْهَمُوا غَوْرَ قَوْلِهِمْ ؛ فَطَائِفَةٌ تَحْكِي عَنْ أَحْمَد فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ رِوَايَتَيْنِ مُطْلَقًا ؛ حَتَّى تَجْعَلَ الْخِلَافَ فِي تَكْفِيرِ الْمُرْجِئَةِ ، وَالشِّيعَةِ الْمُفَضِّلَةِ لِعَلِيِّ ، وَرُبَّمَا رَجَّحَتْ التَّكْفِيرَ ، وَالتَّخْلِيدَ فِي النَّارِ ، وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ أَحْمَد ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ ، بَلْ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : «الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ» ، وَلَا يُـكَـفِّرُ مَـنْ يُـفَضِّلُ عَـلِيًّا عَـلَى عُثْـمَـانَ ، بَـلْ نُـصُـوصُهُ صَرِيـحَـةٌ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ تَكْفِيرِ الْخَـوَارِجِ ، وَالْقَدَرِيَّةِ ، وَغَيْـرِهِمْ ، وَإِنَّـمَا كَـانَ يُكَفِّرُ الْجَهْمِيَّـة الْـمُنْكِرِينَ لِأَسْمَـاءِ اللَّهِ ، وَصِفَـاتِهِ ؛ لِأَنَّ مُنَاقَضَةَ أَقْوَالِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ ؛ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلُ الْخَالِقِ ، وَكَانَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِمْ ، حَتَّى عَرَفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ ، وَأَنَّهُ يَدُورُ عَلَى التَّعْطِيلِ ، وَتَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة مَشْهُورٌ عَنْ السَّلَفِ ، وَالْأَئِمَّةِ ، لَكِنْ مَا كَانَ يُكَفِّرُ أَعْيَانُهُمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَدْعُو إلَى الْقَوْلِ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يَقُولُ بِهِ ، وَاَلَّذِي يُعَاقِبُ مُخَالِفَهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يَدْعُو فَقَطْ ، وَاَلَّذِي يُكَفِّرُ مُخَالِفَهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يُعَاقِبُهُ ، وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِينَ كَانُوا مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ يَقُولُونَ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَيَدْعُونَ النَّاسَ إلَى ذَلِكَ ، وَيَمْتَحِنُوْنَهُمْ ، وَيُعَاقِبُونَهُمْ إذَا لَمْ يُجِيبُوهُمْ ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ ، حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَمْسَكُوا الْأَسِيرَ لَمْ يُطْلِقُوهُ حَتَّى يُقِرَّ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَلَا يُوَلُّونَ مُتَوَلِّيًا ، وَلَا يُعْطُونَ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إلَّا لِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ ، وَمَعَ هَذَا فَالْإِمَامُ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لِمَنْ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ لِلرَّسُولِ ، وَلَا جَاحِدُونَ لِمَا جَاءَ بِهِ ، وَلَكِنْ تَأَوَّلُوا فَأَخْطَئُوا ، وَقَلَّدُوا مَنْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ”[6].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ –أَيْضًا- :”ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا لِلْخَلِيفَةِ ، وَغَيْرِهِ ؛ مِمَّنْ ضَرَبَهُ ، وَحَبَسَهُ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ ، وَحَلَّلَهُمْ مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ ؛ مِنْ الظُّلْمِ ، وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ ، وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَفَّارِ لَا يَجُوزُ بِالْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ، وَالْأَعْمَالُ مِنْهُ ، وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوا الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة ؛ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بِهِ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ ؛ فَأَمَّا أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ؛ فَفِيهِ نَظَرٌ ، أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّفْصِيلِ ؛ فَيُقَالُ : مَنْ كَفَّرَهُ بِعَيْنِهِ ؛ فَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ ، وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ ، وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ بِعَيْنِهِ ؛ فَلِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ هَذِهِ ، مَعَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِالتَّكْفِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ”[7].
-(2)-
وَبَعْدُ ، فَـ:
يَا إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَحَقَّقُوْا ، وَدَقِّقُوْا فِيْمَا تَقُوْلُوْنَ ، أَوْ تَنْقُلُوْنَ ؛ كُنَّا بِالْأَمْسِ نَتْقِدُ أَهْلَ الْاِبْتِدَاعِ فِيْ اِسْتِخْدَامِهِمُ الْمُشْتَبِهَاتِ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَتَرْكِهِمُ الْمُحْكَمَاتِ ، وَالْيَوْمَ نَرَى إِخْوَانَنَا -عَجَلَةً مِنْهُمْ- يَقَعُوْنَ فِيْمَا اِنْتَقَدْنَا أُوْلَئِكَ عَلَيْهِ ، فَلِمَاذَا هَذَا مِنْكُمْ ، هَدَاكُمُ اللهُ ، وَأَصْلَحَكُمْ ؟!
فَأَرْجُوْ أَنْ يَكُوْنَ مَا وَقَعَ مِنْكُمْ -هُنَا- كَبْوَةَ فَارِسٍ ، أَوْ هَفْوَةَ عَالِمٍ ، اِحْذَرُوْا ، ثمَّ اِحْذَرُوْا أَنْ تَقَعُوْا فِيْ مِثْلِهَا ،
وَإِنْ تَسَنَّى لَكُمْ أَنْ تَسْتَدْرِكُوْا ، وَتُبَيِّنُوْا ، فَهُوَ الْمُنْبَغِي مِنْكُمْ ، وَالْأَحْرَىَ ،
عَفَا اللهُ عَنَّا ، وَعَنْكُمْ ، وَغَفَرَ لَنَا ، وَلَكُمْ ، “اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ ، وَمِيكَائِيلَ ، وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ ، وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ، إِنَّكَ أَنْتَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا الْأَمِيْنِ ، وَآلِهِ ، وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِيْنَ .